غزة – رويترز: لم تكن الحياة بهذه القتامة قط لأسرة مصطفى المكونة من سبعة أفراد يتكدسون في بيت رث من غرفتين في مخيم جباليا بقطاع غزة.
فبعد حصار إسرائيلي مستمر منذ سبع سنوات وحملة مصرية خانقة بدأت قبل عشرة أشهر تبخر النمو الاقتصادي في غزة وقفز معدل البطالة إلى نحو 40 في المائة مع نهاية العام الماضي.
ودفع خلاف حركة حماس الإسلامية التي تدير القطاع مع جيران القطاع إلى فرض حجر على غزة قطع الصلة بين سكانها وعملية السلام المتعثرة وترك لهم المجال لتحميل المسؤولية لعدد كبير من الأطراف.
وتعيش أسر مثل أسرة مصطفى على مساعدات الأمم المتحدة وما توزعه من أرز وطحين ولحوم معلبة وزيت دوار الشمس وخدمات محدودة للرعاية الصحية ومياه الشرب النقية. وتبدو هذه الأسر وكأنها من اللاجئين الدائمين من أراضي الأجداد التي أصبحت الآن جزءاً من إسرائيل إذ لا تملك مالاً ولا وظائف ولا أملاً.
قال طارق (22 عاماً): نحن نغرق. نشعر بأن العالم كله علينا. عندما أفتح التلفزيون وأرى الناس كيف تعيش، أفكر وأقول يا رب ساعدني لأخرج من هذا المكان.
وعلى أسرة مصطفى أن تنتقل من المكان عندما يسقط المطر ويغمر أرض البيت الواقع في منطقة منخفضة. فحتى في أي يوم مشمس تتصاعد رائحة العفن من جنباته. وتعاني الأسرة الآن من انقطاع الكهرباء لفترة تصل الآن إلى 12 ساعة يومياً في مختلف أنحاء القطاع بسبب نقص الوقود.
ويتساءل طارق: ليس لدي مال للجامعة ولا لكي أتزوج. ولا يوجد حتى شيء أنفقه خارج الدار حتى أهرب من الواقع. ما هذه الحياة.
ويحصل أكثر من نصف سكان غزة على الغذاء من الأمم المتحدة كما أن الأعداد في ازدياد.
وقالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي تتولى تزويد اللاجئين بالغذاء والمسكن لرويترز: إنها الآن تتولى تغذية نحو 820 ألفاً بزيادة 40 ألفاً عن العام الماضي. ويقدم برنامج الغذاء العالمي مساعدات غذائية لنحو 180 ألفا آخرين من سكان القطاع.
صدمة للسكان
وأكثر من 2ر1 مليون فلسطيني من بين سكان القطاع الذين يبلغ عددهم 8ر1 مليون نسمة لاجئون أو من نسل لاجئين فروا أو أرغموا على ترك أراضيهم التي أصبحت جزءاً من إسرائيل في حرب 1948.
وبمرور السنوات اشتدت قبضة الاحتلال أو خفت عبر الحروب والانتفاضات. وببطء تحولت مجموعات الخيام إلى مبان خرسانية لتتحول إلى ثمانية مخيمات حيث فرص التغيير محدودة وضيقة ضيق أزقة المخيمات.
وقال سكوت آندرسون نائب مدير العمليات في “أونروا” مشيراً إلى أن مستوى الاعتماد على المساعدات في غزة ليس له مثيل يذكر في العالم: غزة تبدو وكأنها في حالة انحدار متواصل في وهد الفقر وتدهور الاقتصاد.
وقال لرويترز: من حيث الصدمة الاقتصادية للسكان ربما كانت سيراليون هي المكان الوحيد الذي يمر فيه الناس بما يمر به سكان غزة على أساس يومي.
وأكثر سكان القطاع عرضة للتأثر بالوضع الاقتصادي لا بين الفقراء فحسب بل والمرضى أيضاً. ورغم أن مؤشرات الصحة الأساسية والاقتصاد تفوق مثيلاتها في جانب كبير من إفريقيا فإن تزايد مستوى الاعتماد على المساعدات والإحساس بالعجز عن الحركة لهما أثرهما المتواصل.
وقالت إيمان شنن رئيسة جمعية لدعم مرضى السرطان في غزة لرويترز: إن العلاج أصبح مشكلة كبيرة بسبب قيود السفر المفروضة على الحدود المصرية ونقص الأدوية والبيروقراطية.
وقالت شنن التي كانت مصابة بالمرض وشفيت منه: نحن متجهون إلى كارثة. خمس حالات جديدة تأتي إلى المكتب كل يوم.. والسرطان لا يقتل بقدر ما تقتل الظروف المحيطة بنا. فالناس يمكنها النجاة من السرطان لكن ليس من هذه الظروف.
ويوجد في القطاع 13 ألف مصاب بالمرض الذي يعد ثاني أهم أسباب الوفاة بين الفلسطينيين بعد أمراض القلب.
وتشكو فرحة الفيومي المصابة بسرطان الثدي وهي من مخيم الشجاعية للاجئين في وسط غزة من ومضات ألم في أسنانها إذ إن الأدوية المستخدمة لدرء آثار العلاج الكيماوي على مدى سنوات ليست متوافرة في غزة.
كان المعبر الحدودي إلى مصر المخرج الوحيد للراغبين من سكان غزة في العلاج بالخارج لكنه لا يفتح الآن للناس بمن فيهم المرضى إلا يومين تقريباً كل شهر. كما أن تزايد الفقر قلل عدد العابرين.
وقالت فرحة الفيومي الأرملة المتنقبة وهي أم لثمانية أطفال: لم أتمكن من السفر إلى مصر منذ عام ونصف. لا أستطيع توفير نفقات العلاج في الخارج.
وكانت اتفاقيات أوسلو للسلام الموقعة عام 1993 جعلت العلاج أصعب من ذي قبل لسكان غزة لأن الجانبين اتفقا على أن العلاج الكيماوي والإشعاعي يمكن أن يكون له استخدامات عسكرية.
وقالت شنن بنبرة متشائمة إنه لم يعد في غزة سوى خمسة أطباء من المتخصصين في الأورام.
* المسؤولية
وفي الأراضي الزراعية بشمال غزة يحمل محمود حركة حماس مسؤولية جانب كبير من المعاناة.
ويقول محمود (23 عاماً) الذي تخصص في الدراسة لكي يكون كهربائياً ثم تعلم قيادة الشاحنات لكنه لم يجد عملاً لا في هذا ولا ذاك: هل تتغير الأمور بالنسبة لجماعتهم.. لما بتفتح وظائف جديدة بتكون من نصيبهم. هم ما بيعانوا.
وتنفي حماس اتهامات بوجود فساد وتقول إنها تحكم بشفافية وتلقي المسؤولية عن مشاكل القطاع الاقتصادية على إسرائيل.
ويجلس والد محمود وهو مزارع بجلبابه البني الفضفاض وقد وضع عصاه على ركبتيه في مقصورة مشمسة بجوار بيت الأسرة.
يتذكر الوالد البالغ من العمر (67 عاماً) البساتين التي كانت في أرضه البالغة مساحتها 180 ألف متر مربع على امتداد حدود إسرائيل حيث كانت تنمو أشجار الزيتون والليمون والبرتقال حول بئر للمياه العذبة.
ولم يبق من البستان الآن سوى حديقته الصغيرة بعد أن جرفته إسرائيل وسط أعمال عنف عبر الحدود عام 2008.
وفي الحديقة توجد شجرة من كل نوع من الأشجار التي كان يعتني بها لتذكره بما فقده وبالتآكل المستمر للأرض والأرزاق الذي عاشه الفلسطينيون على مر السنين.
وجعل تلوث الخزان الجوفي مياهه غير صالحة للشرب وتتكبد الأسرة كلفة تنقيتها.
وقال والد محمود: من بعد ما أغلقوا منطقة أرضي الحياة انتهت.
وأضاف: كنا نبيع فاكهة من أشجارنا واليوم نشتري من مصر ومن إسرائيل. وطبعا هذا حسب الاستطاعة.
والاستياء من عجز القادة شائع بين السكان لكن كثيرين يقولون إن أهل غزة سيقفون وراء حماس بسبب تشددها.
وقال زكريا الشرفا الذي يعمل سائقا وهو يتسلم حصة أسرته من المساعدات الغذائية في مركز مزدحم للتوزيع بجوار مخيم الشاطئ: العالم كله ضدهم. هم ليسوا ملائكة بالطبع ويرتكبون كثيرا من الأخطاء ولكن لو قاموا بالاعتراف بإسرائيل فان الناس سوف تبصق عليهم وسوف تتبخر شعبيتهم.
وأضاف: أنا لا أرى في الأفق أي ثورة ضدهم مع أني متأكد أن ذلك هو أحد أهداف الحصار الإسرائيلي ولكنني أقول لا فائدة من الحصار فنحن متعودون على ذلك.
أما محمود فيتحسر على التدهور المستمر بسبب الأزمة الاقتصادية وعلى أحلامه التي كان من الممكن أن يحققها.
ويقول محمود: في ظل هذا الوضع يكثر الحقد بين الناس والحسد. في شباب تتعاطى ترامادول وهناك سرقات. هذه الشغلات ما كانت تحصل. وأنت شاب بتصير تفكر هل لما أكبر راح أكون قادر أعمل أكثر. هل العالم راح يكون مفتوح أكثر أمامي.
لكن هنا كلما كبرنا نشعر بأن مشاكلنا أيضا تكبر معنا.