أثار الغزو الروسي لأوكرانيا موجة من التكهنات حول بدء حرب باردة ثانية. وكانت هذه التكهنات منتشرة بشأن الصراع مع الصين قبل حرب أوكرانيا. هل هذه التكهنات مبررة؟ الإجابة في كلمة واحدة لا.و من المحتمل أننا ندخل حقبة جديدة من التنافس بين القوى العظمى بعد نحو 30 عامًا من الهيمنة أحادية القطب للولايات المتحدة لكن هذا لا يعني بالضرورة تسمية هذه المرحلة من الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين أو روسيا أو كليهما بالحرب الباردة.
لقد خاضت القوى الأوروبية الكبرى تنافسا ساخنا خلال القرن التاسع عشر ومع ذلك لا أحد يصف هذا الصراع بأنه حرب باردة.
ولكي نكون واضحين يكجب تفكيك المصطالح من خلال توصيف الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ونعني بـ”باردة” أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لم ينخرطا في حرب مباشرة، وقد انتهى الأمر بدون حرب نظامية مباشرة التي تميز عادة التحولات من نظام دولي إلى آخر. بمعنى أنه لو خاضت القوتان العظميان حربًا مباشرة على أراضي برلين أو كوبا أو في أي مكان، لما كنا سنطلق عليها اليوم حربًا باردة.
• هل تعيد الأزمة الفنزويلية أجواء الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن؟
لماذا بقيت باردة؟ شدد المنظرون مثل “كينيث والتز” على استقرار النظام ثنائي القطب: فاستقرار التحالفات وغياب التعقيد الذي يميز النظام متعدد الأقطاب جعل من السهل نسبيًا على القوتين العظميين تجنب الحرب والحفاظ على النظام وقتها. بالطبع، تبين أن النظام ثنائي القطب ليس مستقرًا كما كان يعتقد “والتز” لأنه انهار بعد حوالي 10 سنوات من ادعائه. التفسير الأفضل، والذي تبناه “والتز” نفسه، هو أن الصراع ظل باردًا لأن قادة الحرب الباردة أدركوا أن الأسلحة النووية جعلت الحرب المباشرة خيارا مجنونا واختاروا التنازل (استسلم الاتحاد السوفيتي في عام 1991) بدلاً من دفع الأمور إلى ما وراء الهاوية.
وعندما نقول “حرب” فيعني ذلك أنها كانت مواجهة عالمية بين طرفين طورا أيديولوجيات عالمية لا يمكن التوفيق بينها. معنى آخر، يرى كل طرف أنه ما دام الطرف الآخر لا يزال موجودًا فلن يتم إنجاز المهمة. ويصور الواقعيون مثل “والتز” الحرب الباردة على أنها مجرد مثال على التنافس بين القوى العظمى، لكن هذا ليس صحيحًا تمامًا، لأن كلا الجانبين يمكن أن يدرك أن خسارته لن تعني الهزيمة الجيوسياسية وفقدان مكانة القوة العظمى فحسب كما حدث مع النمسا-المجر بعد الحرب العالمية الأولى، لكن ذلك قد يعني الانتصار العالمي لإيديولوجية الطرف الآخر كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ما لدينا اليوم مشابه للشق الأول ومختلف للغاية في الشق الثاني. لا يزال مصطلح “الباردة” ساري المفعول طالما ظلت القوى الكبرى مقتنعة أن الأسلحة النووية تجعل الحرب المباشرة خيارا مجنونا. وهذا ما يتضح من قرار الولايات المتحدة عدم الدفاع عن أوكرانيا عبر التدخل العسكري المباشر، وهذا أم لم يكن مقبولا في عالم ما قبل النووي، كما يتضح ذلك أيضا من سياسة الصين التي تعتبر الحرب النووية أمرا لا ينكم الانتصار فيه. في الواقع، يمكن أن يفسر النفور من الحرب العالمية الثالثة النووية الفترة الطويلة لهيمنة النظام العالمي أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة: لماذا نتعب أنفسنا في بناء قوات لمواجهة الولايات المتحدة إذا لم يكن من الممكن استخدامها أبدًا؟
• الصين تحذر من حرب باردة وتصف علاقتها بروسيا بـ”الصخرة الراسخة”
أما العنصر غير المتوفر في الصراع الحالي هو “حرب” بالمعنى الذي حدث بين عامي 1945 و 1991. لم تعد روسيا تدعم أيديولوجية عالمية على الإطلاق. ويبدو أن سياساتها الانتقامية تجاه أوكرانيا وربما الدول المجاورة الأخرى ليس لها علاقة على الإطلاق بالأيديولوجية السوفيتية حول الاشتراكية العالمية. من ناحية أخرى، لا تزال الصين تطلق على نفسها اسم دولة شيوعية، لكنها احتضنت الرأسمالية المعولمة بكلتا يديها وغير مهتمة بأي شكل من الأشكال بقيادة الثورة الاشتراكية في جميع أنحاء الكوكب.
ولا يعني ذلك عدم وجود اختلافات أيديولوجية كبيرة بين الدول الكبرى لكن الحرب الباردة شيء مختلف. على سبيل المثال، كانت هناك أيضًا اختلافات أيديولوجية كبيرة بين بريطانيا وروسيا وألمانيا حوالي عام 1900.
لماذا إذن يتم طرح مصطلح “الحرب الباردة” كثيرًا؟ ربما يكون الأمر متعلقا بالسياسة الداخلية في الولايات المتحدة كما هو الحال مع العديد من جوانب العلاقات الدولية اليوم. إن القول بأننا ندخل حربًا باردة جديدة هو خيار مغر للسياسيين الحريصين على إثارة القلق وإظهار قوتهم، وهو تكتيك يتقنه السياسيون الأمريكيون على مدى السبعين عامًا الماضية. ويعني الذهاب إلى نقطة يائسة إبقاء سلوك الولايات المتحدة على أساس تدخلي دائم. وكما أشار “نيكولاس جيلهوت” مؤخرًا، فإن ذلك يعيد إحياء الرواية عن الخير والشر التي تضررت بشدة من الإخفاقات الكارثية للسياسة الخارجية الأمريكية منذ عام 2002.
كامبل كريج – العلاقات الدولية