الجريمة التي هزت غزة وفلسطين

الدكتور / ناصر الصوير
الدكتور / ناصر الصوير

الدكتور / ناصر الصوير

قبل 77 سنة تقريباً وتحديداً بتاريخ 15/4/1939م، وقعت جريمة نكراء اهتزت لها فلسطين برمتها واكتوت بنارها غزة على وجه الخصوص، هذه الجريمة هي جريمة اغتيال يوسف العلمي أحد الشخصيات الغزية والفلسطينية المرموقة سياسياً واقتصادياً.

اغتيل العلمي رمياً بالرصاص من قبل مجهولين لأن بعض الزعامات التقليدية الموروثة في غزة لم تحتمل وجود رجل عصامي ناجح يحتل في المدينة المكانة الأولى، خافوا أن يسحب بساط الزعامة والهيبة من تحت أقدامهم فأقدموا على اغتياله والتخلص منه.

هو يوسف محمد نور الدين العلمي(علمي مصر وليس علمي القدس) من أعلام غزة ومن خيرة أبنائها، ولد في مدينة غزة عام 1895م، درس في كلية  الضباط في الأستانة، وكان من رفاقه في الكلية الحاج أمين الحسيني ، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى ذهب إلى بيروت ودرس في كلية دار المعلمين، كان يتحدث اللغة التركية بطلاقة ، لكنه لم يمارس التعليم، عمل في التجارة ، فأصبح من كبار التجار في فلسطين، عمل في المجال السياسي ، فكان من الوجوه السياسية في غزة لسنوات طويلة ، وكان له مواقف سياسية ووطنية واضحة ومعروفة.

كان العلمي من عيون رجالات غزة خلقاً ومروءة ، ووطنية هادئة ، متزن وحكيم، إذا عددت من فلسطين عشرين رجلاً تجعلهم طرازاً نقياً واحداً ، كان العلمي من هؤلاء العشرين، قتل ظلماً بواحاً وهو في الطريق من بيته إلى المسجد للصلاة على يد قاتل مأجور، في وقت اغتالت فيه الحوادث العمياء عام 1938م، كثيراً من الناس الفضلاء في كل أنحاء فلسطين، ويوسف العلمي هو أهم رجل طالته يد فوضى الاغتيال في تلك الفترة  في فلسطين قاطبة.

وقد نشرت جريدة الدفاع التي كانت تصدر من يافا وأسسها إبراهيم الشنطي في 2/4/1934م، خبراً في عددها الصادر بتاريخ 17/5/1939م، حول مقتل يوسف العلمي عددّت فيه مناقب الفقيد فوصفته “بأنه واحداً من أعيان غزة ، ورجالها الأفذاذ والمخلصين، وان الفاجعة بفقده عظيمة، والنكبة جسيمة لا تعوض، لأنه كان وطنياً مخلصاً ووجيهاً محبوباً لنصر الحركة الوطنية بفلسطين منذ فجرها، وقد بذل وأصيب وتشرد في سبيل الله مرارا ” .

ووصف شاهد عيان كيفية استشهاد العلمي، فقال: ” خرج المرحوم من منزله في الساعة السادسة من صباح 15 ابريل قاصداً محله التجاري ، فإذا بمجرم يطلق عليه الرصاص من الخلف فأصيب برصاصتين فصرخ المرحوم “لا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون ، أشهد آلا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ثم فارق الحياة “.

كما نشرت جريدة الشورى التي كانت تصدر في القاهرة ويترأس تحريرها محمد علي الطاهر في عددها  الصادر في 26/4/1949، نعياً مطولاً عقب مقتل العلمي وصفت فيه خبر مقتل العلمي “بالنبأ المحزن والمروع الصادع ، كان له أشد الوقع في النفوس ، وقد هز القلوب هزاً ، ومزق الأفئدة وترك في كل نفس لوعة وحسرة ” واصفةً العلمي بالرجل الوطني الكبير وأنه عين من أعيان غزة”، مشيرة إلى قيام عدد كبير من رجالات مصر بإرسال برقيات عاجلة يعزون فلسطين على فقده .

وما أن انتشر الخبر حتى هرع المواطنون وكبار الموظفين في غزة واللواء الجنوبي إلى بيت القتيل معزين أهله بهذا المصاب ، وقد حزنت غزة لمقتله وأصيب الجميع بالحزن والذهول ونعاه المؤذنون على المآذن ، وشيعت جنازته باحتفال كبير من الجامع العمري حتى مقره الأخير ، وخرجت المدينة عن أخرها في تشييع جنازته ، وقد أغلقت المدينة حداداً ، وكان يتقدم الجنازة كبار الشخصيات والوجهاء والعلماء والموظفون والمواطنون ووفوداً من سائر البلاد الفلسطينية ، وقد أبّنه على القبر رشدي بك الشوا ، رئيس بلدية غزة ، وعاصم بسيسو ، ورشيد الشريف، والحاج شفيق نجم ، وقد أجمع أبناء غزة وفلسطين بأنه أغتيل حسداً لأنه كان ناجحاً في عمله وتجارته وعلاقاته الاجتماعية .

كان المرحوم يوسف العلمي من أعلام غزة ، كان تاجراً كبيراً يستورد البضائع من مختلف البلدان، وكان محسناً من الدرجة الأولى ، أسس مع شريك له شركة “شريف وعلمي” التجارية الشهيرة ، كان صديقاً حميماً للحاج سعيد الشوا ولأبنائه، دشن في منتصف العقد الثالث من القرن المنصرم ، بيتاً كبيراً في حي الدرج قبالة مسجد السيد هاشم وهو ما يعرف بالبندر، كان محط الأنظار والإعجاب، وكان أكبر بيت مبني في مساحته وتصميمه في غزة في ذلك الوقت(تبرع به أبناء المرحوم لمؤسسة فلسطين المستقبل، وتحول حالياً إلى مركز طبي خاص لمعالجة وتأهيل مرضى الشلل الدماغي)

تزوج من زكية عبد الرحمن شعث عام 1922م، وترك خلفه ستة من الأبناء هم : سامي وعدنان وسفيان وبشير وسميح وزهير، حصلوا جميعاً على أعلى الدرجات العلمية والأكاديمية ، وتبوءوا مناصب رفيعة ؛ فقد عمل سامي مديراً عاماً للبنك العربي في بيروت، وعمل عدنان مديراً عاماً لفرع البنك في جدة بالمملكة العربية السعودية، أما سفيان وبشير فيعتبران من أشهر الأطباء، فالأول عمل رئيساً لأطباء مستشفى الجزيرة العام الكبير في أبو ظبي وعددهم 150 طبيب ، كما أنه أصغر طبيب في تاريخ فلسطين إذ نال بكالوريوس الطب والجراحة من كلية طب القصر العيني العريقة في مصر وعمره 22 عام وشهران فقط وكان عمره عند اغتيال والده بضعة أشهر، أما بشير فقد كان من أشهر أطباء مدينة الحسين الطبية بالمملكة الأردنية الهاشمية ، وعمل محاضراً بكلية الطب في الجامعة الأردنية ، أما سميح فقد حصل على أعلى درجة علمية في مجال التحاليل الطبية ، وله انجازات وأبحاث عديدة جعلته في مقدمة المتخصصين في هذا المجال، أما الدكتور زهير العلمي فهو اقتصادي بارع شريك رئيسي في شركة “خطيب وعلمي” التي تنفذ أعمالها في العديد من أقطار العالم وتعتبر من شركات المقاولات العربية العريقة الناجحة .

تخليداً لذكرى والدهم وتجسيدا لحبهم لمسقط رأسه ورأسهم قام أبناء يوسف العلمي  ببناء المدارس في أنحاء متفرقة من المدينة على نفقتهم ، كما قاموا ببناء المساجد وترميم عدة مساجد أخرى وفي مقدمتها مسجد السيد هاشم بتكلفة ملايين الدولارات، وقاموا أيضا ببناء أقسام كاملة في المستشفيات منها مستشفى الحروق بمستشفى الشفاء وغيره ، كما قاموا بمنح منزلهم المقابل لمسجد السيد هاشم والمعروف بالبندر والذي تبلغ قيمته ملايين الدولارات ليكون مشقاً لمرضى الشلل الدماغي، ساهموا بإنشاء ودعم العشرات من المؤسسات والجمعيات العامة وتنفيذ عشرات المشاريع التي تخدم المجتمع الفلسطيني في غزة، لم يتوانوا عن تقديم يد العون والمساعدة في أي عمل إنساني يخفف من معاناة الناس وكأن لسان حالهم يقول اغتلتم والدنا يأهل غزة وحرمتمونا منه ونحن نرد لكم ذلك ولكن بطريقة الفرسان.

أقولها بأعلى صوتي إلى متى يقتل الحقد والحسد في غزة إبداع المبدعين وموهبة الموهوبين وليس الشرط هنا التصفية الجسدية كما حصل مع المرحوم يوسف العلمي إنما القتل له ألف وجه بدءاً من التشكيك مروراً بالتخوين والإقصاء والتهميش وغير ذلك من أساليب القتل المعنوي المدمرة والتي طالت وتطال كل مبدع وعبقري ليس وراءه تنظيم يدعمه ويغطيه وعائلة صنديدة تذود عنه وتحميه.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن