تسييس القضاء

أ.د. محمد رمضان الأغا

فوجئ شعبنا الفلسطيني أمس بقرار صاعق وصادم من قبل المحكمة العليا بخصوص الانتخابات المحلية المقررة في الثامن من أكتوبر الجاري. القرار ينص على إجراء الانتخابات في الضفة دون غزة؛ وهذه الجملة تعني ببساطة ترسيخ الانقسام. صحيح ان المحكمة العليا هي محكمة من لا محكمة له؛ لكن ذلك محكوم بميثاق شرف توافقي والذي يعتبر في حكم القانون الاساسي وربما اعلى من ذلك. وإن تدخلها فيما لا يعنيها كمحكمة عليا يذهب بهيبتها وبهيبة منظومة القضاء الفلسطيني ككل؛ الأمر الذي يكون له تأثيرات سلبية على القضاء وانعكاسات قاتمة على الوضع السياسي برمته؛ فلن يتحمل المواطن مثل هذا التلاعب في مستقبله أو العبث في مصيره من قبل أعلى المؤسسات القضائية.

ان تسييس القضاء وادخاله في دوامة السياسة والخلافات بين السياسيين و الأطياف السياسية المختلفة لن تكون نتائجه إلا أسوأ من تسييس المال وتسييس المساعدات وتسييس الدعم وتسييس الحياة الفلسطينية بكاملها. لقد عانى شعبنا الفلسطيني كما لم يعان شعب آخر من السياسة و التسييس ودفع فاتورة باهظة على مدار تاريخه وما زال كذلك نتيجة خطأ هنا أو خطأ هناك. شعبنا لم يعد يحتمل مزيدا من المطبات السياسية. إن طاقة التحمل لديه كبرى لكنها ليست إلى ما لا نهاية؛ طاقته في تحمل ظلم الأعداء فاقت كل التصور ؛ لكن طاقته في تحمل تسييس شؤونه الداخلية غير المسموح بتسييسها ليست على ذات المستوى. ولسنا هنا بصدد تعداد قصص التسييس الذى أودى او كاد بكثير من إنجازاتنا الوطنية.

ان الذي يلج العمل السياسي عليه أن يقبل قواعد اللعبة السياسية؛ فماذا يعني أن يفوز هذا الطرف بمقعد هنا ويخسر مقعدا هناك .. فالخسارة اليوم ستكون مكسبا غدا والعكس صحيح؛ لأن الانتخابات تعني تداول السلطة أو الحكم أو الإدارة في هذه المؤسسة أو تلك. إن قواعد اللعبة تقتضي الموافقة بل و الإذعان لكل القوانين والأنظمة والمعايير التي تحكمها دونما تمييز. وتعني كذلك الالتزام بكافة التوافقات التي سبقت العملية الانتخابية. إن القادة السياسيين يقتحمون ساحة العمل السياسي غير هيابين نتائجه مهما كانت؛ بل إن من يخشى نتائج الصندوق او لا يعترف بها ليس بسياسي ولا قائد بل هو قاعد مقعود؛ عليه أن يقعد مع القاعدين.

إن طبيعة النظام الانتخابي النسبي هي طبيعة معقدة ووضعت الصيغة على هذه الشاكلة من أجل التعقيد ومن أجل تقييد فوز القوائم التي لا يريدها واضعو القانون ؛ لكن واضعي القوانين والأنظمة نسوا قاعدة تاريخية واجتماعية كبرى وهي أن السحر ينقلب على الساحر ويرجع الساحر من حيث أتى. صحيح أن للقضاء الكلمة الفصل في أي خلاف ناشئ خلال العملية الانتخابية منذ بدايتها وحتى قبيل استلام الفائزين مواقعهم التي تقدموا لها وذلك حسب تفاهمات الشرف. إن التراضي هو السبيل الاهم الذي يجب أن يسود بين كافة الكتل المتنافسة؛ والاعتراف بالهزيمة قمة الأخلاق بل قمة الديمقراطية؛ كما ان تهنئة المنتصر أو الفائز هي قمة التسليم بالنتائج وعليه فإن الطرف الخاسر يذهب بعدها في اتجاهات عدة اهمها:

التحضير للانتخابات القادمة والإعداد لها أو أن يذهب بعض أبناء هذه الكتل إلى سبيلهم فيرجعوا إلى ممارسة حياتهم الاعتيادية كرجال أعمال أو وجهاء سياسيين أو مجتمعيين إلى ما غير ذلك. والبعض الآخر من الممكن أن يغادر هذه الساحة إلى ساحات أخرى.

من حق أي كتلة أو مواطن أو مؤسسة أن يطعن في أي مرشح وقد كفل القانون ذلك للجميع على أن يقدم الأدلة الكافية للإدانة والا فسوف لن يتم النظر في هكذا طعون. وعلى المطعون بهم أن يتلقوا ذلك بروح رياضية ونفس رضية؛ فإن من حق المواطنين أن يتمتع ممثلوهم بصفحات بيضاء لا تشوبها شائبة ذات اليمين أو ذات الشمال نكتة هنا أو هناك.

إن نزاهة القضاء واستقلاله وشفافيته وابتعاده عن تأثيرات السلطة التنفيذية أو التشريعية أو مؤثرات أخرى؛ هي الضمانات التي يجب على الجميع توفيرها من أجل أن تجري العملية الانتخابية في أجواء مناسبة لجميع المرشحين بغض النظر عن انتماءاتهم أو توجهاتهم السياسية أو حتى تنظيماتهم الاجتماعية والعشائرية.

إن الأوضاع الهشة التي يعيشها المجتمع منذ ما يزيد على عقدين من الزمن او اكثر لا تسمح بإدخال عوامل تفتيت أو تسخين جديدة كاستخدام صلاحيات سياسية أو إدارية أو ضغوط اجتماعية للتأثير على المسارات أو الإجراءات أو النتائج. لأن ذلك بلا شك ينعكس سلبا على النسيج المجتمعي والسلم الاجتماعي.

أنقذوا القضاء من براثن السياسيين هي صرخة مجتمع بأكمله؛ أعيدوا للقضاء هيبته وللشعب دوره في ممارسة التغيير عن طريق الانتخاب. إن تسييس القضاء جريمة يرتكبها السياسيون ورجال القضاء معا … ارفعوا أيديكم عن القضاء ….

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن