قبل أيام، أطلق الرئيس الأمريكي “جو بايدن” تصريحات مثيرة من طوكيو، مؤكدا أن الولايات المتحدة سترد عسكريا للدفاع عن تايوان في حالة غزوها من قبل الصين. وأثار ذلك أسئلة مهمة حول الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بشأن التنافس مع القوى العظمى (الصين وروسيا).
ومنذ انفتاح الرئيس الأسبق “ريتشارد نيكسون” على الصين في أوائل السبعينيات، كان من المبادئ الاستراتيجية الأساسية أن واشنطن يجب أن يكون لها علاقات أفضل مع بكين وموسكو مما هي عليه بين بعضهما البعض.
وقلل هذا النهج من احتمالية تنسيق أنشطتهما ضد الولايات المتحدة في وقت السلم، كما قلل من فرص مواجهة حرب على جبهتين مع قوى نووية هائلة.
وأصبح هذا النهج الآن من الماضي، ومع صعود الصين إلى مكانة منافسة للولايات المتحدة على مدى العقد الماضي، ومع اعتراض كل من بكين وموسكو بشكل متزايد على التدخل الأمريكي وعدم استعداد واشنطن لاحترام مخاوفهما الأمنية الأساسية، اتبعت واشنطن سياسات شجعت عن غير قصد الشراكة بين روسيا والصين.
وعلى النقيض من الجهود السابقة لتسليط الضوء على الاختلافات بين الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية واستغلالها، فقد صور المسؤولون الأمريكيون العلاقات الأمريكية مع روسيا والصين على أنها معركة أيديولوجية بين الديمقراطية والاستبداد.
• نيوزويك: صور فضائية تكشف استعدادات صينية لغزو تايوان
وبدلا من التفريق بين خصومها، ركزت الولايات المتحدة على توحيد العالم في مواجهة كلا النظامين، مشيرة إلى أن أي تقدم في التواصل مع أي من النظامين سيكون مستحيلا في ظل غياب تغيير سياسي داخلي كبير.
وفي الوقت نفسه، أوضحت واشنطن أنها لن تحترم الخطوط الحمراء الأمنية لروسيا أو الصين. وكتب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، “بيل بيرنز”، عام 2008، عندما كان سفيرا للولايات المتحدة في روسيا: “يعد انضمام أوكرانيا إلى الناتو أشد الخطوط الحمراء للنخبة الروسية وليس بوتين فقط. ولم أجد بعد أي شخص يرى وجود أوكرانيا في الناتو على أنه أي شيء سوى تحدي مباشر للمصالح الروسية”.
ومع ذلك، أصر الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج دبليو بوش”، بعد أشهر، على أن أوكرانيا ستنضم يوما ما إلى حلف الناتو. وبعد اجتماع قمة عبر الفيديو في ديسمبر/كانون الأول الماضي طالب فيه “بوتين” بضمانات بشأن عدم انضمام أوكرانيا إلى الحلف، قال “بايدن”: “لا أقبل الخطوط الحمراء من أي شخص”، وحذر من رد غربي حازم في حال اتجهت روسيا إلى غزو أوكرانيا.
وبعد أن فشل هذا التحذير في ردع الغزو الروسي، يحذر “بايدن” الآن صراحة من أن الولايات المتحدة سترد عسكريا على أي محاولة صينية لاستعادة تايوان بالقوة، ما ينهي أعواما من “الغموض الاستراتيجي” المتعمد بشأن الرد الأمريكي المحتمل، ويثير الشكوك حول العلاقات الأمريكية الصينية.
ويبدو أن العديد من الافتراضات تدعم التحول الاستراتيجي لفريق “بايدن”، وأولها أن الأداء العسكري المتعثر لروسيا في أوكرانيا يفتح الباب أمام تعديل النظرة الاستراتيجية الأمريكية باعتبار أن روسيا ستصبح محايدة عسكريا واقتصاديا لدرجة أن واشنطن لا تحتاج إلى القلق بشأن احتمالات التعاون الصيني الروسي.
• الصين تقول إن الولايات المتحدة “تلعب بالنار” في ملف تايوان
وفي المناقشات غير الرسمية، يرى المسؤولون الأمريكيون أن روسيا لن تكون قادرة بعد الآن على غزو جيرانها الأوروبيين وستكون محرومة من القدرات الاقتصادية اللازمة لتغذية صناعتها الدفاعية وقطاعات التكنولوجيا العالية؛ ما يسمح للولايات المتحدة بتركيز مواردها للتعامل مع الصين.
ووفقا لوجهة النظر هذه، ستنظر الصين بمرور الوقت إلى العلاقات الوثيقة مع روسيا الضعيفة على أنها تكلفة أكثر من كونها أحد الأصول المهمة.
أما الافتراض الثاني فهو أن أي تلميحات أمريكية بشأن احترام الخطوط الحمراء الأمنية الروسية أو الصينية لن تمنع وقوع أزمة، بل ستشجع فقط على العدوان، ما يجعل الحرب أكثر احتمالية.
وكان رفض “بايدن” تقديم أي حل وسط بشأن عضوية أوكرانيا في “الناتو” متأثرا بلا شك بالمخاوف من أن التفاهم الأمريكي مع روسيا قد يثير شهية الصين لغزو تايوان. ويعكس تحذيره الواضح بشأن الدفاع العسكري عن تايوان (والذي تحرك البيت الأبيض للتقليل من أهميته بعد ذلك) مخاوف من أن عدم اليقين في بكين بشأن الرد الأمريكي قد يشجع العدوان أكثر من ردعه.
• الصين تجهز جزراً خارقة التسليح لإتمام الغزو بسرعة.. تايوان بعد أوكرانيا على قائمة غزوات 2022!
وتستحق هذه الافتراضات التدقيق النقدي، فحتى إذا استمرت روسيا في التعثر في ساحة المعركة في أوكرانيا، فإن ذلك قد يدفعها للاستخدام ترسانتها النووية للتعامل مع الولايات المتحدة وحلف “الناتو”.
علاوة على ذلك، فإن احتمالية الأزمات الناتجة عن استياء روسيا “الضعيفة” واعتقاد البعض أنه يمكنهم استغلال مشاكلها، قد يتحول لمشكلة كبيرة بالنسبة لواشنطن تعيق إعادة تركيز وقتها وانتباهها من أوروبا إلى آسيا.
والأهم من ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة قد نسيت أن النوايا العدوانية ليست السبيل الوحيد لبدء الحروب، وقد تنشأ النزاعات أيضا نتيجة طبيعة “المعضلة الأمنية” عندما تنظر دولة ما إلى التدابير التي تهدف إلى ردع العدوان والدفاع عن أمن دولة أخرى باعتبارها تهديدا.
وينتج عن ذلك دورة من الفعل ورد الفعل يعتقد كل طرف فيها أن أفعاله دفاعية وليست عدوانية. وقد انخرطت الولايات المتحدة في هذه الدوامة التصعيدية مع روسيا منذ فترة طويلة، ولا تلوح في الأفق حاليا أي نهاية لأزمة أوكرانيا. ومع الإعلان الأمريكي بشأن ردع العدوان الصيني على تايوان، فإن واشنطن تؤجج عن غير قصد دوامة ثانية (جارية بالفعل) من التوتر مع بكين.