الوضع السياسي الفلسطيني:رؤية للخروج من الحالة الراهنة

احمد يوسف

كتب د.أحمد يوسف

أُرهقنا فكرياً من كثرة توصيف أوضاعنا السياسية خلال الأنشطة والمؤتمرات التي ندور بلا توقف في حلقاتها المفرغة، حيث إننا لم نترك شيئاً يمكن أن يقال إلا قلناه، ولم نبخل في الكتابة لكل الجهات العامة والخاصة، ومخاطبة جهات القرار، ولكن لا حياة لمن تنادي.!!

الإشكالية – اليوم – هي أن حالتنا السياسية بكل مآزقها ليس لها من حل غير ما يمكن أن يقدمه الرئيس (أبو مازن) من مفاتيح لفك تعقيداتها، فهو الذي يمتلك – وهذه هي الحقيقة – بيده معظم الأوراق، كما أن بإمكانه التحرك وطرح المبادرات، وهو القادر – لو أراد – أن يجمع الشمل الفلسطيني، وينهي الانقسام، وتنعقد بشائر المصالحة الحقيقية غداً.. للأسف، لا أحد غيره يمتلك أدوات السحر التي بين يديه. السؤال الذي يطرح نفسه وبإلحاح: ما الذي يراهن عليه الرئيس أبو مازن لكي يحدث التغيير الذي ينتظره؟ وهل تُرى ذلك يتحقق في الزمن المنظور؟! وهل ما لفخامته من العمر ما يمنح هؤلاء الشباب احتضان ما يتطلعون إليه من طموحات وآمال؟!

نعم؛ قد تكون حركة حماس وما بين أيديها من نفوذ وقرار في قطاع غزة تشكل حجر عثرة أمام استعادة الرئيس لسلطته الكاملة في القطاع، ولكن المتابع لمشهد الحكم والسياسية لا يمكنه تحميل حماس مسئولية ما يجري من تردي لحالتنا السياسية، وعجزنا عن النهوض بشعبنا وقضيتنا، والانتصار بالشكل المطلوب لانتفاضة الكرامة والمقدسات.

حماس من وجهة نظرها، تقول: إنها قد سلَّمت الحكم للرئيس أبو مازن، والكرة الآن في ملعب الرئيس، وعليه أن يفي بما تعهد من التزامات، وخاصة توجيه مرسوم رئاسي للمجلس التشريعي بالانعقاد، وكذلك الدعوة لعقد الإطار القيادي المؤقت، بهدف فتح النقاش حول أولويات عملنا الوطني، واستكمال ما تمَّ التفاهم عليه في القاهرة من ملفات.

للأسف، لم يصدر أي مرسوم من الرئاسة بهذا الشأن، ولا يظهر أن هناك رغبة في ذلك!!

وتأسيساً عليه، فإن المعضلة القائمة هي أن الرئيس لا يبدو أنه يريد لكل ذلك أن يحدث، وترك مؤسسات السلطة عاجزة أو شبه مشلولة، وهو الوحيد الذي يتحرك بعجلة السياسة الفلسطينية، الأمر الذي يجعله ضعيفاً أمام دولة الاحتلال، ولا يتمتع بالهيبة والقوة المطلوبة للتعامل مع المجتمع الدولي، ولا حتى مع محيطنا الإقليمي.

وهذا ما لا نريده له، ولا لقضيتنا.. إننا نتطلع إلى تعزيز مكانته السيادية، ونجاح تحركاته على المستويين الإقليمي والدولي.

مبادرات وأفكار وجدليات عبر الأثير!!

لم تتوقف اجتهادات فلاسفة الفكر والسياسة عن طرح المبادرة تلو المبادرة، بهدف الخروج من نفق الأزمة المستعصية في العلاقة بين فتح وحماس، ومحاولة الأخذ بيد الوطن نحو الوحدة والاستقرار، ولكن – للأسف – لم تتمخض تلك الجهود عن منافذ وحلول، وإن توصلنا في 23 إبريل 2014م إلى خطوة ناجحة نسبياً لفك الاشتباك، وأقمنا حكومة توافقية برئاسة د. رامي الحمد الله، اعتقدنا بأنها ستنجح في الإقلاع بنا نحو الانتخابات البرلمانية والشراكة السياسية والتوافق الوطني.. ولكننا وأسفاه، ما زلنا نراوح في نفس المكان، حيث يعيد بعضنا إنتاج هرطقات السياسة، ونقوم بتكرار ما تعودنا عليه من لغة التلاحي والاتهامات!!

للأسف، ومنذ أكثر من ثمان سنوات، ونحن نردد نفس السؤال: يا قوم.. أليس فيكم رجل رشيد؟ وبانتظار أن يأتي رجل من أقصى المدينة يسعى بالحكمة والقنديل، ليأخذ بأيدينا نحو إصلاح البيت، وجمع الصف، وتصويب البوصلة وأعمدة المكان.

سأحاول هنا التعريج على بعض المبادرات، بهدف الإشارة إلى أن هناك ما زال من يحاول وينتظر..

مبادرة خالد مشعل: محاولة لتحريك المياه الراكدة

قبل شهرين تقريباً، طرح الأخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في خطاب متلفز، مبادرة تهدف إلى تحريك الأوضاع باتجاه تعزيز المصالحة الفلسطينية والتوافق الوطني، وقد أصدرت حركة حماس في السابع من سبتمبر الماضي وثيقة سياسية بهذا الخصوص، واعتبرتها بمثابة رؤيتها السياسية للخروج من الأزمة الراهنة في الساحة الفلسطينيّة، والتي دعت إلى “تأجيل عقد اجتماع المجلس الوطني، والانعقاد الفوري للإطار القيادي الموقّت لمنظّمة التّحرير الفلسطينية في أيّ عاصمة عربية، وانعقاد المجلس التشريعي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تدير شؤون الفلسطينيّين بروح من التوافق، وإجراء الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، وتعزيز الشراكة بين الفلسطينيّين في إدارة القرار الوطني”.

في الرابع من نوفمبر 2015م، أعاد الأخ خالد (أبو الوليد) تأكيد تلك المعاني مرة ثانية، وذلك في لقائه عبر الفيديو كونفرنس من الدوحة مع مجموعة من الإعلاميين والمفكرين والكتَّاب بمنتدى “بيت الصحافة” في غزة، حيث أكد على ما سبق أن جاء في مبادرته السابقة، وأضاف بعض الجوانب التي تتعلق بما يتوجب عمله تجاه الانتفاضة الحالية، مبيناً أن مسؤولية القيادة تتمثل في رسم رؤية مشتركة وأهداف سياسية وطنية محددة لإنجاحها، بحيث تتضمن إحباط مخطط الاحتلال في تقسيم الأقصى، والاتفاق على استراتيجية مشتركة بكل خياراتها تكون ضاغطة على الاحتلال، وتحقق أهداف الانتفاضة. وفي السياق، جدد تأكيده على أهمية تحقيق الوحدة الوطنية، وإلى ضرورة عقد لقاءات مع القيادة في الضفة، وذلك بغرض معالجة الانقسام وتحقيق المصالحة، مبدياً جاهزية حركة حماس لعقد لقاءات تتعلق بذلك.

ودعا كذلك إلى ضرورة تطبيق مصالحة وطنية مبنية على قاعدة الشراكة وليس على قاعدة الإحلال والإبدال، مشدداً على أنه “لا يحق لحماس أن تنفرد بقرار الحرب، ولا للآخرين في القرار السياسي”.

مبادرة دحلان: بين القبول والرفض

يوم 13 نوفمبر 2015م، وعبر برنامج “أوراق فلسطينية”؛ للإعلامي سيف الدين شاهين، الذي يبث عبر فضائية (الغد العربي)، تحدث النائب محمد دحلان بنبرة تصالحية، داعياً حركة حماس والرئيس عباس إلى معاودة النظر في كل الأخطاء السابقة، والعمل على إعادة اللحمة الداخلية على أسس وطنية وسياسية ثابتة، والخروج من أحاديث الماضي، والذهاب إلى المستقبل”. وقال: نعم؛ اختلفنا بما يكفي، واختصمنا بما يكفي.. اختلفنا مع حركة حماس بما يكفي، أما آن في ذكرى عرفات أن نعيد الاعتبار، وأن نصحح أخطاء الماضي، وأن نضع الجهد الجماعي والجمعي باتجاه إنقاذ ما يمكن إنقاذه في القدس وفي غزة وفي الضفة الغربية، ورأى دحلان أنه “لا يوجد خيار آخر غير التسامح، وأن نبني المستقبل بعيداً عن أخطاء الماضي، وبالتالي اليوم هذه المسئولية في يد (أبو مازن) وحماس، (أبو مازن) يستطيع أن يحسم أمر فتح صحيح، لكنه لا يستطيع أن يحسم وحدة الوحدة الوطنية، يحتاج إلى مساعدة، وإلى موقف جريء وجدي من حماس”.

بصراحة؛ ليس من السهولة تناول مواقف وتصريحات النائب محمد دحلان، بغض النظر عما فيها من إيجابية، فما زال هناك الكثيرون في الشارع الفلسطيني يتحفظون عليه، ولكن من موقع الراصد والمحلل السياسي – وليس الحكم – أقول: هذا كلام يستحق أن نتدبره من أجل الوطن. وأعيد هنا ما سبق أن أوردته من رد على صفحتي (الفيس بوك)، بالقول: إن تصريحات النائب محمد دحلان، جديرة بالملاحظة والتأمل، ويتوجب أخذها بعين الاعتبار، برغم ما بيننا وبينه من تناقض وخلاف.. حيث إن أي خلاف ومهما بلغ لا يمكن تأبيده، فنحن شعب أرضنا محتلة والتحديات أمامنا كبيرة، وأن الذي سيدفع الثمن هو الوطن؛ بأرضه وأجياله. وهذه التصريحات من دحلان – اتفقنا أو اختلفنا معه – ربما تفتح الطريق، وتأخذ ساحتنا خطوة في اتجاه اجتماع الشمل، وإذهاب حالة التخبط والتربص والمكر القائمة، والتي أضاعت الكثير من الخير والبركات بين أبناء شعبنا، وجعلتنا شذرَ مذرَ. وفي سياق هذه التلميحات واللهجة المتعقلة في خطاب دحلان، قد نلمس تحسناً في المقاربات، التي يمكن أن تسمح بالتحرك لبناء رأسٍ للجسر أو خطوة باتجاه بيت القصيد، وهذه التصريحات قد ترضي البعض، وقد لا يرتاح لها البعض الآخر.

لم تكن هذه المبادرة هي الأولى من دحلان، فقد سبق له أيضاً تقديم مقاربة قبل شهرين حملت في طياتها أفكاراً إيجابية، ولكن الإشكالية هي أن محمد دحلان له مشكلتان؛ واحدة مع الرئيس أبو مازن، والأخرى مع حماس!! وبالتالي، ليس هناك – الآن – من يرغب في الاستماع إليه.

أين الفصائل: سؤال برسم الاستغراب؟

شكّل خروج الشباب في هبتهم الشعبية الواسعة، وهم متوشحون بالكوفية والعلم الفلسطيني، دونما أثر لملامح الفصائل وراياتها الحزبية صدمة لبعض تلك القيادات التاريخية، وكان إصرار الكثير من هؤلاء الشهداء في وصاياهم بألا يعطوا لدمهم أية إشارات خارج العنوان الوطني الأصيل (فلسطين)، بمثابة لطمة لبعض تلك الوجوه. كان ملحوظاً غياب تلك القيادات الحزبية عن المشهد، فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا.. نعم؛ لقد تعمد الكثير منهم الابتعاد عن ساحات المواجهة مع الاحتلال، بالرغم من سلمية تلك التحركات، لاعتبارات سياسية وأمنية، وإن حاول أحدهم – مشكوراً – الظهور، من خلال المشاركة في بعض المسيرات، لرفع الحرج، وكسب ماء الوجه.

إن المطلوب اليوم من الكل الوطني والإسلامي مراجعة مواقفه، والاتعاظ قبل فوات الأمان، حيث فقد هذا الجيل الثقة في قياداته التاريخية التي أصابته في مقتل يهدد مستقبل حياته وضياع مقدساته وتغييب وطنه. هؤلاء الشباب اليوم ينظرون بحسرة وقلق لمن أصابهم بخيبة أمل كبيرة حين عجزوا على تخطي ما بينهم من خلافات سياسية، برغم مأساوية الأوضاع، وتعقيدات المرحلة ومخاطرها على الشعب والقضية.

هل يعقل أن نخوض ثلاث مواجهات عسكرية مع الاحتلال ونتعرض لهذا العدوان الذي أخذ شكل الحرب السافرة ولا يحرك سلطتنا أن تتقدم خطوة باتجاه غزة لجبر الكسر ولمِّ الشمل وتطبيب الجراح؟!!

وهل من المنطق أن تشتعل هذه الهبة الشعبية ولا نتحرك لشدِّ أزرها بتشكيل قيادة ميدانية أو وطنية، تمنحها المدد وتحفظ زخمها وحيوية قوتها؟!!

وهل من السياسة والكياسة أن تظل قياداتنا مشلولة، بالرغم من كل ما تتعرض له من إهانات وتهميش إقليمياً ودولياً، ولا تجنح أو تفكر في مقاربة تمنحنا الهيبة والمكانة وترد لنا عزنا الضائع، وسيفنا القاطع؟!!

سنظل نقول لكل قياداتنا في الضفة الغربية وقطاع غزة: تعالوا إلى كلمة سواء لعل الله يفتح بيننا، ويبارك على أوصال شلوٍ ممزع.

ختاماً: هل من رؤية وأمل؟

تعودنا ألا نفقد الأمل، وأن هناك مع العسر يسراً، وأن الأوضاع كلما ضاقت حلقاتها فُرجت، وأن أشد ساعات الليل ظلمة تلك التي تسبق الفجر.. دائماً نصحو على أمل جديد، فالهبة الشعبية فاجأتنا في سرعة انتشارها، وقوة تحركها، وطبيعة شبابها، وفتحت لنا باب التفاؤل والرجاء، ومنحتنا فرصة للنهوض وجمع الصف، وطي صفحة الخلاف البغيض، وهؤلاء الشباب كالخيل معقود في نواصيها الخير، وأمنيات التحرير والعودة.

وفي سياق العزف على لحن الأمل، نأتي بخلاصات الندوة التي عقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، بعنوان: “مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني”، بتاريخ 14 نوفمبر 2015م، حيث تحدث د. عزمي بشارة، المفكر العربي والسياسي المخضرم، مشيراً إلى أن الحالة المتردية التي بلغها المشروع الوطني الفلسطيني هي نفسها التي أنشأت نقائض عوامل الضعف وخلقت حراكاً للوطن والقضية إقليمياً ودولياً.. وعدّد د. بشارة النقائض في أربعة عناصر، كانت البداية هي نضوج إجماع دولي غير مسبوق على عدالة قضية فلسطين، بالرغم من تهميشها على الأجندات الدولية التي تقررها الدول العظمى. والعنصر الثاني الذي يمكن أن يقلب معادلة العجز، ويبعث مشروعًا وطنيًا جديدًا، هو تواصل الشباب الفلسطيني بوسائل مختلفة عابرة لأماكن وجود الشعب الفلسطيني، ولكنه تواصلٌ غيرُ موجه، وينساب خارج أطر حركة وطنية، ولم يصل إلى درجة بناء الأطر والمؤسسات العابرة للحدود بنفسه بعد، وهي المهمة التي ينبغي تحقيقها. والعنصر الثالث، هو الجدوى التي بدأت تبرز لخيار المقاطعة وتأثيره في إسرائيل، وهو خيار يمكن تسويقه على مستوى الرأي العام الديمقراطي في العالم. والعنصر الأخير من عناصر التفاؤل بالخروج من وضع العجز، هو ما أثبته انفجار الغضب الفلسطيني – مؤخرًا – بأن جيل ما بعد أوسلو لم يصبح جيلًا متقبلًا لأوضاع ما بعد أوسلو، وما زال يحلم بزوال الاحتلال، ويعتبر الشعب الفلسطيني شعبًا واحدًا، ولم تنطفئ فيه جذوة النضال. وبمنظور تاريخي، مازالت الاستمرارية التاريخية للقضية الفلسطينيّة العادلة تتجلى في أنه كل جيل فلسطيني يبدع وسائل نضاله، وانتفاضته، ولا يقبل أي جيل فلسطيني أن يمر في هذا العالم مثل سحابة جافة، من دون أن يروي هذه الأرض، ومن دون أن يترك بصمته في رفض الاحتلال على أرض فلسطين.

هذا، وقد شدد المشاركون في تلك الندوة على أهمية أخذ مساهمة الشباب الفلسطيني في صوغ المشروع الوطني الجديد في الحسبان، وتجاوز حالة الانسداد والعجز، بعد أن أثبت الشباب الفلسطيني قدرته على تخطي الأطر المتكلسة للنضال الفلسطيني، واستعاد زمام المبادرة خصوصاً مع الهبة الشعبية التي تعيشها الأراضي المحتلة منذ مطلع أكتوبر الماضي.

باختصار: إن هؤلاء الشباب الذين يقودون الهبة الشعبية ويتحركون بها باتجاه الانتفاضة المباركة نصرة للكرامة والمقدسات، مطلوب منهم تنظيم صفوفهم والحفاظ على زمام المبادرة بأيديهم، وأن يؤطروا لهم قيادة ميدانية لترشيد عملهم والأخذ بأيديهم نحو ما نصبوا له جميعاً من تطلعات وأهداف.

الكرة اليوم هي في ملعب الشباب، حيث إن الفصائل تكلَّست وهرمت قياداتها، كما أن منسأة نضالها قد تآكلت، والوطن اليوم بانتظار وجوه قيادية جديدة ودماء عفيَّة، تعيد البسمة لعناوين الجهاد والوطنية، وتأخذ دورها في الانتخابات البلدية والتشريعية والتشكيلات الحكومية القادمة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن