بين الميثاق والوثيقة: علاقة حركة حماس بالمجتمع الفلسطيني

4-36399

دراسة تأصيلية/ بقلم الباحث في الشأن الفلسطيني احمد عيسى

قدم الميثاق الصادر والمنشور بتاريخ 18/8/1988، حركة حماس كحركة  دينية سياسية، اذ طغت علي مواده مفردات العقيدة على حساب مفردات السياسة والمصالح، الأمر الذي قال فيه البعض بأن “حركة حماس اقامت نظامها التواصلي تأسيسا على انها عقيدة “حق”، وفي مكان اخر تأسيسا، على انها حركة دعوية، أي انها آلية الحق ووعائه وغايته”.

وبدا واضحا من نصوص الميثاق تلاشي المسافة بين حركة حماس كبعد سياسي والنص بأبعاده التقديسية، وقد ادى هذا التماهي بين الحركة والنص الى خلق قناعة راسخة لدى كل من بايع قادة الحركة وفق نظام البيعة المعمول به داخليا، هذه البيعة التي تعتبر خاتمة لمسيرة التجنيد الطويلة للحركة، بأنهم كما الحركة “يمثلون الحق الذي جاء ليحاجج الباطل مدفوعا بتكليف رباني وضرورة دينية”.

وتفيد القراءة المتأنية لمواد الميثاق ال (355)، أن التماهي ما بين الحركة والنص، علاوة على التماهي ما بين شهوة الحركة في توظيف سطوة النص لإخضاع الآخر وليس لتبليغه، ومنطوق النص، قد بلغت الذروة، في المادة رقم (7) من مواد الميثاق اذ كان نصها “ومن ضرب صفحا عن مناصرتها، او عميت بصيرته فاجتهد في طمس دورها، فهو كمن يجادل القدر، ومن اغمض عينيه عن رؤية الحقائق، بقصد او بغير قصد، فسيفيق وقد تجاوزته الأحداث، وأعيته الحجج في تبرير موقفه، والسابقة لمن سبق”.

وفي معرض تفسير سلوك الحركة الميداني المدفوع والموجه من نصوص الميثاق خلال العقدين الماضيين خاصة في الفترة التي طغت فيها على السلوك العام لقيادة وعناصر الحركة ثقافة استمراء قتل الأخر والاعتداء عليه وعلى ممتلكاته الخاصة.

لقد تأكد هذا المنحى في سلوك الحركة بما لخصه العديد من الشهود الذين تركوا أدوارهم فيها بقولهم: “لقد آمنت حركة حماس منذ نسختها الاولى (المجمع الاسلامي) وحتى نسختها الاخيرة (الحكومة)، بأن مبايعتها والانخراط في صفوفها هو السبيل الوحيد للنجاة من النار، ومن ضرب صفحا عن مناصرتها، واختلف معها، او اختلفت معه، تعلق بالنار- برأيها-“. إن هذا التصنيف القطعي إنما يعني ان الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني والتي لم تخضع بعد لنصوص الميثاق قد ابتعدت عن درب الجنة.

ويضيف آخرون “إن هذا التصور الفكري للحركة وتطبيقاته العملية لا سيما التطبيقات التربوية له، قد ميز واقع الحركة بخللين اساسيين، في كل من ثقافة التدين، وثقافة ممارسة العمل السياسي، لدى كل من العناصر والقيادة.”

فعلى صعيد ثقافة التدين رسخ رجال الدعوة وفقهاء الحركة ايمانا راسخا لدي عناصر الحركة وقيادتها ان فهمهم للدين (تدينهم) هو صحيح الدين، فيما غيره من الافهام تشوبها العيوب التي تحدث خللا في العقيدة والتصور، الأمر الذي بدا واضحا في نص المادة رقم (23) من الميثاق.
وعلى صعيد ثقافة ممارسة العمل السياسي، فقد وضع فقهاء الحركة ومفتوها كما بدى واضحا في نصوص الميثاق، تأصيلا فقهيا للممارسات السياسية للحركة، مفاده أن حركة حماس ليست مكون من المكونات السياسية الفلسطينية، بل هي المكون الوحيد الذي يتوجب على باقي المكونات الفلسطينية اللحاق به والا فقدوا دنياهم وآخرتهم، باعتبارهم تعبيرا عن الباطل و “إن الباطل كان زهوقا”.

عند هذا الحد من التقديم ترى هذه المقالة ان نصوص ميثاق العام 19888، والتي شرحت رؤية الحركة لذاتها، ورؤيتها للآخر الفلسطيني، فضلا عن رؤيتها للنظام السياسي الفلسطيني برمته، تلك الرؤية التي اظهرت حركة حماس وكأنها ارادة الله على الارض، الأمر الذي كان محركا لتصريحات قيادات الحركة والناطقين باسمها وكتاب افتتاحيات صحفها ومنظريها لا سيما بعد فوزها في الانتخابات التشريعية في العام 2006، وتشكيلها للحكومة الفلسطينية، التي وصفت هذه الحكومة بأنها إختيار الله وهي الحكومة الرشيدة والربانية.

علاوة على شرح هذه النصوص لرؤية الحركة للبيئة الاستراتيجية التي تعمل الحركة من خلالها، والأهم ما اسست له هذه النصوص من مبادئ لثقافة تربوية داخلية في صفوف الحركة استمرت على مدار العقود الثلاثة الماضية، هذه التربية التي ساهمت في صنع نظرة استعلائية للحركة قيادة وعناصر على الاخر غير الإخواني، فضلا عن مساهمتها في صناعة جيل لا يرى قيمة انسانية للآخر وحياته وسلامته، الامر الذي ساهم في بناء اسوار حديدية عالية بين الحركة والمجتمع الفلسطيني، مما ساهم بدوره في فشل الحركة في كسب الشرعية على الصعد المحلية والاقليمية والدولية.

قد يجادل البعض بالقول ان حركة حماس قد نجحت في كسب الشرعية الفلسطينية بدليل فوزها الساحق في الانتخابات المحلية والتشريعية التي جرت في الاعوام 2005، و2006، علاوة على كسبها مزيد من الشرعية الوطنية من خلال انخراطها المتأخر في المواجهة المباشرة مع الاحتلال لا سيما المواجهة المسلحة، اسوة بباقي مكونات الشعب الفلسطيني.

وعلى الرغم من وجاهة هذا الجدل الا ان اصحابه ومؤيديه لا يمكنهم تجاهل حقيقة ان الشرعية الشعبية لحركة حماس، والتي هي اكثر اهمية من الشرعية الانتخابية خاصة لدى حركات المقاومة والتحرر الوطني، قد وصلت الى ادنى مستوياتها لا سيما بعد ان تكشفت نوايا الحركة من المشاركة في الانتخابات التشريعية، اذ بات واضحا انها شاركت لغايات اقتحام النظام السياسي والانقلاب عليه، ولم تكن لغايات المشاركة فيه الامر الذي اصبح يقينا لدى الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني لا سيما النخب السياسية والاكاديمية.

هذا فضلا عن تورط سلاحها المقاوم في قتل وجرح  وسحل المئات من ابناء الشعب الفلسطيني المختلف معهم لا سيما في صيف العام 2007، والأهم بعد فشلها في تحقيق ما وعدت الناس به في برنامجها الانتخابي، اذ وعدت الناس بتخليصها من الاحتلال، وببناء نظام حكم نزيه وشفاف وخالي من الفساد، وبحياة اجتماعية تسودها الرفاهية والبحبوحة الاقتصادية، فيما واقع حال الناس في غزة اليوم ينطق بما فيه، فالمصائب المنتشرة في كل شارع وزقاق تذكر اولي الامر في حماس صبحا ومساء ولسان حالها يقول اين انتم من وعودكم؟
ولمواجهة هذا التآكل في شرعية حركة حماس على الاصعدة الثلاث، كهدف من بين اهداف اخرى، اصدرت حركة حماس وثيقتها السياسية الجديدة مساء يوم الاثنين الموافق 1/5/2017.
وفيما تناول كثير من الكتاب والشراح فحص وتوضيح مدى استجابة وثيقة حماس الجديدة للاشتراطات الاقليمية والدولية لكسب الشرعية على صعيدهما، لم يجري بالمقابل تناول مدى استجابة الوثيقة لمطالب باقي مكونات المجتمع الفلسطيني، الامر الذي ستسعى هذه المقالة لإلقاء بعض الضوء عليه.

تكونت الوثيقة الجديدة لحركة حماس من مقدمة واثني عشر عنوانا تضمنت 422 مادة، وبلغ عدد كلماتها ما مجموعه 1803 كلمة، فيما تكون ميثاق العام 1988، من مقدمة وخاتمة واربعة ابواب تضمنت 35 مادة، وبلغ عدد كلماته ما مجموعه 5549 كلمة.
ويفيد المعنى اللغوي لكل من الوثيقة والميثاق ان مصدرهما واحد وهو الفعل وثق، والثقة هي التي تولد الالتزام، ويكمن الفرق بينهما في المعنيين الاصطلاحي والقانوني.
فالميثاق اصطلاحا يعني شكلا من اشكال العقد، لكن اطرافه اكثر من اثنين، أي يجب ان تتوفر في الميثاق اركان العقد من تراضي واهلية ومحل وسبب مشروعين، والا نشأ معيبا وغير ملزم لأطرافه.

اما الوثيقة فتعرف اصطلاحا بانها ما يُحكم به الامر، وهي المستند وما جرى هذا المجرى.
ومن الناحية القانونية يعتبر الميثاق وثيقة دستورية اذا ما صدر عن جهة مختصة، وينشأ على اساس نصوصها شخص قانوني جديد يحتكم في سلوكه للنصوص المتضمنة فيه، ويقع باطلا أي سلوك لهذا الشخص القانوني يتعارض وهذه النصوص، ومن الامثلة على ذلك الميثاق الوطني الفلسطيني الذي توافقت عليه الفصائل الفلسطينية وانشأ منظمة التحرير الفلسطينية كشخصية قانونية من اشخاص القانون الدولي، وكذلك الميثاق المنشأ لهيئة الامم المتحدة الذي توافقت عليه الدول حول العالم.

وتأخذ الوثيقة حكم الوثيقة الدستورية من حيث سموها على غيرها من القوانين او الوثائق اذا ما صدرت عن ذات الجهة التي اصدرت الميثاق ومن خلال نفس الاجراءات القانونية كصدورها عن الهيئات الشورية التشريعية وموافقة ثلثي اعضاء هذه الهيئات عليها، كوثيقة الاستقلال الصادرة عن المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1988، اذ اعتبرت وثيقة دستورية ملحقة بالميثاق والنظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وتأسيسا على ذلك فإطلاق اسم الوثيقة على دستور الحركة الخاص يعتبر اكثر دقة من اطلاق اسم الميثاق من حيث المعنى القانوني والاصطلاحي.

لا يعني ما تقدم ان اطلاق اسم الميثاق في العام 19888 على دستور حركة حماس كان سهوا او اعتباطا، بل اطلق بوعي من الجهة المصدرة له، لغايات تبدو واضحة في نصوصه، بأنه وان حمل اسم ميثاق حركة حماس الذي تعاقد عليه كل من بايعها، فهو فضلا عن ذلك مقدم للآخر الفلسطيني ليس من باب تبليغ هذا الاخر، بل من باب اخضاعه، كونه يمثل الحق وذروة ما ينفع الناس، ولا يمكن المحاججة ضده، وتأسيسا على ذلك فهو البديل الدستوري للميثاق الوطني الفلسطيني كما بدى واضحا في نص المادة رقم (27) من الميثاق.

وفي هذا السياق يمكن اعتبار الوثيقة الجديدة لحركة حماس هي الملحق رقم (11) للميثاق، وفيما لم تتعارض نصوصها مع الاطار العقائدي الناظم لنصوص الميثاق، الا انها نسخت بعض مواده لا سيما تلك الخاصة بمعاداة اليهودية كديانة، وليس في ذلك ما يعيب حماس، اذ ان الشعب الفلسطيني في حالة عداء مع الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وليس مع اليهودية كديانة.

اما فيما يتعلق بعلاقة حركة حماس بالمجتمع الفلسطيني ومكوناته السياسية، فلم تجر عليها الوثيقة أي تغيير من حيث الجوهر المتضمن في الميثاق، اذ ظلت الفلسفة المستمدة من التأصيل الفقهي والشرعي المتضمنة في الميثاق، هي الموجهة للموقف، وكل ما جرى هو تفكيك الفاظ الميثاق المستمدة من النص، ومن ثم اعادة تركيبها، ولكن هذه المرة بألفاظ مألوفة فلسطينيا ومتداولة في الخطابين الوطني والسياسي، الامر الذي سمح بأن تكون مساحة المفردات الدالة على الخطاب الوطني والسياسي في الوثيقة الجديدة اكثر من مساحة المفردات الدالة على الدين والعقيدة.

كان الميثاق كما اظهرت هذه المقالة اعلاه قد بني على قاعدة (انا الحق وغيري الباطل، انا التدين الصحيح وغيري تدين فاسد). وتفيد القراءة المتأنية للوثيقة ان مفرداتها وعباراتها قد جرت صياغتها على قاعدة (انا الوطني المتمسك بالثوابت وغيري غير مؤتمن على القضية ومصيرها، اذ ان سمته التنازل والتفريط)، لأنه لا يستمد افكاره ومعتقداته التي يبني على اساسها مواقفه من النص المقدس كما أفعل أنا.

ويبدو ذلك واضحا في مقدمة الوثيقة التي تضمنت ثمان فقرات، اذ اشارت الفقرة السادسة منها الى طبيعة العلاقة التي تسعى حركة حماس الى صياغتها مع الآخر الفلسطيني، وهي هنا الشراكة الحقيقية، كما ورد في نص الفقرة “فلسطين الشراكة الحقيقية بين الفلسطينيين بكل انتماءاتهم، من أجل بلوغ هدف التحرير السامي”، وليس في هذا جديد طارئ على خطاب حركة حماس، فقد حرصت الحركة على الدعوة للشراكة مع باقي مكونات الشعب الفلسطيني منذ انطلاقتها في العام 1988.

وفي هذا السياق تفيد قراءة ادبيات حركة حماس السياسية، ان دعواتها للشراكة كانت مقترنة  دائما بتعريف حماس للشراكة، هذا التعريف الذي يتضمن شروطها لهذه الشراكة، وعند قراءة التعريف وما يتضمنه من شروط تتجلى بوضوح تلك القاعدة الاساس التي بني عليها الخطاب برمته وهي “انا الحق، والمدفوع بتكليف منه”، الامر الذي كان دائما عائقا امام تحقيق هذه الشراكة.

وهذا بالضبط ما جرى اعادة التأكيد عليه في مقدمة الوثيقة، اذ تشير الفقرات الخمس الاولى منها والتي تضمنت تعريف حماس للشراكة وشروط تحقيقها، ان حركة حماس لم تغادر مربع توظيف سطوة النص في التعريف المتضمن للشروط، بقصد اغلاق باب الحوار في الموضوع الذي يجري عليه الحوار، لغايات اخضاع الاخر وليس محاورته، الامر الذي يغلق الابواب امام احتمالات تحقيق الشراكة الحقيقية.

وللتأكيد على ذلك اعادت الفقرة الثامنة من المقدمة والتي كان نصها “بهذه الوثيقة تتعمق تجربتُنا، وتشترك أفهامُنا، وتتأسّس نظرتُنا، وتتحرك مسيرتنا على أرضيات ومنطلقات وأعمدة متينة وثوابت راسخة ، تحفظ الصورة العامة، وتُبرز معالمَ الطريق، وتعزِّز أصولَ الوحدة الوطنية، والفهمَ المشترك للقضية، وترسم مبادئ العمل وحدود المرونة”، تأكيد التزام حركة حماس بهذه الشروط، فضلا عن تأكيدها على انه يتوجب على الاخر الفلسطيني ان يعلن خضوعه لهذه الشروط كونها صادرة عن ممثل الحق على الارض لبناء الشراكة الحقيقية، ودون اعلان هذا الخضوع فلا مجال للشراكة.

وعند تعريف الحركة لذاتها وفق نص المادة رقم (11)، من الوثيقة، والتي كان نصها “حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينيَّة إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيَّتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها”، فيظهر من هذا النص ان حركة حماس قد اضافت مفهومين جديدين لمدلول التسمية هما (التحرر والوطنية الفلسطينية)، ليحلا محل الارتباط التنظيمي بحركة الاخوان المسلمين كما ورد في نص المادة رقم (2) من مواد ميثاق العام 1988، التي عرفت حركة حماس.

وتفيد قراءة نص التعريف اعلاه من حيث ترتيب المفاهيم، ان مفهوم التحرر قد سبق مفهوم المقاومة، وان الهوية الوطنية الفلسطينية قد سبقت الهوية الاسلامية، وان هدف تحرير فلسطين قد سبق هدف مواجهة المشروع الصهيوني.

ويشير هذا الترتيب في المفاهيم والاهداف الى ان حركة حماس هي حركة مقاومة بالأساس وليست حركة حكم، ولضمان استمرارها كحركة مقاومة ناجعة، فهي بحاجة الى تحرير طاقات الشعب وتعبئته للانخراط في المقاومة والالتفاف حولها واحتضانها ودعمها والاستعداد لتحمل اعباء ذلك ماديا ومعنويا، لاسيما بعد الاحمال الثقيلة التي حملتها للشعب الفلسطيني خلال العقد الماضي لا سيما في قطاع غزة. اما مفهوم الوطنية الفلسطينية وتقديمه على مفهوم الاسلامية، فلا يغير في الامر شيئا اذ ان الوطنية متضمنة في الاسلامية، واضافة هذا المفهوم على التعريف جاء لتحديد النطاق الجغرافي لعمل ونشاط حركة التحرر، وكان الميثاق قد وضح ذلك في المواد رقم (5،6).

ومن جهة اخرى يفيد هذا التعريف بما تضمنه من ترتيب للمفاهيم الى حاجة حركة حماس لتكييف ذاتها كحركة تحرر وطني مع نصوص القانون الدولي في هذه المرحلة التي ارتفعت فيها وتيرة الخطاب الدولي الذي يربط ما بين المقاومة غير المرتبطة بحركة تحرر وطني والارهاب، كنتاج لهيمنة الخطاب الاسرائيلي وحلفائه على الخطاب الدولي.

اما فيما يتعلق بحركات التحرر الوطني فقد خصص لها القانون الدولي مساحة واسعة من نصوصه، اذ منح مقاومتها المسلحة لتحقيق استقلالها الوطني وتقرير مصير شعبها مشروعية قانونية، وجعل من نضالها نضالا يطبق فيه قواعد قانون النزاعات العسكرية التي تطبق بين الدول وفق مفهوم اتفاقية جنيف العام 1949.

وبناء على ذلك يكون التعريف قد استهدف جهتين، المجتمع الدولي من جهة لغايات تكييف حركة حماس وفق قواعد القانون الدولي ولتمكينها من نفي صفة الارهاب عنها، والشعب الفلسطيني من جهة اخرى، لغايات تحرير طاقاته للانخراط في المقاومة لغايات التحرر الوطني.

ومرة اخرى تعود حركة حماس ومن خلال هذا التعريف الذي يخاطب الشعب الفلسطيني من جهة واشخاص القانون الدولي من جهة اخرى للتأكيد على انها ليست مكون من مكونات حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي تأسست منذ ستة عقود ونجحت خلال مشوارها النضالي الطويل ان تنتزع مكانتها في المجتمع الدولي باعتبارها احد اشخاصه وذلك في منتصف سبعينات القرن الماضي ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي نجحت مرة اخرى في العام 2013 في تحويل مكانتها الى دولة غير كاملة العضوية في هيئة الامم المتحدة، الامر الذي ساهم في انضمامها الى كل المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة.

هذا فيما يتعلق بمخاطبة التعريف للمجتمع الدولي واشخاصه، اما فيما يتعلق في مخاطبة الشعب الفلسطيني فقد تجلت مخاطبته في الفقرة الاخيرة، اذ عادت حماس وأكدت بأنها الحق جاء ليحاجج الباطل، لا لأن الاسلام مرجعيتها في منطلقاتها واهدافها ووسائلها كما ورد في النص، فالغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني مسلمين ويعتبرون الاسلام مرجعيتهم فيما يخص دينهم، بل لأن حماس تؤمن بأن فهمها للإسلام هو الاسلام الصحيح وهنا تكمن المشكلة كما بينا اعلاه.

وفي ذات السياق افردت الوثيقة عنوانا مستقلا حمل اسم النظام السياسي لتوضيح رؤيتها لطبيعة العلاقة بين حركة حماس من جهة، والشعب الفلسطيني بكل مكوناته بما في ذلك نظامه السياسي سواء القائم، ام المنشود في حال قيام الدولة الفلسطينية المستقلة من جهة اخرى.

وقد تضمن هذا العنوان ثمان مواد بدأت بالمادة رقم (27) وانتهت بالمادة رقم (344)، ولذلك يعتبر هذا العنوان هو اكبر عناوين الوثيقة ال (12) من حيث عدد المواد، اذ تلى هذا العنوان من حيث عدد مواده، عنوانين (الموقف من الاحتلال والتسوية السياسية، والجانب الانساني والدولي)، حيث تضمن كل منهما خمسة مواد.

وفي سياق الحديث عن النظام السياسي الفلسطيني تجدر الاشارة الى ان الفكر السياسي والفقه الدستوري الفلسطيني يواجهان ثلاثة أنماط من النظم السياسية، ممثلة في “منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر وطني، بما تمثله من كيان معنوي، والسلطة الفلسطينية كسلطة حكم ذاتي، وما تمثله من حالة أو مرحلة انتقالية على خطى تقرير المصير، ودولة فلسطين بما تمثله من كيان منشود، كأحد أبرز أهداف تقرير المصير” .

للنظامين الأول والثاني نظامهما الدستوري الخاص بهما، الميثاق “الوطني والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية” كوثائق دستورية تحدد ملامح النظام الأول، وقرار المجلس المركزي للمنظمة الذي بموجبه أُنشئت السلطة الفلسطينية عام 1994، علاوة على القانون الأساسي ذو الطبيعة السامية على التشريعات الأخرى والذي أقر من المجلس التشريعي عام 2007 وصدر عام 2002 وجرى تعديله عام 2003، كوثائق دستورية، تحدد ملامح النظام الثاني..

أما بخصوص النظام الثالث (الدولة المنشودة) فقد أعدت لجنة خاصة لصياغة دستورها، الذي صدرت  ثلاثة مسودات له حتى الآن، كان آخرها في آذار/مارس عام 2003، تأسيسا على الأحكام المتضمنة في إعلان الاستقلال الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشر، الذي انعقد في العاصمة الجزائرية في الخامس عشر من نوفمبر العام 1988، كوثيقة دستورية تحدد طبيعة النظام السياسي للدولة الفلسطينية، وفي العام 2011 شكلت لجنة جديدة لصياغة نسخة جديدة للدستور برئاسة السيد سليم الزعنون ولم تصدر حتى تاريخه نسخة جديدة معدلة لمسودة الدستور الثالثة.

من جهتها الوثيقة لم تشر للوثائق الدستورية المشار اليها اعلاه، لا سيما مشروع دستور الدولة الفلسطينية المنشودة، الامر الذي يفهم منه عدم قبول حماس بأي من هذه الوثائق.

وفيما لم توضح مواد الوثيقة المتعلقة بالنظام السياسي طبيعة هذا النظام وشكل نظام الحكم فيه، الا انه يمكن القول ان حركة حماس يبدو انها تميل الى بناء نظام سياسي تغلب عليه الممارسة الديمقراطية وذلك استنادا الى كثافة المفاهيم الديمقراطية المتضمنة في المادة رقم (28)، والمتعلقة بطبيعة علاقة حركة حماس بباقي المكونات الفلسطينية، اذ نصت المادة المشار اليها اعلاه على “تؤمن حماس وتتمسك بإدارة علاقاتها الفلسطينية على قاعدة التعددية والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار، وبما يعزّز وحدة الصف والعمل المشترك، من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وتطلّعات الشعب الفلسطيني”.

ومرة اخرى تعود الوثيقة وتضع شرطا في نفس نص المادة يلغي ما ذهب اليه القارئ عند قراءته الفقرة الاولى من النص، أي ان قواعد “التعددية والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الاخر واعتماد الحوار”، التي اعلنت حماس عبر نص المادة اعلاه ايمانها وتمسكها بها في ادارة علاقاتها مع الاخر الفلسطيني مشروطة بشرط ان تسهم هذه العلاقات في تعزيز الوحدة الوطنية على قاعدة تحقيق الاهداف الوطنية وتطلعات الشعب الفلسطيني.

وعند تعريف الأهداف والتطلعات الوطنية الفلسطينية من وجهة نظر حماس، يسود تعريفها مرة اخرى ويعلو على تعريف بقية المكونات الفلسطينية التي تعبر عنها منظمة التحرير الفلسطينية، الامر الذي يعني بقاء واقع العلاقة ما بين حركة حماس وكل المكونات الوطنية الفلسطينية على ما هو عليه الآن من انقسام وتغول وتوظيف للقوة التي بحوزتها للتبديد لا للتوحيد، وللتفريق لا للتجميع، وللاعتداء لا للحماية، وذلك الى ان يخضع القوم الى تعريف حركة حماس المقدس كقدسية النص للأهداف والتطلعات الوطنية الفلسطينية.

وفي الختام يمكن القول ان حركة حماس لم تدخل في وثيقتها الجديدة أي تغيير على الاسس الناظمة لعلاقاتها مع الاخر الفلسطيني، اذ بقيت ترفض الاعتراف بأنها احد مكونات الحركة الوطنية والاسلامية الفلسطينية، الامر الذي يفرضه عليها فهمها للنص ولطبيعة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي المحكوم بالنص ذاته، وما على باقي المكونات الا الخضوع لها واللحاق بها، اما فيما يتعلق بعلاقاتها مع محيطها الاقليمي والدولي فقد ادخلت بعض التعديلات مقارنة بميثاق العام 1988، دون الغائه، اذ بقي الميثاق هو الملهم للحركة في مواقفها السياسية وعلاقاتها بالأخر، ويمكن حصر هذه التعديلات بالنقاط التالية:

• زيادة مساحة المفردات والمفاهيم السياسية على حساب المفردات الدالة على العقيدة.

• خلو الوثيقة من أي نص يشير للإخوان المسلمين.

• حصر الصراع مع الاحتلال والمشروع الصهيوني، وليس مع اليهود واليهودية كديانة.

• القبول بدولة فلسطينية مستقلة على حدود العام 1967، كحل توافقي مرحلي.

• اضافة دائرة جديدة لدوائر العمل الفلسطيني هي الدائرة الدولية عبر البوابة الانسانية، اذ اكتفى الميثاق بذكر دوائر ثلاثة هي الفلسطينية والعربية والاسلامية كبيئة استراتيجية لعمل الحركة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن