تقرير: المعطيات والأرقام الإسرائيلية حول واقع المياه في فلسطين مزورة ومشكوك بمصداقيتها

تقرير: المعطيات والأرقام الإسرائيلية حول واقع المياه في فلسطين مزورة ومشكوك بمصداقيتها

ناقش الخبير البيئي ومدير وحدة الدراسات في مركز العمل التنموي / معا، جورج كرزم، ما كشفه الخبير الاقتصادي الإسرائيلي المعروف “يوفال إليتسور” (هآرتس، 24/1/2014) مؤخراً بأن إسرائيل تتمتع حالياً بفائض مائي للاستهلاك البشري وللزراعة؛ وذلك، إلى حد بعيد، بسبب إقامتها بضع منشآت جديدة لتحلية المياه، وتطويرها حقول الغاز الطبيعي الذي يمكنه تشغيل تلك المنشآت بثمن بخس. ولكن، رغم ذلك، ولأسباب سياسية واقتصادية واضحة، تحرص الجهات الحكومية الإسرائيلية على التقليل من شأن هذه الحقيقة، وتواصل زعمها بأن “البلاد” (أي فلسطين التاريخية إجمالا) تعاني من شح الموارد المائية، ويجب، لذلك، “الحفاظ على كل قطرة ماء”.

وربط كرزم قضايا الصراع المائي بالتاريخ المعاصر فمنذ حقبة الاحتلال البريطاني (1917-1948)، لعب الشح المزعوم للمياه في فلسطين ومحيطها دورا وتأثيرا حاسمين في الصراع السياسي بين الصهاينة والعرب. بل شكل الصراع على المياه أحد الأسباب الرئيسية لشن إسرائيل حربها العدوانية التوسعية في حزيران 1967. وفي ما سمي “معاهدة السلام” التي وقعت عام 1994 بين الأردن وإسرائيل، “تعهدت” الأخيرة بنقل 50 مليون متر مكعب من المياه سنويا إلى الأردن من روافد بحيرة طبريا.

ومنذ إنشائها، اعتبرت إسرائيل الموارد المائية مسألة أمنية استراتيجية من الدرجة الأولى، ودأبت باستمرار على زيادة الكميات المنهوبة ليس فقط من فلسطين، بل ومن سائر الأراضي العربية، وبخاصة لبنان وسوريا. لذا، فإن الحكومة الإسرائيلية وحدها هي التي تقرر مباشرة كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالسياسة المائية.

لكن، وبحسب “إليتسور”، ولأغراض تعزيز الاستيطان الصهيوني في فلسطين خلال فترة الاحتلال البريطاني، دأب خبراء المياه الصهاينة آنذاك، على تزويد البريطانيين بتقديرات مغلوطة ومبالغ فيها حول الاحتياطي المائي في فلسطين، زاعمين أن حجم الموارد المائية في فلسطين أكبر بكثير مما ورد في التقارير البريطانية ذاتها. هكذا فعل المهندس الصهيوني “سيمحا بلاس” الذي عمل لفترة طويلة في شركة المياه القطرية الصهيونية (“ميكوروت”) وفي سلطة تخطيط المياه (“طاهَل”)؛ إذ زعم بأن إمكانيات إسرائيل المائية تجاوزت 3 مليار متر مكعب سنويا (المصدر السابق).

ويوضح “إليتسور” بأن المبالغة في تقدير إمكانات مصادر المياه كانت أداة فعالة بيد التجمع الاستيطاني الصهيوني (“الييشوف”) لدى تعامله مع البريطانيين. كما هدفت تلك المبالغة إلى التقليل من مخاوف مجاميع اليهود الذين عملت الحركة الصهيونية على استجلابهم إلى فلسطين؛ وذلك قبل عام 1948 وخلال السنوات الأولى التي أعقبت إنشاء الدولة اليهودية (المصدر السابق)؛ إذ تميزت تلك الفترة بالهجرات اليهودية الاستعمارية الواسعة إلى فلسطين وبالمصاعب الاقتصادية.

وقد تسبب هذا التوجه الاستعماري الصهيوني في الضخ (الإسرائيلي) المفرط للمياه، وما ترتب عليه من تملح آبار خزان المياه الجوفية الساحلية؛ ما أدى إلى إقامة مشاريع مائية صهيونية مكلفة، مثل نقل المياه من بحيرة طبريا إلى النقب؛ إضافة إلى زراعة محاصيل تستهلك كميات ضخمة من المياه، مثل بنجر السكر (الشمندر السكري)، القطن والفول السوداني. وعلى سبيل المثال، بنجر السكر كان يستخدم مادة خام لإنتاج السكر في مصنعي السكر الإسرائيليين في العفولة ومستعمرة “كيريات غات”، وقد أغلقا لاحقا حينما توقفت زراعة البنجر بسبب استهلاكه الكبير للمياه. وفي المقابل، كانت صناعة القطن الإسرائيلية أفضل حالا، إذ تميز القطن بإمكانية ريه بالمياه المالحة. وبالرغم من أن مصانع القطن الكبيرة التي بنيت في المدن الإسرائيلية الجنوبية النائية وفرت العمل للمستوطنين اليهود في الفترة بين الخمسينيات والسبعينيات؛ إلا هذه القطاع لم يستطع لاحقا الصمود أمام القطن المستورد من الشرق الأقصى.

ويشير كرزم إلى أن الاستيطان الصهيوني الواسع الذي رافق إنشاء دولة إسرائيل، أثبت بأن موارد المياه التي كانت قائمة في فلسطين المحتلة عام 1948 (أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات) لم تكن كافية لإشباع احتياجات المجتمع الاستيطاني الجديد، سواء للاستخدامات المنزلية أو للصناعة أو للزراعة التي كان لها آنذاك حصة كبيرة في الاقتصاد الإسرائيلي. فقد تبين بأن المياه الجوفية (في الأرض المحتلة عام 1948) لا تستطيع تزويد إسرائيل بأكثر من مليار متر مكعب سنويا، حتى لو تم استغلال الآبار استغلالا جائرا. كما أن مياه الأمطار، وتدوير المياه الناتجة عن الصناعة، ومصادر المياه المالحة والمياه العادمة (التي بدأت إسرائيل بتكريرها في مرحلة مبكرة) لم تتمكن من توفير زيادة إضافية في المياه بأكثر من 350 مليون متر مكعب سنويا. من هنا جاء القرار الإسرائيلي لإقامة “ناقل المياه القطري” بهدف نقل المياه من بحيرة طبريا نحو الجنوب (بمسافة طولها 130 كيلومترا). قرار إنشاء الناقل اتخذ عام 1948، لكن في عام 1964 نفذ فعليا المشروع الذي ينطوي على تحويل المياه من ثلاثة أنهار في الشمال (الأردن، اليرموك والليطاني) إلى الجنوب.

في الواقع، كان الخبير الصهيوني “والتير كلي” هو أول من طرح عام 1939 فكرة نقل المياه إلى النقب؛ وذلك كما جاء في كتابه: “فلسطين أرض الميعاد”. بل إن فكرة مشروع قناة البحرين (الأحمر-الميت) جاءت أيضا قبل قيام الدولة اليهودية بكثير، وقبل أن تبدأ “إسرائيل” أصلا بسرقة المياه العربية، وبالتالي قبل بروز مشكلة جفاف البحر الميت. بمعنى أن فكرة إنشاء قناة البحرين، تاريخيا، لا علاقة مباشرة لها بمسألة “إنقاذ البحر الميت من الجفاف”، حيث إن المشروع الأنجلو – صهيوني القديم لإقامة دولة يهودية في فلسطين، أخذ في الاعتبار أن مثل هذه الدولة العصرية المزمع إنشاؤها على أنقاض الوجود البشري للشعب الفلسطيني، سوف تستهلك كميات ضخمة من المياه الفلسطينية المغذية للبحر الميت، الأمر الذي يستلزم لاحقا عملية تعويض مائي للأخير، وذلك من خلال شق ما يسمى قناة البحرين. أي أن فكرة القناة جاءت أصلا، وبشكل مخطط له بدقة، بهدف تعويض ما كان مبرمجا أن تنهبه الدولة اليهودية المزمع إقامتها، من مياه.

وحاليا، نقلاً عن كرزم، تنهب إسرائيل عبر الناقل القطري والسدود التي أقامتها على طول نهر الأردن لتحويل مياه النهر إلى النقب وغيره، أكثر من 600 مليون متر مكعب من المياه سنويا (من بحيرة طبريا ونهر الأردن اللذين يغذيا البحر الميت)، أي ما يعادل نحو ثلث الاستهلاك الإسرائيلي من المياه. ويعترف “إليتسور” (المصدر السابق) بأن هذا النهب الإسرائيلي لمياه حوض نهر الأردن طيلة الخمسين سنة الماضية، قد سبب أضراراً هائلة لحوض النهر، وبخاصة تدهور أوضاع البحر الميت بسبب الهبوط المريع في كمية المياه المغذية له من نهر الأردن.

تغيير جذري في الوضع المائي الإسرائيلي

ويفيد كرزم إلى أنه في عام 2008 قررت الحكومة الإسرائيلية إنشاء خمس منشآت تحلية كبيرة على طول الساحل الفلسطيني، وذلك بهدف توفير 505 مليون متر مكعب من المياه المحلاة سنويا بحلول عام 2013 (وقد تحقق هذا الهدف عمليا العام الماضي)، وصولا إلى 750 مليون متر مكعب سنويا حتى عام 2020. لكن، منذ عام 2008، طرأ تحولان تكنولوجيان نوعيان انطويا على آثار سياسية بعيدة المدى وغيرا جذريا الوضع المائي في إسرائيل.

التحول الأول تمثل في الهبوط الكبير بتكلفة عملية التحلية، وذلك من دولار واحد سابقا للمتر المكعب، إلى 40 سنتاً بل وأقل من ذلك في منشآت التحلية الكائنة في الخضيرة ومستعمرة “بلماخيم”، وعسقلان ومستعمرة “سوريك”. ومن المتوقع أن تزداد أكثر الوفورات بفضل استخدام الغاز الطبيعي المنهوب من الأرض الفلسطينية لتشغيل منشآت التحلية، بدلا من الكهرباء.

أما التحول الثاني فتمثل في نجاح عمل محطات معالجة المياه العادمة، والتي (أي المحطات) أقيمت بمحاذاة المدن والبلدات. وبفضل تكرير المياه العادمة واستعمالها الفعال، فإن معظم المحاصيل الحقلية الإسرائيلية تروى حاليا بالمياه العادمة المعالجة. الغريب في الأمر، أن الجهات الإسرائيلية التي جلبت “الوفرة” المائية للمجتمع الإسرائيلي، وهي تحديدا الحكومة، شركة “مكوروت” والشركات التي استثمرت المليارات في إنشاء مرافق التحلية والتنقية، تحافظ على نبرة منخفضة.

بحسب “إليتسور”، يوجد على الأقل ثلاثة تفسيرات لهذا الصمت الإسرائيلي غير المعهود، رغم النجاح ووفرة المياه التي تتمتع بها إسرائيل الآن. التفسير الأول يقول بأنه رغم الهبوط الكبير في تكلفة تحلية المياه، إلا أن الحكومة الإسرائيلية وعدت المستثمرين بسعر مرتفع للمياه؛ فالحكومة يمكنها أن تقلل كمية المياه التي تشتريها من مرافق تحلية المياه، إلا أنه لا يمكنها أن تدفع أقل مما وعدت به (المصدر السابق).

تفسير “إليتسور” الثاني (المصدر السابق) يتعلق بخوف السلطات من معرفة الجمهور الإسرائيلي لحقيقة الوضع المائي؛ عندئذ سوف يطلب ذلك الجمهور خفض أسعار المياه بما يزيد عن نسبة الخمسة بالمائة التي أعلن عنها في كانون ثاني الماضي (بلغ مجموع فواتير المياه غير المسددة في إسرائيل عام 2013 أكثر من 200 مليون شيكل).

كما يطرح “إليتسور” تفسيرا ثالثا للتكتم الإسرائيلي على الحقائق، بقوله إن هناك قلقا رسميا من أن الإسرائيليين سوف يهدرون المياه إذا عرفوا مدى وفرتها الحقيقية. ولكن، يتساءل “إليتسور”: هل هذا يبرر سياسة السلطات بإخفاء الحقيقة كاملة عن الجمهور؟

ويشير “إليتسور” أيضا إلى السبب السياسي الكامن خلف الغموض الإسرائيلي الخاص بحقيقة الواقع المائي الإسرائيلي؛ ذلك أن إسرائيل تستخدم مسألة المياه كوسيلة ضغط على العرب؛ فتستغلها لتحسين موقعها التفاوضي وعلاقاتها مع كل من الأردن والفلسطينيين وابتزاز الأخيرين (المصدر السابق).

محطة التحلية في العقبة اختراع شركة “ميكوروت”

كما نعلم، يضيف كرزم، يعاني الأردن وفلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة من نقص مريع في المياه؛ بل إن الأزمة المائية تفاقمت في الأردن نتيجة تدفق اللاجئين من سوريا. إسرائيل تستغل نهبها للمياه العربية، من ناحية، وتقنياتها الخاصة بإنتاج المزيد من المياه المحلاة، من ناحية أخرى، كي تبيع المياه للعرب مباشرة من محطات التحلية، أو كي تنخرط في إنشاء مرافق تحلية مماثلة في البلدان العربية.

وبحسب اتفاقية “وادي عربة” (بين إسرائيل والأردن) تزود إسرائيل الأردن بفتات مائي مقداره 50 مليون متر مكعب من المياه سنويا من نهري الأردن واليرموك، في حين يضخ الأردن المياه من المنطقة المقابلة لوادي عربة في جنوب فلسطين لري المحاصيل الإسرائيلية هناك. وفي الآونة الأخيرة، قررت إسرائيل في الخفاء تقريبا، زيادة المعروض من مياه نهر الأردن (إلى الأردن) بمقدار20 مليون متر مكعب سنويا.

كما أن الأردن اتفقت مبدئيا مع إسرائيل على حل مشكلة عجزه المائي من خلال عملية تبادل مياه عربية بمياه عربية أخرى، وذلك عبر إقامة الأردن لمنشأة تحلية في العقبة تزود المستعمرات الإسرائيلية في جنوب فلسطين بالمياه، وتحديدا مستعمرات جنوب العربة. ومقابل كل متر مكعب من المياه التي سيزودها الأردن للمستعمرات الإسرائيلية الجنوبية، ستزود إسرائيل الأردن بالمياه من بحيرة طبرية المنهوبة إسرائيليا أصلا، أو من منشآت التحلية الإسرائيلية في شمال فلسطين.

ومن المثير أن “إليتسور” كشف بأن فكرة بناء محطة التحلية في العقبة جاءت أصلا من شركة “ميكوروت” الإسرائيلية؛ إذ عرض وفد الشركة الأخيرة على أن الأردن فكرة بناء محطة التحلية و”مساعدته” في تنفيذ المشروع، وذلك في منطقة تبعد نحو 50 كيلومترا إلى الشمال من العقبة، بحيث تغذيها المياه من البحر الأحمر. وهذا المشروع تحديدا يشكل جوهر ما يسمى “مذكرة التفاهم” التي وقعت بواشنطن في كانون اول الماضي (بين إسرائيل-الأردن-السلطة الفلسطينية) لإنتاج مياه محلاة في منطقة العقبة. وهذا يؤكد ما ذكره أكثر من مرة كاتب هذه السطور (راجع عدد شباط الماضي من آفاق البيئة والتنمية)، من أنه ليس فقط فكرة المشروع الكامل لقناة البحرين هي أصلا اختراع صهيوني، بل أيضا ما يسمى المرحلة التجريبية أو المرحلة الأولى لمشروع القناة الكامل، والمتمثلة بإنشاء محطة التحلية المذكورة في منطقة العقبة، حسب مواصفات شركة “ميكوروت”!

وختم كرزم بالقول: تطبيقا لمشروع “ميكوروت” شهدت واشنطن، في التاسع من كانون أول الماضي (2013)، توقيع كل من إسرائيل، الأردن والسلطة الفلسطينية على ما سمي “مذكرة تفاهم” لإنتاج مياه محلاة في منطقة العقبة، ومن ثم جعل نحو 100 مليون متر مكعب من المياه المالحة (المحلول الملحي) تتدفق سنوياً من منشأة التحلية جنوباً، نحو البحر الميت شمالاً. وبحسب نص “مذكرة التفاهم”، فإن الحديث يدور عن إنشاء “المرحلة الأولى/المشروع التجريبي لمشروع قناة البحرين الأحمر- الميت الكامل”؛ علما بأن المشروع الكامل سيتضمن العديد من الأنابيب الكبيرة ومنشآت تحلية ضخمة ومحطات توليد الكهرباء، ويتوقع أن يؤدي إلى تدفق نحو مليار ونصف المليار متر مكعب سنويا من مياه البحر الأحمر في البحر الميت؛ وذلك بتكلفة نحو 10 مليار دولار أميركي. بمعنى أن المذكرة الموقعة في واشنطن تشكل تفاهما إسرائيليا-أردنيا-فلسطينيا رسميا لتنفيذ توصية البنك الدولي في دراسة الجدوى (حول مشروع القناة). ونصت “مذكرة التفاهم” على أن الدراسة المذكورة “أوصت بالاستمرار بالمشروع ولكن من خلال تطوير المشروع التجريبي/المرحلة الأولى التي ستضم في نطاق أصغر عناصر مشروع البحر الأحمر-البحر الميت الكامل”.

ورغم التعتيم الإسرائيلي الذي لا يزال يجعل من الصعب على إسرائيل أن تصبح قوة مائية إقليمية، لم يعد هناك أدنى شك (كما الغاز الطبيعي الذي تنهبه حاليا إسرائيل من البحر المتوسط) في أن الوفرة المائية الإسرائيلية المتوقع تعاظمها، ستحدث تغييراً كبيرا في الوضع الاقتصادي والسياسي لإسرائيل.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن