عن الانقسام والوطنيات الفرعية

د.عاطف ابو سيف
د.عاطف ابو سيف

بقلم / د.عاطف ابو سيف

ترك الانقسام أثره على كل مناحي الحياة في كل ما تبقى من فلسطين ويكاد يجهز على فكرة “الفلسطينية” التي شكلت جوهر تشكل وتبلور ونمو الحركة الوطنية الفلسطينية منذ مطالع القرن العشرين، بل إنه صار يصعب الحديث عن الواقع الفلسطيني ومآلات المستقبل دون الجزم بمثل هذه التداعيات والتأثيرات التي نجح الانقسام بصبغها بلونه الفاقع، وإذا أعملنا مبضع الشك والتأويل فإنه من السهل القول كيف كانت يد إسرائيل طولى في تسهيله وتعزيزه والدفع باتجاه بقائه، بالطبع بجانب قوى إقليمية ذات امتدادات وأجندات أبعد من حدودها التي لا تزيد على مئات الكيلومترات وحتى حين يتم استبعاد مثل هذه الشكوك والجزم بأن الانقسام بكل مساوئه هو في المحصلة فعل فلسطيني ذاتي فإن تحليل أثره وتداعياته يكون أكثر قسوة. تشكلت الحركة الوطنية الفلسطينية في مطالع القرن العشرين ضمن نسقين تفاعليين. النسق الأول تشكل في خضم نهوض الوطنيات المحلية في الأقطار العربية بعد اتفاقية سايكس بيكو وهزيمة الدولة العثمانية وبحث سكان كل قطر عن بلورة وطنيتهم الخاصة التي تعمل على حماية حقوقهم في مناهضة قوى الاحتلال (الانتداب وجه من وجوهه رغم أنف الأمم المتحدة والقانون الدولي) والعمل على التخلص منه، إنها ذات الطريقة التي استيقظت فيها مشاعر الوطنية في كل البلدان التي وقعت تحت حراب الكولونيالية، وربما ساهم تراجع قوة الدفع القومي في العقود الأولى للاحتلال الأوروبي للبلدان العربية مع التحالفات الفرعية التي شكلتها بعض القوى العربية مع الدول المحتلة والشعور بالخذلان في تقوية الحاجة للبحث عن وطنية محلية تكون قادرة على مناهضة الاحتلال والتخلص منه، ضمن هذا النسق أيضاً تبلورت مظاهر الحركة الوطنية الفلسطينية، بالطبع يمكن رد تمظهرها إلى لحظات تاريخية سابقة تعود إلى دولة ظاهر العمر وغيره، ولكن العمر لم يكن يبحث عن دولة أو وطنية بل كان يبحث عن نفوذ، عموماً نهضت الوطنية الفلسطينية في نفس الوقت التي بدأت تنهض فيه الوطنيات في السياقات الكولونيالية المعاصرة. النسق الثاني لتشكل الوطنية الفلسطينية كان ظهور التهديد الخارجي الذي شكلته الحركة الصهيونية والمشروع الاستعماري الإحلالي الذي تركز في أساسه على سرقة الأرض وتهجير الناس ومصادرة الحق ونفيه، وشطبه حتى من الوعي والتفكير وكتب التاريخ. مما لا شك فيه أن الصهيونية كحركة عنصرية واستعمارية تشكلت على فكرة نفي الفلسطينية وبالتالي ساهمت بطريقة غير مقصودة في تعزيز الشعور الفلسطيني بضرورة تشكيل الحالة الوطنية كنقيض للوجود الصهيوني، من هنا فإن أولى محاولات تمظهر الوطنية الفلسطينية في العقد الثالث من القرن العشرين وممارسة دورها كمشكل وناظم ومتحكم في الغضب الشعبي ومعبرة عن تطلعات الناس وآمالهم كانت في مجابهة المستوطنين اليهود الذي بدؤوا يفدون من البحر لسرقة الأرض، وربما شكل الخطاب المناهض لسرقة الأرض وبناء المستوطنات عليها ورفض كل مشاريع التسوية جوهر التفات الناس والنخبة لظهور حركة وطنية. ويمكن إضافة نسق ثالث ومهم كان حاضنة أساسية في تمظهر الحركة الوطنية الفلسطينية ومأسستها بعد النكبة، إنه نسق النكبة ذاتها وما شكلته من حالة تهديد بمحق الفلسطينيين من الوجود. دفعت النكبة بعد أن أفاق الفلسطينيون من سكرتها إلى البحث عن سبل الحفاظ على ما تبقى والعمل على استعادة ما ضاع، من هنا كانت تشكل منظمة التحرير الفلسطينية إبرة الحياة التي حمت الفلسطينيين من أن يكونوا مجرد قبائل هندية تضيع في التاريخ الاستعماري الأميركي ومتزامنا مع هذا تشكل فصائل المقاومة الفلسطينية بتكويناتها المختلفة والتي أعادت للفلسطيني القوة والاعتزاز بالنفس وبات يقاتل تحت لواء وطنيته لا تحت وصاية عربية. “الفلسطينية” كتعبير عن الحالة الجمعية الوطنية وبلورة للتطلعات الموحدة للفلسطيني في الشتات والداخل باتت مهددة ضمن حالة الانقسام التي تستمر لعامها التاسع. بالطبع يمكن رد الخلافات الفلسطينية الداخلية إلى ثلاثينيات القرن العشرين أي في المرحلة الجنينية للوطنية الفلسطينية، خاصة الصراع بين الأحزاب الفلسطينية، لكن حتى هذه الصراعات لم تكن إلى أحد مفاعيل تشكل الوطنية والبحث عن صيغ توافقية داخلها، وكنت كتبت على هذه الصفحة قبل أعوام أن الصراع الداخلي كما تخبرنا تجارب الشعوب وخبرات الحركات الوطنية أساس في البحث عن صيغ جمعية تكون محط توافق الجميع وتساهم في صياغة توافقات أوسع تكون نقط الالتقاء أو الجينات الوراثية التي تحدد شكل الجنين.

لكن مع استمرار الانقسام فإن تمظهر السياقات المحلية، التي تغذيها قوى إقليمية وخطابات إعلامية خارجة عن الوطنية الفلسطينية وبوق وفضائيات كبرى تجعل من فكرة “الغزاوية” مثلاً رديفاً لحالة البطولة والثبات ولكن في الحقيقة تسعى لأن تجعلها بديلاً للوطنية الفلسطينية. حيث تستخدم عبارات مثل الشعب الغزي والمقاومة الغزية والفنان الغزي وما إلى ذلك ليس من أجل تأكيد الهوية المحلية الضيقة، على سوء ذلك، ولكن من أجل تأكيد حالة الانفصال والدفع باتجاه تصليب الهوية الفرعية على حساب الهوية الأساسية واحلاها مكانها. المؤكد أن لا شيء بريئا في كل ما يجري خاصة حين تتجند قوى خارجية وفضائيات دولية في ترسيم هذه المفاهيم وترسيخها. وأمام التحولات التدريجية ولكن الثابتة في المواقف والتأسيس لفكرة غزة المنفصلة والذهاب بعيداً في عملية تعزيز الانقسام سواء على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي أو الاجتماعي والتعليمي فإن الوطنية الفلسطينية ستصبح وطنيات وسيكون من السهل الحديث عنها بصيغة الماضي. قد يكون ما يجري مصلحة آنية للبعض لكنه في النهاية طامة كبرى على المستقبل، الوطنيات كما البلدان لا تُبنى بردات فعل وبمصالح حزبية وفئوية ولا بالانصياع لأجندات خارجية، ولا يمكن حتى الشك بأن دماء الشهداء الذي رووا تراب الوطن والذين استبسلوا حتى تظل كلمة فلسطين مرفوعة يمكن أن تكون ثمناً لمثل هذا الواقع البائس ولا هي كانت من أجله.

 

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن