بالرغم من الضجة الإعلامية، فمن غير المرجح أن يتخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرارا نهائيا بمهاجمة أوكرانيا. إنه أكثر ذكاءً من ذلك بكثير ويدرك أن الغزو سيحمل أعباءً أكثر من الفوائد.
وتؤكد الدبلوماسية الروسية وبوتين نفسه باستمرار أنه لا يوجد مخطط للهجوم على أوكرانيا، لذلك سيكون من الصعب تبرير أي عملية عسكرية واسعة أمام الشعب الروسي والرأي العالمي.
كما أنه من المهم فهم دلالات موقف بعض الدول وخاصة الصين وتركيا، خاصة أن البعض يعتبرهما أكثر الدول المعنية تفهما للموقف الروسي.
المحتويات
الصين
في 27 يناير/كانون الثاني، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي لنظيره الأمريكي أنتوني بلينكين إنه “لا يمكن ضمان الأمن الإقليمي من خلال تعزيز وتوسيع الكتل العسكرية”.
ووفقًا لتقارير صحفية، أشار الوزير الصيني إلى اتفاقية مينسك 2 لعام 2015، وأكد أن بلاده ستدعم الجهود التي تتماشى مع “اتجاه وروح الاتفاقية”.
ولا يبدو ذلك بمثابة موافقة على غزو وشيك لأوكرانيا. ولا ينبغي لنا أن نتجاهل حقيقة أن الصين استثمرت في علاقة ودية مع أوكرانيا تستند إلى شراكة استراتيجية تعود إلى عام 2011. ولا يمكن أن يكون استيلاء روسيا المحتمل على أوكرانيا في مصلحة الصين.
♦ البنتاغون: دعم الصين “الضمني” لروسيا في الملف الأوكراني “مقلق جدًا”
وربما يكون وانغ يي انتهز الفرصة لإيصال رسالتين مصاغتين بلغة دبلوماسية دقيقة. الرسالة الأولى هي أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وليس الصين ولا روسيا، منخرطون في إثارة المشاكل.
أما الرسالة الثانية فتتضمن تذكير واشنطن بعدم ارتياح بكين بشأن اتفاقية “أوكوس” (الاتفاقية الأمنية الثلاثية التي تم توقيعها في سبتمبر/أيلول 2021 بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، وكذلك تحذيره من تحول تكتل “كواد”، الذي يشير إلى “الحوار” الأمني الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، إلى شيء أكثر.
وتم التأكيد على هذه الرسائل في البيان المشترك الصادر عن الرئيس شي جين بينغ وبوتين في 4 فبراير/شباط والذي ندد بتوسع الناتو و “أوكوس”.
وقد أعربت الصين عن دعمها لضمانات أمنية طويلة الأجل وملزمة قانونًا، في حين تمت الإشارة إلى تايوان على أنها مقاطعة منشقة، على عكس أوكرانيا التي لم يتم ذكرها في هذا السياق.
وتركز الصين بشكل خاص على المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي المقرر عقده هذا الخريف. وفي خطابه بمناسبة العام الجديد، ذكر شي عددًا من الخطوات التي يجب اتخاذها في ذلك الاجتماع حيث من شبه المؤكد أنه سيتم انتخابه لولاية ثالثة. ومن المنطقي أن نشوب نزاع عالمي سيلحق الضرر باقتصاد الصين وسيكون غير مرحب به إلى حد كبير في هذا السياق.
تركيا
لنأخذ في الاعتبار ما حدث في 3 فبراير/شباط، عندما زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أوكرانيا حيث شدد على دعمه لحل سلمي وعرض التوسط وسلط الضوء على عضوية تركيا في الناتو. وربما كانت جملته الرئيسية هي “نحن نواصل دعم سيادة وحدة أراضي أوكرانيا بما في ذلك شبه جزيرة القرم”.
ومثل الصين، تريد تركيا أن تكون صديقة لروسيا لكنها لا تريد أن تكون روسيا قوية جدًا أو حازمة للغاية. وتتنافس كل من بكين وأنقرة مع روسيا على النفوذ في آسيا الوسطى وقد تخشى أن تكون آسيا الوسطى هي التالية إذا أحرزت روسيا نصرًا في أوكرانيا.
وسيكون الرئيس بوتين مترددًا في التصرف بطريقة تتعارض مع الإشارات القادمة من بكين وأنقرة. وبدون موافقتهما على أقل تقدير، سيكون بوتين وحيدًا إلى حد كبيروستكون بلاده معزولة للغاية. وبالتأكيد لن يصدر أي منهما الضوء الأخضر. ولا بد أن بوتين أصبح يتوقع رد فعل الصين وتركيا ووضع ذلك في حساباته. ومن المرجح أن يزن الرئيس الروسي موقف البلدين بقدر أو أكثر مما تفعله الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
فن الحرب
وعلى مدى قرون، حول الجيش الروسي منهجية التخفي والخداع العسكرية الروسية “ماسكيروفكا” إلى فن خاص من فنون الحرب والمناورة السياسية. وتستهدف هذه المنهجية إخراج العدو من حالة التوازن عن طريق الخداع، وبشكل أساسي عن طريق التوجيه الخاطئ، مما يجعل العدو يعتقد أنك تفعل شيئًا آخر غير ما تنوي فعله. وهناك شبه مع نصائح “فن الحرب” التي تعود إلى “صن تزو”. وقد يجد “الغرب”، الأقل إدراكا لهذا الفن، صعوبة في قياس هدف موسكو، مما قد يؤدي إلى استجابة تستند إلى افتراضات غير صحيحة وبالتالي خطيرة.
ومع تطور الأزمة، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن بوتين ينتهج سياسة تتضمن 3 أهداف استراتيجية خاصة. وفي أي وقت، يمكنه أن يعلن تحقيقه لواحد أو اثنين أو الثلاثة معا ويروج لانتصاره في هذه المرحلة. وفي المقابل، يمكن أن يحتفظ بهم جميعًا إلى أجل غير مسمى ويترك الغرب يتآكل أثناء انتظار خطوته التالية وهو يحتفظ بالمبادرة.
ويتمثل أول الأهداف الاستراتيجية في إعادة الاعتبار لروسيا كقوة يتعين على الولايات المتحدة أن تحسب لها حسابًا على رقعة الشطرنج العالمية، وألا تتعرض لما حدث لها في التسعينيات.
وتواصل روسيا التدخل في سوريا، وقد أظهر تدخلها في كازاخستان طموحاتها وقدرتها على أن تكون أكبر من روسيا فقط، كما تلعب موسكو دورًا نشطًا في المفاوضات مع إيران. وبالرغم من ذلك فلدى روسيا قدرة محدودة على إبراز القوة العسكرية في الخارج وقد اختارت بعناية التدخلات لتعزيز احتمالات النجاح، أو على الأقل ضمان عدم الفشل كما كان الحال بالنسبة لبعض المغامرات الأمريكية الأخيرة.
♦ بوتين: روسيا مورد موثوق لموارد الطاقة إلى أوروبا
ويتضمن الهدف الثاني إثبات أن روسيا قادرة على ممارسة نفوذ كبير على أوروبا. وقبل بضع سنوات، كان من الممكن أن تبرم أوروبا عقدا طويل الأجل مع روسيا لتوريد الغاز لتأسيس اعتماد متبادل – الاتحاد الأوروبي كمشتري وروسيا كبائع – ولكن أوروبا ترددت وكانت النتيجة تحول روسيا إلى الصين، مما جعل الاتحاد الأوروبي سوقًا فرعيًا. علاوة على ذلك، أدت المصالح الخارجية والأمنية غير المتسقة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى إحباط أي موقف مشترك ومتماسك بشكل هادف.
أما الهدف الثالث فهو إيصال رسالة بأن روسيا قادرة على غزو أوكرانيا في الوقت الذي تريده، وبالتالي يمكن إجبار كييف على نوع من التبعية تجاه موسكو دون الاضطرار إلى تنفيذ عمل عسكري فعلي.
الرابحون والخاسرون
ظاهريًا، يبدو أن حلف الناتو كان جيدًا في الأزمة الحالية، حيث أصدر بيانات واضحة حول نواياه وسياساته وقدم مساعدة مادية محدودة لأوكرانيا، وهي دولة غير عضو.
وعلى الورق، هناك احتمال لانضمام أوكرانيا إلى الناتو لكن في الواقع تم حذف هذا الملف من جدول الأعمال. وللمرة الأولى منذ عام 1991، تصرفت روسيا بشكل استباقي ودفعت الناتو والاتحاد الأوروبي إلى خانة رد الفعل.
وبغض النظر عن كيفية انتهاء الأزمة، سيسعى بوتين لتصوير المشهد أمام العالم باعتبار أن روسيا انتصرت.
وإذا لم يحدث هجوم لأن روسيا لم تكن تنوي ذلك مطلقًا، فيمكن للرئيس بايدن أن يدعي أنه أحبط خطط موسكو. وربما سنرى الولايات المتحدة تطلب التزامًا أوروبيًا أقوى بسياستها تجاه الصين كمقابل “لإنقاذ” أوروبا من مصائب هجوم روسي على أوكرانيا؟.
وإذا كان الأمر كذلك، فستمارس واشنطن نفوذا أكبر على الأوروبيين وتقربهم من سياسات الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بغض النظر عن مصالحهم الخاصة. وفي هذا السياق، لا يهم ما إذا كانت إدارة بايدن تعتقد أن روسيا ستهاجم أوكرانيا أم لا.
إن الاستنتاج الرئيسي الذي يمكن استخلاصه من هذه اللعبة هو إثبات عدم قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها والتعامل مع أزمة كبرى مما ترك الأمر لروسيا والولايات المتحدة لتقرير الأمور.
لقد همّشت أوروبا نفسها، ليس نتيجة لهذه الأزمة الحالية، ولكن بسبب عقود من فشلها في بناء قدرة عسكرية ذات مصداقية. وبالمناسبة، سيكون هذا أيضًا عاملا لوقوع الحدث “غير المحتمل” وهو تنفيذ هجوم روسي ضد أوكرانيا بالفعل.
قتيلان وقذائف وخروقات.. هل أطلق الانفصاليون شرارة حرب روسيا على أوكرانيا؟
يورجن أورستروم مولر – ريسبونسبل ستيتكرافت