كتب: نصار إبراهيم
العدوان الإسرائيلي الذي جرى يوم 18 كانون ثاني 2015 ضد مجموعة مقاومة لحزب الله في القنيطرة السورية وراح ضحيتة سبعة مقاومين من بينهم جنرال إيراني، لم يكن مجرد عدوان عادي أو عابر، لهذا فإن رد المقاومة عليه في شبعا المحتلة يوم 28 كانون ثاني 2015، هو أيضا لم يكن ردا تكتيكيا عابرا أو انتقاميا… بل رد استراتيجي يضرب في عمق الوعي الإسرائيلي الذي اعتاد ثقافة القوة والمبادرة للهجوم وترويع الخصم وشل حركته واستنزافه وإهانته وتركيعه.
لهذا فهو رد فاصل ونقطة تحول استراتيجي في الصراع العربي – الإسرائيلي بكل المقاييس… هذا ليس تقييما عاطفيا أو انفعاليا.. بل تقييم يستند إلى قراءة موضوعية في مقدمات وظروف وتبعات العملية واستهدافاتها.. وما سيترتب عليها من تحولات وإزاحات… في مواقف واستراتيجيات المقاومة في المرحلة القادمة.
فالعدوان الذي شنته إسرائيل ضد المقاومة في القنيطرة لم يكن مجرد عملية اغتيال عادية، بل نقلة عسكرية وسياسية استهدفت إسرائيل من ورائها تغيير قواعد الاشتباك المحلي والإقليمي بل والعالمي بما يقلب استراتيجيات التحول التي بدأت تشهدها المنطقة في ظل فشل إسقاط الدولة الوطنية القومية السورية ومعها محور المقاومة.
كما أنها لم تكن عملية استخبارية روتينية، بل عملية محسوبة ومقدرة ترتبط برهانات ومقامرات عميقة… أساسها ترسيخ المعادلة التي تستوطن العقل السياسي والأمني والاجتماعي الإسرائيلي، والتي تتكثف وترتكز على مبدأ “حق إسرائيل” المطلق في الهجوم متى وأين شاءت…كترجمة ل”حق ” مكتسب تحاول إسرائيل ومنذ بداية الصراع العربي – الصهيويني وبكل ما أوتيت من قوة الحفاظ علية… وهذا “الحق: يتحرك في سياق الإقرار الشامل “بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” بما في ذلك مهاجمة الأخطار والتهديدات المحتملة …في هذا السياق رأت إسرائيل أن اللحظة مناسبة لتوجيه ضربة عنيفة للمقاومة وإظهارها في موقف الضعف والعجز… وإعادتها للمربع صفر.
وبما أن المقاومة اللبنانية هي جزء من محور إقليمي أشمل إذن فإن هدف العملية الإسرائيلية يمتد بالتأكيد ليغطي مساحة الصراع وإظهار عجز محور المقاومة بكامله… نجاح إسرائيل في تحقيق هذه الأهداف يعني ترميم الاختراقات والتآكل الذي تعرضت له قوتها الردعية من جانب، وأعادة تثبيت تفوقها الاستراتيجي والميداني بكل ما يعنيه ذلك من نتائج سياسية وأمنية وغيرها من جانب آخر. وبهذا يجري تفريغ انتصارات وتضحيات محور المقاومة المتراكمة منذ عام 2000 من مضمونها تماما ويجعل منها مجرد نمر من ورق.
أما على الصعيد الإقليمي … فقد استهدفت إسرائيل استثمار حالة الاستنزاف التي تعيشها الدولة الوطنية السورية منذ أربع سنوات وانشغال الجيش العربي السوري في الحرب الطاحنة ضد الإرهاب المنظم المدعوم عربيا وعالميا… وبالتالي أظهار عجز وضعف المعادلة التي رسمها الرئيس بشار الأسد بخصوص المقاومة وتحرير الجولان… وبالتالي أرادت إسرائيل الرد على معادلة الرئيس الأسد بنقل الاشتباك إلى الأرض السورية بما يمهد لتتثبيت حزام “أنطوان لحد” سوري على امتداد الجولان المحتل… ولاحقا الانتقال لتهديد العمق السوري واستتباعا العمق اللبناني… وكل ذلك سيتم ترصيده فورا على شكل أوراق اعتماد سياسية سواء على صعيد التفاوض بين الدولة السورية وما يسمى المعارضة… والقول بأن يد إسرائيل هي اليد الطولى في المنطقة… وبالتالي يد أدواتها.
يضاف لذلك إظهار إيران كقوة عاجزة ومحدودة مما يعني تزويد الولايات المتحدة بقوة ضغط فعالة لقلب معادلات التفاوض حول الملف النووي ونقلها من مستوى الندية والاحترام وإعادتها إلى زاوية التفاوض بين طرف قوي وطرف ضعيف ومهان… والأهم هنا أن أسرائيل ستقدم نفسها باعتبارها القوة التي أنقذت الولايات المتحدة والغرب كله من صفقة نووية ستغير معادلات الإقليم بالكامل…أي أن”السوبرمان الإسرائيلي” وبضرية واحدة أدب الجميع وكشف عجزهم وضعفهم… مقابل جبروت إسرائيل التي انتظرت اللحظة المناسبة لتكشف عن بأسها حتى لحلفائها وأدواتها.
هذا ما راهنت عليه إسرائيل… وربما هذا ما تمنته، وربما، وهو الأقرب للمنطق، رهانها على توريط الولايات المتحدة لخوض الحرب كبديل عنها… بمعنى أنها ستطلق الطلقة الأولى ثم تتوارى في الخندق كي يتولى غيرها القتال عنها… هكذا فكرت… هكذا راهنت… أو هكذا قادها غباء قوتها المفترضة، والأهم غباء قراءتها الإستراتيجية الخاطئة تماما لتقع في المصيدة… فبدت في النهاية وكأنها هي آخر من يعلم، وهي الوحيدة الغافلة التي تعيش في غيبوبة نفسية وسياسية، أي على خلاف الجميع الذي كان يدرك حقيقة ما يجري في المنطقة وما حصل ويحصل فيها من تبدلات عميقة على صعيد موازين القوى… ولهذا يتجه الجميع للمساومات والمفاوضات.
انطلاقا من كل ما تقدم يجب أن تجري قراءة عملية حزب الله الرائعة في مزارع شبعا… أي كرد إستراتيجي على معادلات إستراتيجية قدرتها ورسمتها إسرائيل بأناة ووعي وهي تقوم بعدوانها على القنيطرة السورية، اي أنه ردي وازي ويعادل الأهداف التي حددتها إسرائيل من وراء عدوانها.
بناء على وعي المقاومة وبعمق لهذه الأهداف… وعلى هذا رسمت ردها وحسمت خياراتها وفي ذات اللحظة الاستعداد لكل الخيارات المباشرة والحاسمة بما في ذلك الذهاب لمواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات… هكذا ومنذ اللحظة الأولى تحركت المقاومة لكي ترسل رسائلها وكأنها كانت تنتظر هذه الحماقة أو الخطأ الإسرائيلي الإستراتيجي لكي تصول صولتها وتعيد رسم المعادلات بما يتجاوز تماما ما كان قائما وسائدا… لهذا رفضت المقاومة وحلفاؤها كل الوساطات التي حاولت ضبط الإيقاع… فكان القرار الحاسم والنهائي: الرد قادم لا محالة ولن يتأخر… وسيكون مزلزلا بما يوازي الزلزال الذي راهنت عليه إسرائيل من وراء عدوانها.
إذن رد شبعا كان ردا إستراتيجيا بكل المعاني وبمختلف الأبعاد… لأنه جاء من على قاعدة أن محور المقاومة مستعد للحرب الشاملة فتفضلوا إن أردتم وغير ذلك لتبتلعوا أي رد سيقوم به المحور وأنتم تبتسمون… لقد كان القرار: لا خطوة واحدة للخلف.. ليس هذا فحسب بل وسنقوم بثلاث خطوات للأمام… أولها أن ما أنجزه محور المقاومة متمثلا بصمود الدولة الوطنية السورية وجيشها العقائدي وقيادتها البارعة وبالتالي فإن هزيمة مشروع الهيمنة الاستعماري الرجعي الإسرائيلي التركي الإرهابي … سيكون نهائيا…
وثانيها أن خط المقاومة سيمتد على طول الحدود اللبنانية السورية كحق مشرّع ومشروع ولا ينتظر إذنا أو غطاء من أحد سوى مشروعية الحق والأرض وأخلاقية المقاومة… من هنا يمكن فهم إطلاق الصاروخين باتجاه الجولان العربي السوري عشية عملية شبعا… ومن لا يرى الأبعاد العميقة لهذين الصاروخين عليه أن يعيد النظر… فاليوم صاروخين وغدا عبوات ناسفة وبعدها اقتحام وقصف وهكذا… لقد انتهت مرحلة الهدوء في الجولان.
أما البعد الثالث فقد جاء من خلال رد الفعل الأمريكي والغربي الباهت … بل وربما الغاضب على المراهقة الإسرائيلية…فإيران تجلس على طاولة التفاوض ليس من موقع الضعيف والمستجدي بل من موقف المقتدر المستعد لكل الخيارات… أمريكا تدرك ذلك… وتدرك أن إسرائيل في هذه المرة وغيرها ستدفع الثمن من رصيدها الإستراتيجي… بل وستجعل كل حلفائها العالميين والإقليميين يبدون معها في موقف العاجز بسبب تهورها وحماقتها… بمعنى أن ما أرادته إسرائيل فرصة لإثبات يدها الطولى تمخض عن معادلة أثبتت فيها المقاومة أنها هي صاحبة اليد الطولى… بل وأن جبهة المقاومة هي صاحبة المبادرة واليد الطولى في ظل عجز وارتباك جبهة الخصم الممتدة بكاملها.
هذه هي أبعاد عملية شبعا… إنها نقلة استرايجية على رقعة الصراع وفي وضح النهار بالمعنى العسكري والسياسي والنفسي والمعنوي والأمني.. وهذه النقلة لم تنفذ خلسة، بل عبر إعلان مباشر صريح وحاسم: سنضربكم فاستعدوا… وهكذا جرى لقد استعدوا من أقصاهم إلى أقصاهم… ومع ذلك ضربتهم المقاومة على الوجه تماما وفي وضح النهار… الأمر الذي يمنح المقاومة تفوقا سياسيا وأمنيا وأخلاقيا وعسكريا شاملا مقارنة بعملية إسرائيل التي جاءت خلسة وتسللا.
لقدكانت إسرائيل في أقصى جاهزيتها واستنفارها وتحفزها… وقد كان الهدف عسكريا بامتياز… وفي منطقة صعبة جغرافيا… ومع ذلك كانت الضربة مفاجئة وصاعقة…وكأنها حصلت وإسرائيل في عز نومها… تخيلوا مصارعا يعتقد نفسه أنه جبار وعملاق لا يهزم… لا يمسه ولا يتجرأ عليه أحد في الكون، ولهذا يعربد كما يشاء… فجأة ينهض له من بين الجمهور العادي جدا… رجل كريم بهي شجاع، أنيق ورشيق.. رجل ذو إرادة وبصر وبصيرة وقد تهيأ واستعد على طريقته.
يقول الرجل للمصارع المأخوذ بجبروته وأمام العالم أجمع: اسمع يا هذا تهيأ واستعد سأضربك… فيقف المصارع بكامل استعداده مستنفرا ومستفزا وجاهزا…يتلفت ويراقب ويحشد ذاته لكي يجعل من هذا الرجل أضحوكة أمام العالم… وفي لحظة غطرسته واستعراضه لقواه وعضلاته يتلقى من الرجل البهي الواقف أمامه مباشرة ووجها لوجه صفعة هائلة على وجهه وأمام جمهوره والعالم… فيتزلزل ويهتز ويهوي… وهو يتلفت حوله دون أن يدري كيف حصل ذلك… لقد كان مستعدا تماما فكيف حصل ما حصل…لقد حصل ما حصل لأن ذلك المغرور ليس كما يقول عن نفسه والرجل الشجاع هو أكثر بكثير مما يقول… هذا ما جرى.
لكل هذا وسواه أقول إن ما بعد صولة المقاومة في شبعا أبدا لن يعود لما كان قبلها.
وعلى قوى المقاومة كفكرة وموقف وسياسة وثقافة أن تدرك هذه الحقيقة… وأن تستعد للإنطلاق … لكي تجعل من ضربة شبعا مقدمة لسلسة من الإنقلابات المدهشة سياسيا وعسكريا وشعبيا ومعنويا.
خلاصة القول أن على العرب من محيطهم إلى خليجهم أن يعرفوا أن زمن إسرائيل الجبارة بالمعنى الإستراتيجي قد ولى… فهي لم تعد تخيف أحدا… سوى الأدوات الرخيصة والجبناء…لقد انتهى زمن الغطرسة والعربدة… وعلى أذنابها وأدواتها أن يلموا ذاتهم، فالأمة العربية لن تعود بعد أربع سنوات من المواجهة الطاحنة للنقطة التي كانت قبلها…إنه زمن الانتصارات.