الجاسوس أشرف مروان.. العمالة لـ “إسرائيل” انتقاماً من عبد الناصر

الجاسوس أشرف مروان.. العمالة لـ

في الوقت الذي تستعد فيه جهات إنتاج إسرائيلية-أميركية لإنتاج مقتبس عن الكتاب الشهير “الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل”، صدرت في القاهرة الطبعة المصرية منه.

320 ركلة بعدد صفحات كتابه يسددها الإسرائيلي يوري بار – جوزيف في وجوهنا جميعا، ونعجز حتى عن التعبير عن الألم. فعلى عكس الضجة التي صاحبت صدور الكتاب في نسخته العبرية 2010، ثم طبعته الإنكليزية المزيدة في العام الماضي، صاحب صدور الطبعة المصرية وبداية إنتاج الفيلم صمت مصري رسمي غريب لا يليق إطلاقا بمحتوى الكتاب ولا بالشخصية المحورية فيه.

التوثيق الدرامي يعني أن حياة أخرى ستكتب للقصة، وإذا كان من المحبط والمذل تصديق الرؤية الإسرائيلية، فإن السكوت الآن، يؤكد تلك الرؤية ويعمق الشعور بالعار، فالفيلم يسعى بالتأكيد لترسيخ رواية جوزيف الذي يعمل حاليا أستاذا للعلوم السياسية في جامعة حيفا، بعد أن خدم على مدى 15 عاما في جهاز المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، حول خيانة أشرف مروان، الموظف المصري الرفيع الذي عمل سراً لمصلحة الموساد الإسرائيلي. من موقعه كصهر للرئيس جمال عبد الناصر وكمستشار مقرَّب من خلفه، أنور السادات.

يدحض الكتاب –وبالتالي الفيلم- حتى الرؤية المصرية التي تقول إن مروان كان عميلا مزدوجا لصالح المخابرات المصرية، وإن ما قام به لم يكن إلا جزءاً من خطة الخداع الإستراتيجي، وفي حين عرض كل الدلائل والتسجيلات والوثائق التي تؤكد رؤيته، اكتفى الجانب الآخر بالاستناد إلى تكريم مبارك لمروان ولتصريح مقتضب عنه بأنه كان رجلا وطنيا(!)، لذا يقول مؤلف الكتاب إن تلك الفرضية ستظل حتى يقدم شخص ما أدلة دامغة لدعمها مجرد “وهم” لا أساس له “إذا كان يعمل فعلا في صالح مصر، فلابد أن يكون هناك سجل ما، في مكان ما، يوثق طريقة تعامله مع مشرفيه وخداعه لرئيس الموساد”، وطالما إن تلك الوثيقة لم تظهر، “فلا مفر من الاستنتاج بأنهم لا يملكون حتى الآن أدنى فكرة عما كان أشرف مروان يفعله قبل الحرب وخلالها”!

وفي حين لا نملك أو لا نريد أن نظهر تلك الوثيقة، فإن الموساد يحتفظ بأربعة مجلدات ضخمة تضم الوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل، وهي بحسب الكتاب لا تتضمن فقط الوثائق وترجمتها العبرية، بل وأيضا توثيقا لانطباعاته الشخصية التي تفوه بها، والتي تعرف باسم “تقييم المصدر”، وتغطي طيفاً واسعا من المواضيع، من الاجتماعات الحكومية التي كان يجريها السادات حول التحديات الاقتصادية وإعادة هيكلة الشرطة، وحتى المعلومات العسكرية الأكثر خطورة ودقة، منها على سبيل المثال النقاشات داخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، واجتماعات قيادات الجيش، والأحاديث بين كبار القادة ونظرائهم السوفيات، ومقابلات السادات مع القادة العرب والأجانب، وخطط الجيش المصري لعبور قناة السويس، بالإضافة إلى أمر المعركة الموجه إلى كامل الجيش المصري.

“كأن رئاسة المخابرات الإسرائيلية تقرأ على راحتها أوراق الرئاسة المصرية”، التعليق السابق ليس لمؤلف الكتاب للأسف، بل للصحافي محمد حسنين هيكل الذي استطاع عبر أعضاء عرب في الكنيست ومن خلال مصادر أخرى الحصول على بعض تلك الوثائق، ويؤكد في كتابه الأخير عن مبارك وزمانه، ان الكثير منها أصلية وليس مجرد معلومات استخباراتية! يقول هيكل: “لمحت من بين الوثائق –مثلا- صوراً لمحاضر اجتماعات بين أنور السادات ونظيره السوفياتي ليونيد بريجنيف أثناء زيارته السرية لموسكو في مارس سنة 1971.. ثم إن هناك صورا لعشرات الوثائق” يعلق أخيرا: “لم أكن في بعض اللحظات قادرا على تصديق ما أراه أمامي”.

وهو الأمر نفسه الذي يؤكده يوري في كتابه: “كان يخاطر أيضا بالوثائق التي يحضرها (مروان)، بل وكان الكثير منها أصليا وليس مصورا، وحين كان دوبي (الضابط الإسرائيلي المكلف بالتعامل معه) يسأله عن السبب في عدم قلقه من إلقاء القبض عليه وبحوزته الوثائق، كان يبتسم قائلا “لن يفتشوني”.

بحسب مؤلف “الملاك” (الاسم الذي أطلقه الموساد على أشرف مروان) أدى مروان الدور المطلوب على أكمل وجه، وكان بالنسبة لإسرائيل بالفعل، أعظم جاسوس عرفته يوما، إلا أن أسبابا أخرى قادت للفشل في صد الضربة المصرية السورية في 1973، وهي الأسباب نفسها التي كانت وراء الإعلان عن اسم مروان لأول مرة، فبعد اندلاع الحرب، صدر كم هائل من المعلومات، معظمه كان على شكل مذكرات رسمية وأبحاث ووثائق، تتناول سلسلة طويلة من الأحداث التي قادت إلى الحرب: تصورات القيادة العسكرية المصرية لما يحتاجونه للهجوم، والأسلحة التي تسلمتها وجعلت ذلك ممكنا، والقرارات المتعلقة بموعد الهجوم “وقد اتضح من كل ذلك ودون أدنى شك، أن المعلومات الاستخباراتية التي أعطاها أشرف مروان للإسرائيليين أثبتت دقتها على الدوام، وتنقل بالضبط ما كان يحدث في مصر”.

لكن عند دراسة أسباب الفشل الاستخباراتى الإسرائيلي في الأيام التي سبقت الحرب، وجدوا أن الأمر لم ينتج عن شح المعلومات الدقيقة، بل عن رفض الاستخبارات العسكرية التخلي عن تصورها بعد أن أثبتت الوقائع خطأه بشكل لا يقبل الجدل، “بفضل مروان فهم الإسرائيليون بدقة كيف كان المصريون ينظرون إلى ضرورة الحرب من جهة وإلى الظروف اللازمة لشنها وذلك على امتداد تشرين الأول 1972. لكن بحدود تلك الفترة غير السادات رأيه وقرر الذهاب إلى الحرب من دون انتظار الأسلحة، التي كان يعتبرها ضرورية للنصر”.

نعود لهيكل مجددا الذي يروى وقائع التحقيق الذي جرى داخل إسرائيل عقب حرب 73 وكانت النقاط المركزية في التحقيق هي: هل فوجئت إسرائيل أو لم تفاجأ؟ وهل عرفت أو أنها لم تعرف؟ وإذا كانت قد عرفت من مصدر سري، فلماذا تأخرت في الاستعداد ساعات حاسمة؟ ومن يتحمل الوزر؟

بحسب رواية هيكل فإن التحقيقات الداخلية أثبتت أن خلافا محتدما بين اثنين من الجنرالات الإسرائيليين الكبار أثناء الحرب هو ما تسبب في تأخير رد الفعل رغم تأكيد الحصول على المعلومة، الجنرالان هما: زفي زامير رئيس الموساد، وإيلي زائيرا رئيس المخابرات العسكرية “آمان” ومؤدى الخلاف بين الاثنين أن رئيس الموساد يصر على أنه أبلغ عن خطط ومواقيت وصلت إليه من مصدر مصري موثق عن هجوم مصري- سوري، لكن رئيس المخابرات العسكرية أصر على التشكيك في مصدر المعلومات، وهنا كانت المرة الأولى التي يتسرب فيها اسم أشرف مروان، بعد ضغوط كبيرة للإفصاح عن ذلك المصدر، خاصة وأن رئيس المخابرات العسكرية لم ينف وجود المصدر المصري المهم، لكنه قدر أن يكون عميلا مدسوسا، أو مزدوجا، وشاهده الرئيسي أن ذلك المصدر المصري أبلغ إسرائيل بالساعة الخطأ في موعد الهجوم، حيث أبلغ أنه في السادسة مساء، بينما وقع في الثانية بعد ظهر السبت 6 أكتوبر.

ومجددا تتطابق رواية هيكل مع يوري في سبب الإبلاغ بالموعد الخاطئ، حيث كانت القيادة المصرية تفضل بدء العمليات في السادسة مع آخر ضوء، لكي تستفيد من الليل لحماية عمليات بناء الجسور، أما القيادة السورية فكانت تفضل السادسة صباحاً مع أول ضوء، لكي تستعين بأشعة الشمس في مواجهات الدبابات الإسرائيلية على هضبة الجولان، وبعد خلافات طويلة اتُفق على حل وسط وهو الثانية بعد الظهر، والمسألة الحساسة والحاسمة هنا أن أشرف مروان كان قد سافر من مصر إلى ليبيا عن طريق أوروبا يوم 2 أكتوبر، لكي يخطر القذافي بأن المعركة حلت، وساعة الصفر المقررة لها والموعد المعتمد لبدء العمليات وهو السادسة مساء، أي أنه لم يكن في مصر عندما تغيرت ساعة الصفر من السادسة إلى الثانية! وهي الرواية نفسها تقريبا في كتاب يوري، وإن زاد عليها تفاصيل ما جرى في أوروبا في تلك الفترة، ومعرفة مروان بموعد بدء الحرب بالصدفة، من خلال المهندس محمد نصير الذي أخبره بتغيير وجهة الطائرات العابرة فوق منطقة العمليات.

تحدث هيكل أيضا عن مواجهة تمت بينه وبين مروان في سبتمبر 2006 في لندن، وسؤاله بشكل مباشر عن كل تلك التسريبات: “مد أشرف مروان يده إلى الجيب الداخلي لجاكتته وأخرج منها ورقة وكانت قصاصة من جريدة الأهرام، نشرت نص ما قاله السادات في تكريم أشرف مروان، عندما ترك منصبه في رئاسة الجمهورية، والتحق بالهيئة العامة للصناعات العسكرية، ونظرت في القصاصة ثم طويتها وناولتها لأشرف، وسألني: ألا تكفيك شهادة أنور السادات حين يقول إنني قدمت خدمات كبيرة لمصر؟!!”.

ويحكى أنه قال لأشرف صراحة: “إن ما قرأته منسوبا لأنور السادات لا يجيب عن سؤالي، وأنه يعرف قيمة أي كلام مرسل مما يقال في المناسبات، وعلى أي حال فإنه إذا رأى أن يكتفي به فهذا حقه، وأما بالنسبة لي فإنه ببساطة لا يكفي، إن ما نحن بصدده لا يمكن الرد عليه إلا بما هو واضح ومحدد وقابل للإقناع”.

وتابع: “بدا عليه الحرج وسألني: هل تتصور أن صهر جمال عبد الناصر جاسوس، وأنت كنت أقرب الأصدقاء إليه وتعرفه، وقلت بصراحة: دعني أكون واضحا معك، لا شهادة حسن سير وسلوك من أنور السادات، ولا صلة مصاهرة مع جمال عبد الناصر، تعطيان عصمة لأحد، نحن أمام مشكلة حقيقية تقتضى وضوحا مقنعا حقيقيا”.

مع إصرار هيكل وعدم اقتناعه، طلب مروان أن يقابله صباح اليوم التالي في مكان مفتوح، لكنه لم يأت ولم يجب مروان على أسئلة هيكل حتى نهايته المأساوية التي أضافت على قصته غموضا على غموضها حيث عثر على جثته في الحديقة أسفل مبنى شقته في لندن. شكَّت الشرطة في احتمال أن يكون قد رُمي من شرفته في الطابق الخامس، لكن القضية بقيت غير محسومة حتى الآن.

اللافت في كتاب “الملاك” هو تحليل مؤلفه للأسباب التي دعت مروان للتعاون مع الموساد رغم حساسية موقعه باعتباره صهر عبد الناصر، ويبرز بالتحديد عاملان واضحان الأول هو المال؛ حيث كان مروان تواقا للحياة المترفة، يقول إن انضمامه للعائلة الرئاسية جعله على احتكاك بطيف واسع من الأثرياء في داخل مصر وخارجها، لكنه في الوقت ذاته قلل من فرصه في أن يصبح هو نفسه ثرياً بسبب النزعة التقشفية التي كان ناصر يفرضها على عائلته.

الدافع الثاني الذي يراه المؤلف أفضل تفسير للسبب الذي جعل مروان يختار الموساد من بين جميع وكالات الاستخبارات الأخرى فهو الغرور! فبزواجه من ابنه الرئيس والانضمام لدائرة السلطة في مصر، حقق مروان نجاحا يفوق أقصى أحلام أي شاب مصري آخر في عمره، لكن طموحاته الأبعد اصطدمت بعدم ثقة ناصر به.

وكأن جوزيف يحاول أن يقول إن خيانة مروان لم تكن لمصر بقدر ما كانت لعبد الناصر فلشعوره بأنه –عبد الناصر- لم يكن يثق به كثيرا، خاصة بعد الضغط الذي مارسه على ابنته لإقناعها بطلاق مروان، تأكد شعوره بالخطر، وبأنه قد يجد نفسه ذات يوم مبعداً عن العائلة، وتولدت لديه دوافع للانتقام “للحصول على ثمن من العالم الذي حوله، العالم الذي يقف عائقا في طريقه. عليه أن يريهم من هو أشرف مروان.. وما هي أفضل طريقة؟ إنها بتقديم ولائه لألد أعداء ناصر”!

(*) “الملاك .. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل” ليوري بار- جوزيف. صدر عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، وصدرت طبعته المصرية عن “تنمية”.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن