ألمانيا تجد طريقها لنادي الكبار من بوابة السياسة والاقتصاد واللاجئين

اللاجئين

في خضمّ العجز الأوروبي الذي يظهر حيال التعامل مع القضايا التي تعصف بالقارة العجوز، وكانت آخرها أزمة الديون اليونانية وغياب رؤية عملية موحّدة للتعامل مع قضية اللاجئين، برز الدور الألماني اللافت في مواجهة هذه الملفات، ما وضع برلين في موقع اللاعب الأساسي سياسياً واقتصادياً. وبعدما كان لبرلين الدور الأهم في إيجاد “حلول” لمصلحة الدائنين للأزمة اليونانية، ها هي المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تأخذ وحكومتها المبادرة في ملف اللاجئين، واضعة الجميع أمام مسؤولياتهم بقرار عدم إعادة اللاجئين السوريين، ممن عُطّلت إقامتهم بسبب بصمة الدول الموقّعة على “معاهدة دبلن”، والتي شملت أيضاً القادمين الجدد، ممن يحملون بصمة دول معاهدة “دبلن”.

وتنص معاهدة دبلن، على أنّ الدولة الأولى التي يطأها اللاجئ في دول الاتحاد الأوروبي، تكون هي المسؤولة عن ملف لجوئه، ولا يحقّ له تقديم طلب لجوء في دولة أخرى. وفي حال تقديمه طلب لجوء إلى دولة أخرى، يتم ترحيله.

في المقابل، يرى مراقبون أنّ البعد الإنساني في هذا الملف، تخطّى الجانب الاقتصادي والأمني، وخصوصاً أنّ المصالح الفردية ظهرت إلى العلن. وصل الأمر إلى حدّ تبادل الاتهامات والخوف من الانفتاح على العالم الخارجي، على الرغم من أنّ بعض هذه الدول مرشّح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبعضهم الآخر يستفيدون من أموال الاتحاد. وتقف حجج عدة وراء هذا الأمر، منها الاختباء وراء التزامهم بالقيم الأوروبية، بينما ربطت بعض الدول قبولها باللاجئين، بحسب طائفتهم، كاستقبال المسيحيين منهم فقط، تحت ذريعة عدم التغيير الديمغرافي للمنطقة. في هذا الوقت، لم يلق هذا الكلام أي رد من المفوضية الأوروبية، حتى أنّ دولة مثل تشيكيا، طالبت بتدخل حلف شمال الأطلسي، “للدفاع عن حدود أوروبا”.

لكن ما يميّز الموقف الألماني، أنّه أثبت أنّ اليمين المتطرف، لا يمكنه توجيه أوروبا، إذا لم تتوفّر الإرادة السياسية. وهذا ما ينقص دولا أخرى، مثل فرنسا، التي تبدو ضعيفة أمام حزب “الجبهة الوطنية”، وسيطرة اليمين المتطرف على حكومتي بلجيكا والدنمارك، وتردد حزب “المحافظين” في بريطانيا.

ممّا لا شك فيه، أنّ مكانة ألمانيا الاقتصادية تسمح لها بهامش من الحركة غير متوفر لدى جيرانها من الأوروبيين، وهذا ما أعطاها الحق بصفتها المموّل الأكبر لليونان، في الحزم تجاه أزمتها وإصرارها على استمرارها بسياسة التقشف قبل الموافقة على إقرار خطة الإنقاذ وبقائها في الحضن الأوروبي. ولا تزال برلين تواجه العديد من التحديات والانتقادات من جيرانها الأوروبيين، على الرغم من أن تلك الأزمة، كانت ستؤثر على اقتصاداتها الضعيفة أساساً. هذا إذا ما استُثنيت فرنسا، التي تبدو على تناغم مع المواقف الألمانية، بما يخص سياساتها تجاه دول الاتحاد الأوروبي.

وبات البعض يخشى الحضور الألماني المسيّر لقضايا الدول الأوروبية ودخولها أيضاً في عمليات ربط النزاع بين الشرق والغرب، وجعل البعض يتحدث عن فائض قوة لدى برلين، معتبرين أنّ التفرد بالقرار لا يعني إمكانية القيادة.

ما يتجاهله البعض، أن المانيا هي أوّل قوة اقتصادية أوروبياً، والرابع عالمياً، بعد كل من اليابان والصين والولايات المتحدة، على الرغم من الفرق الواضح في عدد سكانها البالغ 81.7 مليون نسمة مقارنة بمنافستيها التقليديتين. وتشير الأرقام إلى أنّ برلين تعاني من نقص حاد في نسبة الولادات. ومن المتوقع أن يصل عدد سكانها في العام 2050 إلى 60 مليون نسمة. وهذا ما يعتبر نقطة ضعف مؤثرة في عالم الاقتصاد، وفي دولة أوروبية تتميز بالابتكار والإتقان في العمل والساعية للمضي في الريادة.

وكما هو متعارف عليه، طالما أنّ هناك استقراراً اقتصادياً، هناك المزيد من الرفاهية للشعوب. لا بل أكثر من ذلك، إذ يمكن فرض سياسات وقرارات على الآخرين، وهذا ما تتنبّه له ألمانيا. وأكبر دليل على ذلك، الدور الذي تؤديه حالياً، وتقدّمت فيه على فرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية التي تعاني من أزمات داخلية. علماً أن ألمانيا تقف على رأيهم في الكثير من الملفات، على الرغم من قوة التعطيل والضغط لديها، والتي من الممكن أن تستخدمها في الوقت المناسب، وحينما تريد، من خلال وقف العمل بالمعاهدات أو أوراق التفاهم معها.

كما تستطيع ألمانيا المراوغة في إدارتها للملفات الساخنة، ولا يُحسب لها تدخل حاسم يمكن أن يؤثر في علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الخارج. كما أنّ ألمانيا لم تشارك في الحروب بشكل مباشر، إنّما قامت بالمساعدة في عمليات التدريب والدعم فقط. وهذا ما ظهر أخيراً، عندما أعلنت إنهاء مهمة دفاعاتها الصاروخية في تركيا، بعدما تبين أن هناك مصالح داخلية لتركيا، وليس هناك من خطر عليها بصفتها دولة عضواً في الحلف الأطلسي. كذلك الحال في مقاربتها للملفات في مناطق نزاع أخرى، بما أنها لم تتدخل بشكل حاسم عندما تشتد الأزمات، إنّما تسعى لأن تكون عرّابة الحلول.

انطلاقاً من هذه الوقائع، يمكن القول إنّ نفوذ ألمانيا القوي، يعتمد على ركائز عدة، منها الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمن الاجتماعي البعيديْن عن المحاصصة والفساد والفضائح. كما أنّ ألمانيا تتمتع بمصداقية عالية لدى صنّاع القرار في العالم. وهذا ما أثبتته الدبلوماسية الألمانية خلال إدارة المفاوضات من قبل الدول الغربية مع إيران، بهدف التوصل إلى نتائج مرضية في الاتفاق النووي. كل ذلك عدا عن الدور الذي تقوم به في الأزمة الأوكرانية، ومحاولتها تقريب وجهات النظر بين أوكرانيا وروسيا، حتى أنّ بروكسل لا تُقْدم على أي قرار من دون الوقوف على رأيها.

وما زاد من حجم ألمانيا الاقتصادي والسياسي، موقعها الاستراتيجي وسط القارة الأوروبية، بالتالي، فإنّ من مصلحة الدول المحيطة، أن تبقى على علاقة جيدة مع اللاعب الأقوى، يضاف إليها عدد سكانها مقارنة مع باقي الدول الأوروبية، فضلاً عن كونها من الأكبر مساحة. ولا يزال كلام المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر، الذي انتقد فيه قرار الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، بالحرب على العراق في الأذهان، معلناً من خلاله أنّ لا تبعية للولايات المتحدة، إنّما علاقات نديّة. وها هو شرودر اليوم، يدعو إلى سياسة هجرة حديثة واعتماد جدول أعمال واضح، بالقول “إذا كنا نريد أن نكون دولة قوية اقتصادياً واجتماعياً في المستقبل، فنحن بحاجة للمهاجرين نتيجة الانخفاض في عدد السكان واليد العاملة”.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن