منذ الغزو الأمريكي عام 2003، أصبح العراق ساحة للتنافس الجيوسياسي. ودفعت اعتبارات الأمن القومي إيران للتركيز على العراق حتى امتلكت نفوذا كبيرا على مختلف قطاعات الاقتصاد العراقي. وبالنظر إلى أن الحكومات العراقية المتعاقبة فشلت على مدى العقدين الماضيين في إعادة الكهرباء إلى طاقتها الكاملة، قامت إيران بملء الفراغ جزئيًا، وربطت شبكتها الكهربائية بالعراق، ووفرت الغاز الطبيعي اللازم لمحطات الطاقة المحلية في العراق.
ولم تستفد طهران فقط من العملة الصعبة التي تجنيها من بيع الكهرباء والغاز إلى بغداد، لكن هذه الأداة زادت من نفوذها الإقليمي ووفرت ورقة أخرى للضغط علي الحكومات العراقية المتعاقبة. ولمواجهة هذا النفوذ، تحاول الولايات المتحدة وشركاؤها في الشرق الأوسط زيادة نفوذهم في العراق وتقليص نفوذ إيران من خلال تزويد العراق بالكهرباء. ومع ذلك، فإن نجاح هذه المناورة غير مؤكد.
وحتى قبل الغزو الأمريكي، أدت العقوبات الدولية المفروضة على نظام صدام حسين إلى شل شبكة الكهرباء العراقية، مما منع توفر الكهرباء على مدار الساعة. وفشلت الحكومات التي خلفت “صدام حسين” في معالجة هذه المشكلة. وبالرغم أن التفاوت بين العرض والطلب آخذ في الاتساع بسبب الزيادة السكانية، يظل الفساد أكبر عقبة أمام شبكة كهرباء موثوقة.
وتشير التقديرات إلى أن الطلب على الكهرباء داخل العراق سيزيد بنحو 1000 ميغاواط سنويًا بحلول عام 2030، بينما اعترف رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي بأن الدولة أنفقت 62 مليار دولار منذ عام 2003 دون استعادة الكهرباء بشكل كامل. ومع فشل الحكومة العراقية في إعادة تأهيل قطاع الكهرباء، سعت إلى شراء الكهرباء من دول أخرى من أجل الحفاظ على إمداد مستقر.
ويبلغ الإنتاج المحلي من الكهرباء في العراق ما يقرب من 22 ألف ميغاواط، لكن هذه الكمية غير كافية لتلبية الطلب البالغ 35 ألف ميغاواط، والذي يصل إلى ذروته في أشهر الصيف الحارقة في البلاد. ولسد هذه الفجوة، توفر إيران ما يقرب من 1200 ميغاواط مباشرة في الشبكة الكهربائية و 40 مليون متر مكعب من الغاز للمولدات العراقية.
لكن استيراد الغاز والكهرباء الإيراني يتسبب في بعض المشاكل السياسية واللوجستية. على سبيل المثال، ففي كل مرة يسعى فيها العراق لتجديد عقد الاستيراد، يجب أن يحصل على استثناء من الولايات المتحدة يسمح له بالتعامل مع طهران، بسبب العقوبات الدولية المفروضة على إيران.
بالإضافة إلى ذلك، فإن النقص المتزايد في الكهرباء المحلية في إيران يثير شكوك حول استمرار تصدير الكهرباء إلى العراق على المدى الطويل. ويعد مستقبل الإمدادات الإيرانية غير مضمون بأي حال من الأحوال. وقد قطعت طهران الكهرباء عن العراق بسبب تأخر المدفوعات في 2018، مما أثار احتجاجات شعبية. وخلق هذا الوضع فرصة لخصوم إيران لتقليل اعتماد العراق على إيران.
ولتخفيف الضغط على العراق وتنويع مصادر الكهرباء، وقّع العراق وهيئة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون الخليجي اتفاقية خلال القمة الأخيرة في جدة. وتم التوقيع على الإطار المبدئي للاتفاقية في عام 2019؛ وكانت تهدف في البداية إلى إمداد العراق بالكهرباء بحلول عام 2020، ولكن تم تأجيل الموعد المستهدف لاحقًا حتى عام 2024.
وكان الغرض المعلن من الاتفاقية هو “إنشاء خطوط ربط كهربائية من محطات في الكويت إلى محطة الفاو جنوبي العراق لتوفير حوالي 500 ميغاواط من الطاقة من دول مجلس التعاون الخليجي”، مع إمكانية زيادة النقل إلى 1800 ميغاواط بمرور الوقت.
ولم تكن صفقة دول مجلس التعاون الخليجي هي الأولى التي يطلب فيها العراق الكهرباء من دول أخرى غير إيران. على سبيل المثال، وقّع الأردن بالفعل صفقة مع العراق لربط شبكتي الكهرباء في البلدين، وهو مشروع من المتوقع أن يكتمل بحلول نهاية عام 2022. علاوة على ذلك، يخطط العراق لشراء 500 ميغاواط من تركيا للتخفيف من أزمة الكهرباء وقد وقّعت بغداد بالفعل صفقة ربط من شمال السعودية بطاقة 1000 ميغاواط.
وبالنسبة للولايات المتحدة والسعودية، فإن فطم العراق عن الغاز والكهرباء الإيرانية يخدم غرضين: تقليص النفوذ الإيراني على الحكومة العراقية خاصة بعد الجمود في إحياء الاتفاق النووي، وحرمان طهران من الحصول على العملة الصعبة التي تتلقاها من العراق. لكن هل ستنجح هذه الخطط؟
وبالرغم أن التعاون الدولي مع العراق بشكل عام، وفي مجال الكهرباء تحديداً، يعد خطوة إيجابية نحو إزاحة النفوذ الإيراني واستعادة السيادة العراقية، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً. وتعد إحدى العقبات الحاسمة هي حجم العجز في الكهرباء في العراق.
ويحتاج العراق إلى نحو 13 ألف ميغاواط من أجل الحفاظ على الكهرباء على مدار 24 ساعة وهي فجوة أخفقت الصفقات الإقليمية في سدها حتى الآن. ثانيًا، لا تنبع أهمية إيران في قطاع الكهرباء العراقي من كمية الكهرباء التي توفرها فحسب، بل تأتي أيضًا من الغاز الطبيعي الذي يشغّل ما يقرب من نصف إنتاج الكهرباء المحلي في العراق. وكما صرح وزير الكهرباء العراقي “عادل كريم”، فإن قطاع الغاز العراقي يعاني من مشاكل كثيرة لذلك ستظل بغداد بحاجة إلى الغاز الإيراني لسنوات قادمة.
وأخيراً، هناك عوامل عراقية داخلية قد تعيق تنفيذ المشروع حيث يعرب وكلاء إيران في العراق بالفعل عن معارضتهم للتعاون مع مجلس التعاون الخليجي. على سبيل المثال، ادعى عدي الخضران، القيادي في “تحالف الفتح” الموالي لإيران، أن توصيل الكهرباء مع السعودية قد ولد ميتًا وأن 500 ميغاواط التي سيحصل عليها العراق لن تكون كافية لتزويد حي واحد ببغداد بالطاقة.
علاوة على ذلك، فإن تكلفة تحديث قطاع الكهرباء في العراق وربطه بدول مجلس التعاون الخليجي سيتطلب استثمارًا مكلفًا من قبل بغداد التي يغرقها الفساد بالفعل، ناهيك عن الخطر المستمر الذي يمثله النشاط العسكري، حيث ستكون الشبكات هدفًا للهجمات الإرهابية. وأخيرًا، تؤدي “الاختلافات الفولتية” بين تردد الكهرباء في العراق والسعودية إلى تعقيد ربط الشبكات.
ويعني تزويد العراق بالكهرباء أن دولًا أخرى غير إيران قد يكون لها نفوذ يمكن أن يساعد في تحقيق التوازن في السياسة الخارجية للعراق. ومع ذلك، فإن هذه الاتفاقات لن تحد بالضرورة من نفوذ إيران، حيث أن تعاون العراق مع إيران في قطاع الكهرباء ما هو إلا أداة واحدة من أدوات عديدة يمكن لإيران التأثير من خلالها على العراق.
علاوة على ذلك، يعتمد تأثير التعاون الخليجي-العراقي أيضًا على متغيرات أخرى، مثل الانفراج المحتمل مع إيران، والسياسة الداخلية العراقية، والطلب المستقبلي على توريد الكهرباء.