تساءل الصحافي والمعلق بيتر أوبورن، عن الطريقة التي تحول فيها الملك تشارلز الثالث إلى المؤيد والمتعاطف الأكبر مع الإسلام في تاريخ بريطانيا. وقال أوبورن في مقال نشره موقع “ميدل إيست آي”، إن الملك رجل عقلاني ودرس الإسلام بعمق، وذهب بعيدا في دراسة اللغة العربية من أجل فهم القرآن. وأشار إلى أن ليز تراس تولت في الأسبوع الماضي رئاسة الوزراء، حيث يُنظر إليها أنها رئيسة الحكومة الأكثر تطرفا في كراهيتها للإسلام في تاريخ بريطانيا.
فحكومتها ترفض التعامل مع أكبر مؤسسة ممثلة للمسلمين، المجلس الإسلامي البريطاني، وأطرت العلاقة معها والمسلمين من خلال برنامج أمني “بريفنت”، وتم طرد مسلمة لأن موقعها كامرأة مسلمة وزيرة يجعل زملاءها غير مرتاحين. في وقت وجهت فيه الاتهامات للحكومة بمعاملة المسلمين كمواطنين من الدرجة الثانية. لكل هذا، ليس مستغربا أن يحمل نصف أعضاء حزب المحافظين الحاكم نظريات مؤامرة عن المسلمين البريطانيين.
وبعد يومين من تعيين تراس، صعد الملك تشارلز الثالث على عرش بريطانيا. وهو رجل مفكر ودرس الإسلام بعمق، وتعلم العربية لقراءة القرآن. وهو أكبر محب للإسلام بين الملوك في تاريخ بريطانيا، والمفارقة بينه وبين وحكومته كبيرة. وتعود علاقة الملك تشارلز بالإسلام إلى سلسلة من التصريحات التي أطلقها على مدى العقود الماضية، ودحض فيها صدام الحضارات وهي الأطروحة التي افترضت أن الإسلام في حرب مع الغرب.
الملك رجل عقلاني ودرس الإسلام بعمق، وذهب بعيدا في دراسة اللغة العربية من أجل فهم القرآن وهو أكبر محب للإسلام بين الملوك في تاريخ بريطانيا
وخلافا لهذا، ناقش أن الإسلام واليهودية والمسيحية هي أديان توحيدية، ولديها أمور مشتركة كثيرة. ومنذ عام 1993، يرعى الملك الجديد، مركزَ أوكسفورد للدراسات الإسلامية. وفي ذلك العام، ألقى الملك خطابا افتتاحيا للمركز بعنوان “الإسلام والغرب”، ولم يكن خطابا عن الدين يتوقعه الكثيرون من الساسة والأمراء، والذين يطلق عبارات طنانة فقط.
وعلاوة على ذلك، قدم ولي العهد في حينه جدلا مقنعا حول الحضارة الإسلامية وعلاقتها بأوروبا. وقال إن الإسلام هو جزء من ماضينا وحاضرنا في كل مجالات البحث الإنساني. وساعد على بناء أوروبا الحديثة. وهو جزء من تراثنا وليس منفصلا عنه. وحث الناس على تجاوز التشويهات المعاصرة للإسلام المبدأ الهادي لروحية التشريع الإسلامي نابع من القرآن ويجب أن تكون المساواة والرحمة” ولاحظ أن المرأة حصلت على حقها بالملكية والميراث في الإسلام قبل 1.400 عام، وحيّا “التسامح المدهش للإسلام في العصور الوسطى، وتحسّر على جهل الغرب بالدين الإسلامي.
ووصف ولي العهد في حينه المجتمعات المسلمة في بريطانيا بـ”الرصيد” الذي يضيف لثقافة وغنى الأمة. وعلى خلاف الذين طالبوا المسلمين بالتخلي عن هوياتهم من أجل الاندماج، دعا تشارلز إلى طريق باتجاهين: على المسلمين موازنة الحرية الضرورية لأنفسهم مع تقدير أهمية الاندماج في مجتمعنا. وبالنسبة لغير المسلمين، فعليهم تبني احترام الممارسات اليومية للدين الإسلامي والكياسة المناسبة لتجنب تصرفات قد تتسبب بإساءة عميقة.
وكان خطابا مكهربا من ولي لعهد بريطانيا يخاطب المسلمين، معظمهم من المهاجرين القادمين من المستعمرات السابقة، وأن وجودهم في البلد ليس مرحبا به فقط بل يثّمن. في عام 2018، فصّل كتاب كتبه مراسل الشؤون الملكية روبرت جوبسون، وكتبه بالتعاون مع مكتب تشارلو عن أنه عارض غزو العراق، وعبّر عن معارضته بشكل خاص لرئيس الوزراء في حينه توني بلير. وبحسب جوبسون فقد اعتقد تشارلز أن الزحف وحمل الراية من أجل النموذج الديمقراطي الغربي حماقة وعبث في وقت واحد. وأخبر تشارلز الوزراء أنه لا يحبذ استخدام شركات السلاح البريطانية علاقاتها مع دول الخليج لبيع الأسلحة.
ثم هناك التعاطف مع الفلسطينيين، وهو ما يفسر زيارة ابنه الأمير ويليام وليس تشارلز نفسه الذي زار إسرائيل عام 2018. وفي عام 2020 زار تشارلز إسرائيل في أول زيارة شملت الزيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث عبّر عن “أمله بأن يجلب المستقبل الحرية والعدالة والمساواة للجميع”. ولم ينطق أو يعبر أمير أو ملك سابقا بمشاعر كهذه.
وعندما يتعلق الأمر بالمسلمين في أوروبا، فقد انتقد تشارلز العلمانية الفرنسية والبلجيكية، ورفض منع الحجاب فيهما، وليس له وقت للمشاعر المعادية للمسلمين وانتشارها في أوروبا. وتعرّض تشارلز في الفترة الماضية لانتقادات، عندما كشفت صحيفة “صاندي تايمز” عن قبول مؤسسته الخيرية حقيبة محشوة بالجنيهات من رئيس الوزراء القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم. ونفت الجمعية ارتكاب خطأ ولا يوجد ما يؤشر أن تشارلز انتفع شخصيا.
وكان فضول تشارلز العلمي ودفاعه عن التراث محلا لسخرية المعلقين، مثل الكاتب في معسكر اليمين المحافظ الأمريكي دانيال بايبس الذي كتب في مدونته: “هل اعتنق الأمير تشارلز الإسلام؟” وقدم عدة أدلة عن هذا، منها مشاركة الأمير في إفطار رمضاني، ونقده لسلمان رشدي الذي أهان معتقدات أساسية في الإسلام. وقبل قرن، انتشرت شائعات مشابهة عن وينستون تشرتشل.
وقرأ تشارلز أعمال منظر التقليدية الفرنسي رينيه غينون (عبد الواحد يحيى)، والذي كتب في بداية القرن العشرين أن الحداثة الغربية قامت على خطوط مادية وهي تعتبر شذوذا في التاريخ الإنساني. وفي خطاب ألقاه تشارلز عام 2006، قال فيه: لو كانت (التقليدية) تدافع عن الماضي فهذا لأن معظم الحضارات العالمية فيما قبل الحداثة اتسمت بحضور المقدس. وبالمقارنة، فعصرنا الحالي هو عالم التفكك، اللاترابط والدمار.
ونظر غينون إلى الشرق، حيث كتب عن الهندوسية والتاوية قبل سفره إلى القاهرة، وهناك ارتبط بالطريقة الصوفية الأحمدية الشاذلية ودرس في الأزهر، ومات مسلماً في القاهرة عام 1951. وكان دور غينون في تشكيل أفاكر الملك محيرا للمعلقين مثل الكاتب العسكري ماكس هيستنغ. ففي قراءة لكتاب تشارلز “تناغم: طريقة جديدة للنظر إلى عالمنا” كتب في صحيفة “ديلي ميل” إن الخطر على مؤسستنا الملكية يكمن في موقفه المشوش والغامض.
وظهر إعجاب تشارلز بالفنون الإسلامية في حياته الخاصة، مثل الحديقة السجادية المستلهمة من الفن الإسلامي في بيته
ولم يمنعه النقد الحاد الذي شنه الإعلام من ممارسة أفكاره عمليا، فمنذ عام 1993 بدأت مؤسسته باقتناء الفنون البصرية الإسلامية، وبدأت برنامجا للفن التقليدي. وأنتج الطلاب منمنمات مغولية وبلاطا عثمانيا وخطوطا عربية. واستقبلت المؤسسة أستاذين زائرين معروفين، وهما مارتن لينغ، الكاتب المعروف بسيرته للنبي محمد بالإنكليزية، وسيد حسين نصر، الأكاديمي المعروف بعالم الدراسات الإسلامية. وتحول البرنامج عام 2004 إلى مؤسسة الأمير تشارلز للفنون التقليدية. وظهر إعجاب تشارلز بالفنون الإسلامية في حياته الخاصة، مثل الحديقة السجادية المستلهمة من الفن الإسلامي في بيته في هايغروف. وقال تشارلز: زرعت تيناً ورمانا وزيتوناً في الحديقة لأنها ذكرت في القرآن.
كل هذا يجعل الملك تشارلز في تناقض مع حكومة تراس، وحكومة المحافظين التي تقودها. ولو عاد تشارلز لموضوع الإسلام، فسيعرض نفسه للنقد من المحافظين الجدد الذين يحددون الكثير من أجندة حزب المحافظين. وسنرى إن كان الملك الجديد سيواصل الحديث عن الدين كما فعل عندما كان وليا للعهد. وقد يكون حكيما باتباع مثال والدته التي حاولت الابتعاد عن القضايا الجدلية. ومن المهم أن يكون لبريطانيا ملك يكن إعجابا للإسلام. ونشرت المساجد في بريطانيا التعازي بوفاة الملكة إليزابيث، وأشار الكثير من المسلمين لإعجاب الملك الجديد بالإسلام.
وفي خطبته يوم الجمعة الماضية في المسجد الصديق للبيئة بكامبريدج، اقتبس الشيخ عبد الحكيم مراد من كلمة الملك الجديد عام 1993 “الإسلام والغرب” وتساءل مشيرا لدراسة تشارلز العربية لقراءة القرآن: كم من النواب يفعلون هذا؟. فهل سيتبع تشارلز مثال أمه بالتركيز على التسامح والتعددية الثقافية بالتناقض مع القومية التي دعا إليها بوريس جونسون وحكومة تراس؟
وهناك أدلة أنه سيفعل هذا، حيث قال في خطابه الأول كملك: على مدى السبعين عاما الماضية، شاهدنا مجتمعنا وقد أصبح متعدد الثقافات والأديان، ومهما كانت أرضيتك أو اعتقادك، فسأحاول خدمتك بالولاء والاحترام والحب.