بقلم: نبيل عمرو
الإنجاز العسكري، مبهراً كان أم متواضعاً، تتحدد صدقيته الفعلية بحجم التغيير الذي يُحدثه على الأرض، وما يوفر من إمكانيات إضافية لتطويره وجني مكاسب سياسية ملموسة بفعله، وهذه القاعدة معمول بها في كل زمان ومكان إلا عند الفلسطينيين، الذين أرغمتهم قلة ذات اليد والدخول في معارك يتميز الخصم فيها بتفوق ظاهر، على تأسيس قوانين خاصة بهم تحدد النصر من الهزيمة، وبفعل ذلك يعتمد الفلسطينيون المصطلح الغريب الذي نحته الضعفاء في مواجهة الأقوياء والذي يقول إن الضربة التي لا تميتنا تقوينا، ويعتمدون كذلك على أن مجرد وصول قذيفة إلى معقل الخصم هو انتصار في حد ذاته حتى لو كان ثمنه الفلسطيني دماراً واسعاً ودماءً غزيرة.
وهذه القاعدة التي تتداول الآن ليس من اختراع حركة «حماس» صاحبة الجولات الأربع في حربها التي لم تنتهِ مع إسرائيل، بل إن «فتح» سبقتها بمراحل في اعتماد مبدأ الضربة التي لا تُميتنا تقوّينا، فكانت كل معاركها وفق هذا المبدأ مجيدة ومنتصرة مع أنها جميعها أسفرت عن خروجها من أهم الجغرافيات المواجهة لإسرائيل إلى المنافي البعيدة.
ووفق القاعدة الفلسطينية الخاصة فإن خلاصات المعارك العسكرية تغري بالرهان على إنجازات سياسية، فبعد الخروج «المجيد» من جغرافيا بلاد الشام وآخرها اللبنانية، وبينما كان ياسر عرفات على متن الباخرة اليونانية «أتلانتيس» مديراً ظهره لبيروت وميمماً وجهه شطر تونس، أعلن الرئيس الأميركي رونالد ريغان في تصريح مقتضب ما وُصفت بمبادرة سلام، فهمها راكب السفينة على أنها وعد وزاد بعدّها ثمرة للانتصار العسكري الذي توّجته معركة بيروت الكبرى، والآن كأن التاريخ يُعيد نفسه أو يكرر دروسه، فإن ما حدث في لبنان قبل عقود من الزمن حدث ما هو قريب منه على الصعيد العسكري في غزة مع فارق أنْ لا بواخر وفّرها حلف شمال الأطلسي كي تحمل المقاتلين إلى المنافي، بل وعد ملتبس بتخفيف الحصار المحكم حول غزة وإعادة إعمارها للمرة الرابعة.
في ساعة وُصفت بالتاريخية قرر العالم الاستبدال ببنادق ومدافع وقنابل عرفات وساحات معاركه صيغة سياسية تُنعش الأمل بحل يُفضي إلى دولة، ربما، وضع تحت ربما عدة أسطر، تتوفر فيها الحدود الدنيا التي يستطيع من سيتسلمونها تبرير كل التنازلات التي سبقتها، لقاء ذلك كان العالم الذي تقوده أميركا وبمعاونة أوروبا وإلى حد ما روسيا قد وضع شروطاً محددة لدخول عرفات إلى نادي التسوية بلا ضمانات يقينية بأن دخول النادي يعني دخول الدولة على أرضها، فلقد تُركت حكاية الدخول أو الاستحالة للاحتمالات.
حصلت منظمة التحرير على عضوية النادي بدون أن تُعفى ولو من شرط واحد، كان في البدايات أشبه بقفص ذهبي شديد الجاذبية والإغراء يَعِد بحل لطالما تمنّاه الفلسطينيون وعملوا من أجله وأضحى الوعد معادلاً لكل ما قُدم لقاءه من تنازلات إلى أن حدث ما حدث وهو الذي نراه الآن.
سنوات طويلة مرت على «أوسلو» ووعودها ليبلغ الأمر بمنظمة التحرير وسلطتها حد المنافحة لاستمرار عضويتها في النادي واعتُمد شعار يقول إن بديل المفاوضات هو المزيد منها، وكل ذلك ليس من أجل الاقتراب من الهدف وإنما من أجل الاحتفاظ بعضوية نادي التسوية.
المسار الذي رسمته «فتح» أو رُسم لها منذ أول طلقة إلى أول مصافحة مع الخصم، سارت وتسير عليه «حماس»، إلا أن الحركة الإسلامية المقاتلة ميَّزت مسيرتها بوعود جذرية مستغلةً بإتقان ملموس تعثرات المنافس وفشل رهاناته، فصارت غزة التي أخلتها إسرائيل بفعل عدم جدوى البقاء فيها أرضَ التجربة وحاضنة الوعود الجذرية، كما أنها فوق ذلك أرض أول سلطة معلنة لـ«الإخوان المسلمين» في الشرق الأوسط، ما وفّر لها تحالفات فعالة ولكن في حدود البقاء على قيد الحياة لا أكثر.
المشترك مع «فتح» في مجال الخط الأساسي هو قيام «الحركة الجذرية» بإرسال إشارات تشبه إشارات «فتح» في زمن القتال فُهمت في حينه على أنها موافقة على الدخول في تسوية. لقد أرسلت «فتح» إشاراتها الأكثر صراحةً على هيئة قرارات من المجلس الوطني المعترف به كبرلمان للشعب الفلسطيني كله، أما «حماس» فترسل إشاراتها عبر تلميحات وتصريحات من قادتها وأحياناً عبر بيانات تفتح مجالاً واسعاً لتفسيرها كما لو أنها تراجع عن الجذرية لمصلحة البراغماتية.
على باب نادي التسوية لافتة مكتوبة بحروف نافرة وباللغتين الإنجليزية والروسية بدون الحاجة إلى العربية، فيها تحديد حاسم لشروط الحصول على عضويته، فمن يرغب عليه تجهيز أوراقه متضمنة قبولاً صريحاً بكامل الشروط، ومن لا يرغب فليواصل العمل على تغييرها أو تكييفها مع أجندته، فليواصل المحاولة، والكبار من جانبهم يواصلون إدارة الأزمات بلا كلل أو ملل.
الاجتهادان الفتحاوي والحمساوي لا يواجهان شروط عضوية النادي فقط بل شروط الحل، وهنا ظهرت محددات أكثر صعوبة من شروط العضوية أهمها الخضوع لاختبار أداء تفصيلي تحدد علاماته الولايات المتحدة وفق متطلبات تحالفها العضوي والاستراتيجي مع إسرائيل وهذا ما حدث مع «فتح» وسلطتها منذ اليوم الأول لإقامة السلطة وإلى يومنا هذا وفي حالة الفلسطينيين فإن أميركا منحت إسرائيل ميزة تحديد المساحات والأسقف مغطيةً ذلك في زمن الحرب والعقوبات بجملة متكررة تقال مع كل حملة عسكرية ضد الفلسطينيين «إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها»، من دون القول الصريح وإنما الضمني حتى لو أدى الأمر إلى الإفراط في استخدام القوة.
هذه هي حكاية نادي التسوية ومسارات الراغبين في الحصول على عضويته. فليقرأ الدرس من يحب وليتجاهله من يرغب وإلى أن يضطر الكبار الذين هم أرباب النادي إلى التوافق على قرار نهائي في أمر التسوية النهائية فإدارة الأزمة هي الفعل البدهيّ الممكن.