مناسبة اجتماعية بنكهة سياسية وقفة تقدير لسفارتنا في الهند

مناسبة اجتماعية بنكهة سياسية وقفة تقدير لسفارتنا في الهند

بقلم: د. أحمد يوسف
أثارت قصة زواج ابنتي من هندي مسلم بعض الحوارات الشيقة في وسائل الإعلام وعلى شبكة التواصل الاجتماعي، ربما لمكانتي كمستشار سياسي سابق لرئيس الوزراء إسماعيل هنية أو كقيادي في حركة حماس، وقد كتبت – حينذاك – مقالاً بعنون: “زواج برسم الوطن والقضية: العريس هندي والعروس فلسطينية”، أوضحت فيه أن فلسطين وأهلها هم قضية أمة عربية وإسلامية، والناس في بلاد المسلمين وخاصة في الدول الآسيوية تنظر إلى الفلسطيني باعتباره مقدساً أو فيه شيء من “البركة والطهورية”، حيث إنه ينتسب إلى أرض الأنبياء والمرسلين، وإلى القدس والمسجد الأقصى محط شدِّ رحال المسلمين؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.. ولقد لمست ملامح هذه العاطفة الجياشة والخصوصية لفلسطين وأهلها عندما سافرت إلى باكستان وأفغانستان في الثمانينيات في مهمة إعلامية وإنسانية، وتعاملت مباشرة مع شعوب تلك المناطق من المسلمين، حيث وجدت سرَّ ذلك التعلق الروحاني والارتباط الوجداني والحب الإلهي لمسرى رسول الله (ص) ولبيت المقدس؛ التاريخ والمجد والحضارة وأرض كل الانبياء.

لقد فتحت حملات كسر الحصار عن قطاع غزة الطريق لمتضامنين جاءوا من تلك البلاد الأسيوية البعيدة لزيارة غزة والتعاطي المباشر مع أهلها.. وقد سمعنا عن عدد من حالات الزواج التي كانت بركة لهذا التواصل، ومن بينها – بالطبع – هذا النسيب الهندي الذي تشرفت بلقائه، والتعرف عليه في قافلة آسيا التي زارتنا في شهر يناير 2011م، وضمّت أكثر من مائة وثلاثين متضامن هندي مسلم، حملوا معهم راياتهم ومشاعرهم الجياشة وشغف الحب لأهل غزة؛ بلد العزة والمقاومة والانتصار، وجاءوا بمساعدات إغاثية لدعم المتضررين جراء العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة، وفي محاولة لفك الحصار الظالم المفروض على القطاع منذ عملية “الوهم المتبدد” في صيف 2006م، والتي تمَّ فيها أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ومبادلته بعد خمس سنوات بأكثر من خمسمائة سجين فلسطيني في صفقة “وفاء الأحرار” في 18 أكتوبر 2011م.

لاشك أننا بهذا الزواج قد خرجنا عن بعض الأعراف والعادات والتقاليد الفلسطينية، حيث اعتادت العائلات الفلسطينية أن يكون الزواج داخل العائلة أو الحي أو من بين أبناء البلدة الواحدة والوطن الواحد، وإن كان الطلاب الفلسطينيون الذين أنهوا دراساتهم الجامعية في الخارج قد عاد الكثير منهم لوطنهم بزوجات من روسيا وأوكرانيا ورومانيا وأمريكا وفرنسا وتركيا والهند وباكستان ومصر والعراق والجزائر والمغرب وسوريا.. الخ

إن غزة تحتضن كل هذا الفسيفساء الاجتماعية، وهي تشكل إضافة نوعية وحالة تواصل اجتماعي للفلسطينيين وقضيتهم مع العالم بقاراته الخمس.
لقد ساعدت سنوات غربتنا الطويلة في الولايات المتحدة الأمريكية على مشاهدة أنماطٍ كثيرة من المصاهرة والنسب بين المسلمين بجنسياتهم المختلفة، حيث يعيش في أمريكا حوالي 12 مليون مسلم جاءوا من دول وقارات عدة؛ من بلاد الشام ومصر واليمن والعراق والصومال، وكذلك من الهند وباكستان وإيران وتركيا وأفغانستان، وقد شاركنا في العديد من المناسبات والأفراح التي كان الزواج فيها بين عرب ومسلمين من بلدان آسيوية وأفريقية، وشاهدنا تجارب ناجحة جداً، الأمر الذي – ربما – شجَّعنا على تجاوز عقدة الخوف من العريس الغريب عن أرض الوطن.. لذا؛ فقد كان زواج ابنتي الأولى من شاب تركي يعمل كمصور صحفي في مكتب غزة لوكالة الأناضول الإعلامية الشهيرة، ووالده شخصية مرموقة في مجال العمل الإغاثي في قطاع غزة.. ومع نجاح التجربة، زادت قناعتنا وتعاظم منسوب الجراءة على تقبل العريس الهندي المسلم “بدر خان”، وخاصة بعد التطمينات التي وصلتنا من بعض أصدقائه من الطلاب الفلسطينيين بالجامعة، وأيضاً من خلال سفارتنا في دلهي، حيث أشاد الجميع بالعائلة وبالسيرة الطيبة للشاب الذي عرفناه من خلال قافلة آسيا، وكذلك عن تقدمه العلمي ونشاطه وسط الطلبة لخدمة القضية الفلسطينية في الجامعة.

عندما توفرت لنا كل المعطيات الإيجابية عن الشاب والعائلة كانت المباركة والزواج.

الهند: بين الأبداع والصورة النمطية

لعل الكثير من التعليقات التي سمعناها خلال فترة الخطوبة مرجعها الصورة النمطية عن الهندي، فلكل شعب صفات اعتاد الناس على تداول الحديث عنها وهي تعكس الواقع الإنساني أو الحضاري والاجتماعي له سلباً أو إيجاباً.. بالنسبة للهندي فقد تعودنا على سماع مقولة “أيو يا خويا.. إعمليِّ فليم هندي”؛ تعبيراً عمن يتحدث ويتوسع في سرد روايته، ويحاول حبكها بالمبالغات والعواطف والانفعالات، وأيضا فإن كلمة “هندي” في أدبياتنا الشعبية تعني الغلبان والمهادن ذي الطبيعة غير العنفية، كما تعني الخادم الذليل والبائس الفقير ودلالات أخرى كنا نشاهدها في المسلسلات الخليجية، فالهندي يقابله “عثمان” السوداني في الأفلام المصرية.

صحيحٌ؛ هناك الملايين من الهنود يعملون كخدم وعمالة رخيصة في دول الخليج، ولكنهم – وهذه حقيقة يعرفها كل من عاش في تلك الدول – ساهموا في نهضة تلك البلاد العمرانية، حيث كان من بينهم المهندس والطبيب وعامل البناء والمزارع والتقني، وهم مشهود لهم بالكفاءة والتميز، ويتقن الكثير منهم التحدث بلغتين أو أكثر، كما يجيد الهندي – بشكل عام – أكثر من حرفة أو صنعة، حيث إن مهاراتهم عالية وفي أكثر من مجال.

اليوم، تتقدم الهند بخطى سريعة في مجال صناعة السيارات والأدوية والفن السينمائي على المستوى الدولي، وهي تحظى بالمرتبة الأولى في مجال الانتاج السينمائي؛ والذي يتجاوز 1250 فليماً سنوياً، وتعتبر “بوليوود” منافساً حقيقياً لإمبراطورية صناعة السينما الأمريكية “هوليوود- Hollywood”.. وقد بدأت الأفلام الهندية المدبلجة – اليوم – تكتسح معظم بلدان العالم، كما أنها دخلت أسواق المنافسة العالمية مع الأفلام الأمريكية والفرنسية والبريطانية.

وحول أطباق الطعام الهندية، فقد اكتسبت – اليوم – شهرة واسعة في الدول الغربية وفي معظم دول الخليج، وخاصة (البرياني) و(التندوري) و(التيكا ماسالا)، كما أن سلسلة مطاعم تاج محل أصبحت علامة مسجلة في العديد من الدول العربية والأوروبية. فالمطبخ الهندي يتميز بنكهاته الخاصة، حيث يتم استخدام التوابل وخاصة (الكيري) بشكل كبير، كما أن أكلاته تعتبر صحية لأنها تخلو من الدهون والدسم الزائد.

بشكل عام، فإن الاقتصاد الهندي يأتي – اليوم – في المرتبة السابعة بين أكبر الاقتصادات في العالم، وبحلول 2025م سيصبح الاقتصاد الهندي ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين.

أتمنى أن نتعلم من الهند روح المبادرة و”صناعة النجاح”، وهي التي تحررت من احتلال بريطاني دام 150 عاماً، وكذلك من تجارب شعوب أخرى سبقتنا، عاشت حالات استعمارية لا تقل قسوة وظلماً عما عايشناه من ظروف تحت الاحتلال الإسرائيلي.

سفارتنا في الهند: وطنٌ في الغربة

بعد أن أنهينا استعداداتنا للسفر للهند وقمنا بحجز التذاكر، وجدت أن هناك صعوبات تكتنف مرافقتي لابنتي وزوجتي بسبب التوتر الذي يسود العلاقة مع جارتنا الشقيقة مصر، وأن احتمالية السماح لي بالسفر عبر معبر رفح ضعيفة، حيث حاولنا الاتصال ولكن – للأسف – لم يكن هناك ردٌّ، كما ذكر لي الأخ غازي حمد، والذي اعتاد التنسيق لنا مع إخواننا الأحبة في جهاز المخابرات العامة.. فكرت في البديل، وهو أن يسافر ابني “يقين” مع أمه وأخته، ولكن يقين شاب في العشرينات وأن احتمالات إرجاعه من الجانب المصري أيضا واردة.

لم يكن لديّ خيارات أخرى.. ولذلك، وضعت احتمال ألا يتمكن يقين – أيضاً – من السفر، وبالتالي ستصبح زوجتي وابنتي بدون رجل يمكن الاعتماد عليه في رحلة السفر الطويلة إلى الهند.

بعد ساعات من القلق والتفكير، قررت الاتصال بالسفير الفلسطيني في الهند الأخ عدلي صادق؛ وهو صديق قديم تربطني به وأخي عز المستشار بسفارتنا بالجزائر علاقة منذ أكثر من عشرين عاماً.. تحدثت مع الأخ عدلي “أبو شعبان” عن قدوم أهلي وابنتي للهند في فجر اليوم التالي.. فردَّ بروح ونخوة الفلسطيني الأصيل، قائلاً: لا تقلق، سأتولى ترتيب لقائهم في المطار، وسوف ينزلون عندنا في ضيافة السفارة، وسنكون لهم الأهل والوطن.

كان أخي أبا شعبان كما عهدته “ابن بلد” “وأخو أخوه” فقام بالواجب وزيادة، حيث اصطحب زوجته معه وذهب لاستقبالهم في فجر ذلك اليوم، وأكرم وفادتهم أيّما إكرام، وكان القنصل زهير الحمد الله وعائلته – أيضاً – بنفس النخوة والأصالة والهمَّة والحاتمية.. لقد شعرت بكامل الارتياح والرضى في صبيحة يوم وصولهم إلى العاصمة الهندية دلهي، وشكرت الله أن قيّض لهم وطناً في غربتهم، وهو سفارتنا الفلسطينية وطاقم الإخوة العاملين فيها.

ربما كان هذا الزواج هو الأول لفلسطينية تتزوج هندي، ولذلك أراده الأخ السفير عدلي صادق أن يكون عرساً وطنياً، يعكس أبعاد العلاقة التاريخية بين الهند وفلسطين منذ أيام رئيس الوزراء جواهر لآل نهرو، والذي أشاد علاقة أخوية مع الفلسطينيين، فكانت هذه الاستضافة والحفاوة والترتيبات التي أشرف عليها مشكوراً سفيرنا العزيز بحيث تخرج العروس إلى بيت زوجها من مبنى السفارة؛ باعتبارها صاحبة الولاية – عن العائلة – في بلاد الغربة، والعنوان الوطني لدولتنا الحبيبة فلسطين.
حقيقة، مهما تقدمت بالشكر والتقدير لهذه اللفتة الكريمة التي رعاها الأخ السفير عدلي صادق وسعادة القنصل زهير الحمد لله، والتي تجسد معنى التآخي والحب والوفاء الذي يجمعنا كفلسطينيين في الغربة والوطن، فلن أُوفي لهما حقهما، وإنيَّ لأدعو الله أن يجعل ما قاموا بهم في ميزان حسناتهم يوم القيامة؛ نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.. لقد ذكرني هذا الموقف بتلك الأيام التي هددت فيه وزارة الخارجية الأمريكية بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة واشنطن في أواخر التسعينيات، واضطرت السفارة لتقليص عدد العاملين فيه بشكل كبير لعدم توفر ميزانية كافية للمكتب، فذهبت مع بعض الإخوة الفلسطينيين من قيادات العمل الإسلامي في منطقة العاصمة واشنطن لزيارة السفير حسن عبد الرحمن، وعرضنا عليه رغبتنا في العمل لمساعدته، والسعي لتوفير بعض الطاقات الفلسطينية للتطوع بالعمل في السفارة وسد احتياجاته من نقص طاقم الموظفين، في ظل تلك الضغوطات التي كانت تمارسها الإدارة الأمريكية بهدف ترويض الموقف الفلسطيني للقبول بالعرض الإسرائيلي خلال المحادثات التي كانت تجري في كامب ديفيد.
كانت سفارتنا هناك في واشنطن قلعة متقدمة للدفاع عن الحق الفلسطيني، وفي مواجهة مفتوحة مع اللوبي الصهيوني وإمكانياته الهائلة في التعبئة الإعلامية والسياسية ضد الفلسطينيين ومنظمة التحرير والرئيس ياسر عرفات رحمه الله، وكنا نشعر كإسلاميين وكفلسطينيين بالواجب تجاه نُصرتها والوقوف إلى جانبها ونحرص على التعاون والتنسيق معها في أنشطتنا الفلسطينية المختلفة في الجامعات أو خلال المناسبات الوطنية التي كنا نعمل على إحيائها، وتشارك فيها جاليتنا بحضور واسع.. لقد كانت تجمعنا بالسفير حسن عبد الرحمن علاقة طيبة مبعثها هويتنا الفلسطينية، وواجبنا تجاه قضيتنا ووطننا الغالي فلسطين.
السفير الهندي: زيارة بنكهة النسب
لم تكن السفارة الهندية في رام الله بعيدة عن متابعة كل ما كان يكتب ويقال حول هذا الزواج في الصحف وفي وسائل التواصل الاجتماعي (Social Media)، حيث كان لابنتي كإعلامية وناشطة شبابية في مجال القضية الفلسطينية أكثر من حضور أعتز به، ولذلك جاء ممثل جمهورية الهند لدى السلطة في رام الله السيد مبارك لزيارتي في مكتبي في بيت الحكمة، ودار بيننا أكثر من حديث حول السياسة والحصار الذي يأخذ بتلابيب الحياة المعيشية لأهلنا في قطاع غزة، واستعرض بعض المشاريع التي تساهم بها بلاده مع دول أخري للتخفيف عن معاناة الناس جراء الحصار والظروف الصعبة التي يمر بها القطاع.. وعلى هامش السياسة والحصار، فإن هناك الآن – وفي كل لقاء – مجالات أخرى تجرنا للحديث عن الهند التاريخ والدين والحضارة، وعن الممالك الإسلامية وعن السلطان جلال الدين أكبر وشاه جهان وتاج محل، وعن الزعيم غاندي وعن الطبيعة الساحرة والجمال الأخَّاذ والسياحة، وعن الهند الاقتصاد والصناعة والإعلام وتكنولوجيا المعلومات، وعن التعددية السياسية والديمقراطية وعن التنوع العرقي والطائفي وعن البلد الذي يتحدث بأكثر من 23 لغة معترف بها رسمياً، ويمتلك حوالي 162 محطة إخبارية فيما أروبا لا تزيد محطاتها الإخبارية عن 100 محطة.
لقد أتاحت لي إقامتي في دولة الإمارات العربية المتحدة مشاهدة العمال والموظفين الهنود في مختلف قطاعات الدولة، وهم يُشهد لهم التفاني والإخلاص في العمل وقدرة عالية على التحمل وقهر الظروف الصعبة التي يتعرضون لها، وقد تمكن الكثير منهم في الوصول إلى مواقع مدراء وأصحاب شركات، ولدى البعض مطاعم ومحلات تجارية، وهم يعتبرون بالنسبة لأسواق الخليج “أفضل الكفاءات العاملة بأجور زهيدة” قياساً بالأخرين من الدول العربية أو الإسلامية الأخرى.
ختاماً: ولنا لقاء قريب في دلهي
أكرر الشكر والتحية لسفارتنا الفلسطينية في دلهي، وأتمنى لهم التوفيق في عملهم في هذا البلد العريق، الذي يمثل ثاني أكبر تكتل سكاني في العالم، حيث يربو عدد السكان عن مليار ومئتين مليون نسمة، وكان – تاريخياً – لنا نعم النصير من خلال مجموعة دول عدم الانحياز ومواقفها المؤيدة للحق الفلسطيني، ولطالما قدَّم الكثير من المساعدات لدعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في المحافل الدولية والتجمعات الإقليمية.
لقد كانت زيارة زوجتي لهذا البلد صاحب العراقة والتاريخ محركاً لي للتفكير بالسفر القريب، والقيام بجولة تتجاوز فقط زيارة ابنتي هناك، إلى المدن والولايات الهندية التي طالما سمعت بها وعنها في كتب التاريخ، مثل: مومباي وكالكتا وكشمير وكيرالا ومدراس.
لا شك أن في الهند أكثر من محطة تستوقف زائرها، وبالتأكيد سنجني من وراء تلك الرحلة كل ما أفرده الإمام الشافعي حول فوائد السفر، حيث قال: “وسافر ففي الأسفار خمس فوائدٍ؛ تَفَرُّج همٍّ، واكتساب مــعيشة وعلم، وآداب، وصحبة ماجد”.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن