حرائق غزة: حين يتكئ الفلسطيني على جراحه وزمنه

عبدالكريم كاظم
عبدالكريم كاظم

(لأن الزمن في غزة ليس عنصراً محايداً، أنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل ولكنه يدفعهم إلى الإنفجار والارتطام بالحقيقة/محمود درويش)

ﺣﺮاﺋﻖ ﻏﺰة ﺗﻜﻤﻦ ﻓﻲ ﺗﻌﺮﻳﺔ اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ـ اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ العربي، ﻓﻲ ﻧﻘﺪ ﻛﻞ اﻷﻓﻜﺎر العربية الزائفة اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻌﺐ دور الحاجز المخادع واﻟﺘﻲ ﺗﺼﺎدر، ﻋﻦ وﻋﻲ أو ﺑﻼ ﺷﻌﻮر، ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻔﻌﻞ واﻟﻜﻼم واﻟﻔﻜﺮ واﻹﺑﺪاع، ﺣﺮﻳﺔ اختراق وتمزيق دروع القدريات اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﻌﻨﻴﺪة واﻟﻌﺘﻴﺪة والممارسات السياسية العربية المتواطئة والزائفة، وإذا ﻛﺎﻧت هذه الحرائق ﻗﺪ أﻇﻬﺮت ﻋﺪم تمكن الإسرائيلي من اختزال الفلسطيني فالأمر يتوقف في آخر المطاف على المستقبل الذي سيصنعه أطفال غزة بوسائلهم الخاصة وبمقاومتهم الباسلة في ظروف جد صعبة .

ﻳﺘﻜﺊ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﺟﺮاﺣﻪ ﻟﻴﻠﻌﺐ دوره اﻟﺮﺳﻮﻟﻲ ﺑﺸﻜﻞ مدهشٍ، ويتكئ أيضاً على إرثه النضالي ليكون مقاوماً وﻃريقه إﻟﻰ الحياة مناسبة يدلل فيها على طرقه إلى المقاومة واﻧﺘﺼﺎره في الحياة ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻟﻜﻞ اﻧﺘﺼﺎر لاحق لأن الحياة درجة عليا ترفع حاملها فوق غيره درجات . يرى اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺮاه ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺎ ويطلُّ من تحت الانقاض ليعطي للحياة أول أقواله: ليست المعاناة الفلسطينية إلا لحظة تأريخية فاصلة هي الدافع إلى البحث عن الحياة والجمال والإصرار الذي ينخرط في مغامرة التساؤل عن ألغاز الكون وكينونته أو عن معنى الحرية .

ﺛﻤﺔ ﺻﻠﻒ ﻟﺪى اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻈﻨﻮن أن أﻣﺮا مستثنىً من حرائق غزة ودماء أطفالها ونساءها وشيوخها، ﺻﻠﻒ ﻣﺎ أﺻﻌﺐ اﻟﻘﺒﻮل ﺑﻪ، ﻟﻌﻠﻪ آن اﻷوان أن ﻳﺪرك اﻟﺒﻌﺾ أن ما هو مختلف فلسطينياً هو معيار بحد ذاته، معيار لا يسوغ المراوغة وانما يسمح بأن تتأكد قيمة الفلسطيني المقاوم على نحو مختلف وعلى مستوى أرفع مما هو متجسّد في الواقع وفي ضوضاء ما يسميه البعض بأسماء غريبة .

آﻻف ﻣﻦ أﻫل فلسطين فيﻏﺰة وغيرها من المدن المغتصبة ﻳﺴﺎﻫﻤﻮن ﻓﻲ ﺑﻨﺎء الحياة وهُمْ في قبضة الموت وزحمة الرضوض الروحية والنفسية، يقومون بهذا البناء الروحي ـ النفسي في صمت، لا تنقصهم الشجاعة وصلف الثقة بالنفس ومما يملكه الأسوياء، يعيشون في وسط الموت والخراب والظلم ليستعيدوا للأمل الفلسطيني ثقته .

ﻳﺒﺪو ﻋﻮاء اﻟﺒﻌﺾ سياسياً ـ ﺛﻘﺎﻓﻴﺎ وكأنه محاولة للإجابة عن سؤال الخيبة، الخيبة من غير تحديد، التي تبرر الفشل السياسي ـ الثقافي العربي حيناً وتسيج النفس الخائبة من قلق المستقبل المجهول غالباً، ونقول من غير تحديد لأن الخيبة العارمة تبحث عن لسان متلون يتحدث بألسنة متعددة، والخيبة العربية لا ترى الخائب إلا كما يرى نفسه، أما نظرتنا إليه فمسكونة دائماً بما يتعدى الشفقة أو الإزدراء .

إﻟﻰ أي ﺣﺪ ﻋﺒﺮت ﺣﺮاﺋﻖ ﻏﺰة ﻋﻦ إﺷﻜﺎﻟﻴﺎت ﻣﺎ يمكن ﺗﺴﻤﻴﺘﻪ ﺑــ (المثقف الصامت أو السياسي الثرثار) وإذا كانت هذه المجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني في غزة من أكبر وأخطر وأبشع مجازر العصر يمكننا أن نتصور حجم المشاعر والعواطف والغضب الذي أثارته في نفوس العالم الصامت فإسرائيل التي تأسست على العدوان لا تستطيع الحياة إلا في ظله وفي ظل الاستقواء الامريكي على شعوب المنطقة بالتوازنات الدولية والإقليمية او بالاصطفافات والمحاور العربية منها وغير العربية، إنها بحاجة دوماً للحرب حتى ولو كانت صغيرة عابرة أو محلية كي تستمر في الكراهية أو الابتزاز العنصري للعالم، وخطة إسرائيل تقوم من حيث الأساس على المراهنة وعلى عدم قدرة العرب على استيعاب دروس الماضي المتنوعة وفهم وتمثل المعطيات السياسية الراهنة، أنها تراهن على أنهم، وأعني العرب، سيبقون أسرى لمواقفهم الانفعالية بين الإحباط والانتحار وأنهم سيبقون متأخرين بمرحلة أو مرحلتين عن دورة الزمن في هذا العصر، وبذلك تريد إسرائيل من خلال حروبها وعنصريتها وكراهيتها للسلام أن تقول للعالم بأن هذه المنطقة العربية المليئة بالحمقى والمتمردين لا تستقيم أمورها إلا والعصا فوق رأسها، وليس (للديمقراطيات) الغربية الزائفة والكاذبة من بّد من تسليم العصا لليد الإسرائيلية الحاقدة والمتحمسة أو الجاهزة دوماً لتلويث نفسها بدماء الأبرياء من الفلسطينين .

ﻣﺪاﻓﻊ ودﺑﺎﺑﺎت وﻃﺎﺋﺮات وﻓﺴﻔﻮر أﺑﻴﺾ وتنين إﺳﺮاﺋﻴﻠﻲ ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺨﺮج من قمقمه، وكأن فلسطين وليمة لأسماك القرش الإسرائيلية، مفردات كهذه كَثُر الحديث عنها وعن دورها الهمجي في دولة ـ جيش بلا أخلاق، وكلما ازددت تأملاً في تفاصيلها ودلالاتها أجدني في خضم تساؤلات معني فيها بإجابة واضحة لسؤال جوهري ملّح يقلقني: أين هي دول العالم المتحضر، بوجه خاص، من هذه الدولة المارقة أو بالتحديد من حديقة الديناصورات وأسماك القرش الإسرائيلية؟ ماذا نحن ككّتاب عرب فاعلون أمام دولة إرهابية مارقة؟ هل سنواجهها بقوة الكلمة وبخطاب إعلامي رصين أم سننضم إلى مدن الصمت؟ الحقيقة هي انه لا توجد أدلة كافية تنفي السلوك العنصري الدموي لإسرائيل الذي تميزت به .

وأﻧﺎ أﺣﺎول اﻟﺘﻌﺮف ﻣﺠﺪدا، بعد حرائق غزة وزمنها، على ملامح مستقبل الخارطة السياسية أو الثقافية العربية واستشراف علاماتها الحقيقة والمشبوهة، فالواقع اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ـ اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ اﻟﻌﺮﺑﻲ اﻟﺮﺳﻤﻲ وإن ﺑﺪا ﻟﻨﺎ اﻟﻴﻮم ﻣﻈﻠﻤﺎ وسوداوياً وتابعاً إﻻ أن اﻟﻘﺪرة ﻋﻠﻰ ﻓﻬﻢ اﻟﺘﻐﻴﺮات المتسارعة ﻓﻴﻪ، وﻣﻦ ﺣﻮﻟﻨﺎ، والوعي في استيعاب مدلولاته الرسمية وإعادة النظر في أحوالنا الثقافية المضطربة وأوضاعنا الحياتية الراهنة المربكة لهو المدخل إلى فهم أنفسنا من جديد، نجابه منه ضعفنا وصمتنا وبالتالي نستعد لمواجهة تحديدات مستقبل، يشكلونه لنا، إن نحن لم نتداركه، من الممكن والمؤسف والسيء أيضاً أن يصبح مصيرنا . ومع ذلك يمكننا القول أن الأمل القديم أو الزمن الفلسطيني الجديد على مرمى حجر من المستقبل .

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن