“أسوأ من هزيمة موهاكس”.. المعركة التي سحق فيها العثمانيون أقوى جيوش أوروبا

هل سمعتَ يومًا بالمثل المَجَري «أسوأ من هزيمتنا في موهاكس»، أو حتى ماهية الظرف الذي يستحق وصفه بهذه العبارة عند المجريين؟ السطور التالية ستروي لك حكاية ولادة هذا المثل المتشائم في أذهان الشعب المجري، وماذا تستحضر خيالاتهم عند ذكره.

«إنه من سليمان وإنه بِسم الله الرحمن الرحيم»

قبل أكثر من 400 عام، وبالتحديد في 11 من ذي القعدة 932هـ ( 1526م) ، بعث سلطان الدولة العثمانية سليمان القانوني، رَسُوله إلى مَلك المجر وزعيم أوروبا آنذاك فِيلاد يسلاف الثاني؛ كي يأخذ الجزية من بلاده باعتبارها تخضع لنفوذ الدولة، لكن ملك المجر رد على الرسالة المروسة بـ«إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم» -كما كان يبتدأ السلطان سليمان مراسلاته الخارجية-، بذبح رسول الدولة العثمانية، معلنًا العداء لها.

كانت هذه الأحداث تدور في العام الأول لتولي السلطان الشاب سليمان مقاليد الحكم العثماني خلفًا لأبيه سليم خان، وقد غرّ ملوك أوروبا بالسلطان الشاب، وأعلنت أوروبا وفي مقدمتها المجر نقض كل العهود مع الدولة العثمانية، استخفافًا به. وقد سبق فعل الملك المجري الذي جاهر بإعلان الحرب ضد الدولة العثمانية، إرهاصات تنم عن مكيدة ترسمها أوروبا للدولة العثمانية.

إذ كّثف ملوك أوروبا تحالفاتهم، مع المجر وجيشها الذي كان أحد أقوى جيوش أوروبا، لتتحالف مملكة إسبانيا التي كانت تعيش أوج قوتها تحت سلطة شارل الخامس الذي تمكن من بسط نفوذه على البرتغال، وألمانيا، وهولندا، والنمسا، وأخيرًا، المجر لتكون حاجزًا صلد أمام الدولة العثمانية، وكانت إسبانيا تملك أقوى الجيوش الأوربية وأكثرها كفاءة وقدرة على القتال، وتنظر إليها الدولة العثمانية على أنها مارد يهدد وجودها، ويجب إعادتها متفرقة.

كانت الدولة العثمانية تراقب هذه التطورات التي كانت تقدح شرار الحرب بتدرج، لمّا وصل السلطان سليمان الخبر، انتفض من مكانه صارخًا: «أيقتل سفير الدولة العثمانية وأنا حي! غدًا تعلم أوروبا عاقبة أمرها»، ليصدر السلطان العاشر للدولة العثمانية، أوامره بالتجهيز للرد على مقتل سفيره وغزو المجر، وإخضاعها للدولة العثمانية كما كانت.

المدافع كلمة السر

كانت أوروبا، تستعد مسبقًا للحرب مع الدولة العثمانية، وهو ما فسره فعل ملك المجر، وحين وصل خبر استعداد الدولة العثمانية للحرب، أعلن بابا الفاتيكان كليمنت السابع الذي أوعز لملك المجر بقتل الرسول العثماني، حالة النفير العام في أرجاء أوروبا للحرب مع سليمان القانوني، وأصدر قرارًا تشجيعيًا: «منح صك الغفران لكل جندي يشارك بهذه المعركة».

وجرى تكوين أكبر حلف عسكري لـ«الإمبراطورية الرومانية المقدسة» يضم: إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، النمسا،هولندا، بلجيكا، سويسرا، لوكسمبورغ، ومناطق واسعة في فرنسا، وأراض أوروبية أخرى ومملكة المجر التي تشمل المجر وسلوفاكيا وترانسيلفانيا و(هي رومانيا الحالية) إضافة لشمال صربيا، ومملكة بوهيميا (وهي جمهورية التشيك الحالية)، ومملكة كرواتيا، ومملكة بولندا، وإمارة بافاريا الألمانية: وهي ولاية البايرن الألمانية، وجهزوا جيشًا من خيرة فرسان أوروبا وبأكثر الأسلحة تطورًا.

على الجانب الآخر، كان السلطان سليمان قد أصدر أوامره بتجهيز الجيش كاملًا، قُدر عدده بـ100 ألف مقاتل، مدعومًا بما يزيد عن 350 مدفعًا، و800 سفينة.

اجتمع السلطان مع وزرائه لبحث خطة الجيش، وكانت خطة الصدر الأعظم الوزير إبراهيم باشا هي موضع النقاش، إذ أعدّ الوزير باشا الخطَّة الحربيَّة الكاملة لِسير المعركة، وقد استندت إلى تغيير تكتيك الجيش المعتمد في الحروب السابقة؛ إذ قسم الجيش لـثلاثة صفوف، ورفد الخط الأمامي للجيش بالقوات «الإنكشارية» وهم النخبة، ثم تأتي الفرسان الخفيفة وقوات المشاة في الصف الثاني، بينما في مؤخرة الخطة، يتمركز السلطان والقناصة وقوات المدفعية.

وكانت تطبق خطة الاستدراج للجيش العثماني لجيش أوروبا، على النحو التالي: تصمد القوات الانكشارية والفرسان في نقطة الالتحام مع الجيش الخصم، حتى تأتي إشارة الاستدراج، فينشطر صفي القوات العثمانية، إلى الجانبين ويهربون في تقهقر مموه إلى نقطة محددة، فيندفع الخصم دون دراية خلفهم لملاحقتهم، ظنًا أنهم هزموا، إلى أن يدخلوا مرمى المدافع والقناصة المتمركزة في مؤخرة الجيش، فتحصدهم.

حال الاستعداد ذاتها كانت تعيشها أوروبا، ممثلة في مملكة المجر، التي حشدت ما يفوق 200 ألف فارس كان منهم أكثر من 35 ألف فارس مدرع بشكل كامل بالحديد.

إلى موهاكس

وفي يوم 11 رجب 932هـ (23 أبريل (نيسان) 1526م) ، انطلق السلطان بجيشه من إسطنبول إلى وادي موهاكس موقعة النزال ومواجهة جيش أوروبا، الذي يبعد عن بودابست عاصمة المجر، ما يزيد عن 170 كم إلى الجنوب منها و185 شمال غربي بلجراد.

وخلال طريق الجيش العثماني لبلجرلد، استولى على قَلْعة «بترفارادين» بعد مقاومة 13 يومًا، ثمَّ عبر نهر الدانوب مفتتحًا عدَّة قلاعٍ حربيَّة على النهر، وبعد 128 يومًا من خروج الحملة، وصل الجيش العثماني إلى وادي موهاكس، فسارع جيش أوروبا بقيادة مَلِك المجَر لملاقاته.

وقف الجيشان ينظران إلى بعضهما، وقد رأى السلطان السليمان، جيش أوروبا بأعداده المهولة، يتقدم صفوفه قرابة 35 ألف جندي مدرع تمامًا بالحديد، فجال بين جنوده يشحذ فيهم العزيمة، وينادي بالشجاعة، وقد قال لازمته التاريخية التي أبكت جنوده فجر يوم 29 من أغسطس (آب) 1526م: «إن روح رسول الله تنظر إليكم وتطوف بينكم»، فيما كان قسيسين أوروبا، يستنهضون بشعاراتهم كذلك الروح الدينية والقتالية، لجنودهم.

عقب صلاة العصر من هذا اليوم، حدثت «الملحمة»، وهجم المجريون على الجيش العثماني، وقد استطاعت القوات في مقدمة الجيش تنفيذ أوامر السلطان سليمان القانوني، والصمود في القتال لمدة ساعة واحدة، وأبادوا القوات الأوروبية المدرعة الذين كانوا بمثابة القوة الضاربة للأوروبيين، بشكل شبه كامل، إضافة إلى عدد كبير من من الفرسان الخفيفة، إلى أن جاءت إشارة التقهقر وتطبيق الخطة، ففتح الجيش صفوفه بانتظام، ليفر من في المقدمة إلى الأجناب.

وصار قلب الجيش العثماني مفتوحًا، أمام القوات الأوروبية، وقد بدت القوات العثمانية تفر من أمامهم، فظنوا أنهم هزموا، وابتلعوا الخدعة العسكرية، إذ اندفعوا بشراسة مرة واحدة نحو قلب القوات العثمانية، حتى وجدوا أنفسهم وجهًا لوجه أمام المدافع العثمانية والقناصة، وقد فتحت نيرانها عليهم من كل النواحي، ولمدة زمنية قدرت حوالي ساعة، قضت على كامل الجيش الأوروبي، دون مقدرة على الهرب.

«لا أسرى.. قاتل أو تذبح حيًّا»

استمرَّت المعركة لساعتين على أقصى تقدير، أصبح خلالهما الجيش المجري في ذمة التاريخ، غرق معظم جنوده في مستنقعات وادي موهاكس، ومعهم الملك فيلاد يسلاف الثاني ومجموعة من الأساقفة، وقادة كبار، وأراد من تبقى من الجيش الأوروبي الاستسلام ؛ فكان قرار السلطان سليمان: لا أسرى! وأخذ الجنود العثمانيون يناولون من يريد الأسر من الأوروبيين سلاحه ليقاتل أو يذبح حيًا، لكنه كان قتال الميئوس، وانتهت المعركة بمقتل ملك المجر، ومجموعة من الأساقفة والقادة الكبار.

كانت نتيجة صاعقة؛ أفضل جيوش أوروبا، هزم في معركة لم تزد عن الساعتين زمنيًا، وبخسائر قليلة من الجيش العثماني، إذ قدر أعداد القتلى العثمانيين بالمئات، إضافة إلى بضعة آلاف جريح، مقابل أوروبا التي خسرت مجموعة من قادتها الكبار، والمجر التي أبيد نصف سكانها تقريبًا.

كتب المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثماني»، معلقًا على نتائج المعركة: «إنَّ هذه المعركة لهي أكبرُ حروب الإبادة النموذجيَّة والكلاسيكية في التاريخ، استمرَّت الحربُ ساعة ونصف ساعة فقط، وفي نهاية هذه المدَّة أصبح الجيشُ المجرِي الذي عاش 637 سنة في ذِمَّة التاريخ».

فتح السلطان سليمان بعد المعركة مباشرة بلاد المجر، وعيَّن جان زابولي أمير ترانسلفانيا ملكًا للبلاد. ضاع استقلال المجر بعد هزيمة جيشها، وعاد السلطان سليمان، إلى إسطانبول في نوفمبر (تشرين الثاني) 1526م؛ وقد عدّل ميزان أوروبا لصالح الدولة العثمانيَّة.

ظل أثر المعركة مغروسًا في ذاكرة المجريين، ونتيجة لفظاعتها، ولّد في أذهانهم المثل الشعبي المتشائم «أسوأ من هزيمتنا في موهاكس» يضربونه كلما تعرضوا لحادثة أو موقف مروع، فتستحضر أذهانهم ما تعرض له جيشهم من إبادة في الزمن السحيق، قبل أكثر من 400 عام.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن