“منذ سنين ونبيل شعث لا يتبوأ منصباً نشطاً في السلطة الفلسطينية. السياسي المحنك (82) الوزير السابق في حكومات السلطة، يتولى اليوم منصب مستشار شخصي لصديقه أبو مازن. تحدث شعث هذا الأسبوع مع صحافي لبناني وتناول انتخابات المجلس التشريعي، البرلمان الفلسطيني، الكفيلة بأن تجرى في 22 أيار. لماذا “كفيلة” بلهجة الشك؟ إذ غير قليل من اللاعبين في الساحة يعملون على إحباطها كلما مرت الأيام.
“بالطبع هناك إمكانية لتأجيل الانتخابات”، قال شعث، “الاحتلال لا يعطي رداً على طلب السلطة إجراء الانتخابات في القدس المحتلة”.
وأضاف بأنه بدون شرقي القدس لا معنى للتصويت، إذ إنه “هكذا يـأتي التعبير عن إرادة إسرائيل – في عزل القدس عنا”.
ظاهراً ثمة تفسير معلل هنا؛ فلا يمكن إجراء انتخابات بدون التصويت داخل العاصمة. أما عملياً، فأمامنا مناورة تذمر سياسي. فالتصويت في شرقي القدس وإن كان مهماً، ولكن الفلسطيني العادي سيفضل بعد 15 سنة دون انتخابات، إجراء انتخابات بدون القدس، إذا كان البديل هو إلغاؤها. في الوقت الذي كان يسر إسرائيل أن تتخلى عن بضع حملات انتخابية مرت بها (وستمر بها)، فإن الفلسطينيين يموتون على حملة انتخابات واحدة.
هم يعرفون بأن وضعهم لن يتغير دراماتيكياً بعدها. فبالإجمال سينتخبون تشكيلة المجلس التشريعي، الذي هو البرلمان الفلسطيني وفي 132 نائباً. ستواصل السلطة إدارة قضاياهم الملحة، ومن فوقها إسرائيل، في المدى القريب على الأقل. ولكن جمال الانتخابات الحرة ليس في النتيجة فقط، بل ستسمح لزعماء جدد بالبروز وأن تقام تجمعات تنظيمية، وأن يعرب الناس عن آرائهم ويضخوا دماً جديداً إلى واقعهم السياسي، الذي يضرب جذوره منذ عقدين وثلاثة عقود مضت.
صحيح أن القدس رمز، ولكن يمكنهم عملياً أن يتخلوا عن التصويت في شرقي القدس، فعدد أصحاب حق الاقتراع الفلسطينيين في القدس هو 180 ألفاً، ويحق لهم أن يصوتوا أينما شاءوا، بما في ذلك خارج المدينة. مثلاً، في البلدات القديمة، مثل أبوديس والعيزرية. وإذا ما أتيح مع ذلك التصويت في نطاقها، فهو سيجري في بريدين أو ثلاثة فقط. عدد المقترعين الذي يمكن لهذه الصناديق أن تحتويها هو 6.300 (من أصل نحو مليونين من أصحاب حق الاقتراع). وعندما تنتهي حفنة الآلاف هذه من التصويت ستغلق الصناديق، وستكون كالذبابة على الفيل.
يسود خلاف هذه الأيام في قمة السلطة. يميل أبو مازن إلى إجراء الانتخابات كي تساهم في الإرث الليبرالي الذي سيخلفه وراءه. أما الناس حوله، بالمقابل، فينشغلون في تصميم مستقبلهم القريب، وهذه الانتخابات تشكل لهم مشكلة كبيرة. لم تتمكن حركة فتح من الاتحاد في قائمة واحدة تضمن النصر، بل انشقت إلى ثلاث. واحدة بإلهام أبو مازن، الثانية متماثلة مع مروان البرغوثي، والثالثة أقامها محمد دحلان. أما خصومهم في حماس بالمقابل فيتنافسون في قائمة واحدة. رجال مطبخ أبو مازن، كلهم ذوو صلاحيات وقدرة تأثير يخشون من ألا تنجح قائمتهم، بل أن تكون ضحية تصويت احتجاج من الجمهور. هزيمة كهذه مثلها كتصويت حجب ثقة عن السلطة بكاملها.
تعتقد إسرائيل أنه هذه الانتخابات يجب ألا تتم، ويتصدر الموقف الإسرائيلي هذا جهاز الأمن العام. وذريعة إسرائيل سيادية، ما الذي يجعلنا نسمح لحماس بأن تخوض دعاية انتخابية في العاصمة الخالدة لدولة “إسرائيل”. ولكن لم يسبق لجهاز المخابرات الإسرائيلي أن خاف من عدة بوسترات لحماس، ولا من نشاط سياسي قصير الأوان تحت السيطرة. التخوف هو من الميل الزاحف؛ فنجاح حماس في الانتخابات إلى جانب رحيل أبو مازن في أثناء الولاية هما حقنتا تشجيع جميلتان، وبوسعهما أن تدفعا حماس للانقضاض على الضفة.
لقد وجد جهاز الأمن العام “الشاباك” شركاء رأي في رام الله، ومنحهم حبلاً واسمه التصويت في شرقي القدس. لا تعلن إسرائيل عن موقفها علناً، كي لا تبدو كمن تمنع عن الفلسطينيين إجراء ديمقراطياً. ولكن مثلما رأينا في أقوال شعث، يكفي السلطة التسويف الإسرائيلي كي تستخلص الاستنتاج “السليم”.
بانتظار القرار
يعرف الجمهور الفلسطيني أن إسرائيل تعارض إجراء التصويت في شرقي المدينة، وكان إسرائيليون يرتدون البزات قد ألمحوا بذلك علناً، وحتى لو لم يلمحوا، فليس صعباً فهم ذلك. تلتف إسرائيل بصمت صاخب، والناطقون بلسان السلطة يهجمون على ذلك كالغنيمة الكبرى ويعلنون بأن لا انتخابات بدون القدس. التوافق بين رام الله وتل أبيب واضح.
بعد شهر يفترض بالجماهير أن تتوجه إلى صناديق الاقتراع. وحتى ذلك الحين، يتعين على رام الله أن تقرر ما إذا كانت تريدها على الإطلاق. نشأ في الميدان الآن واقع انتخابي. 36 قائمة سجلت للتنافس. العالم كله ينظر إلى الفلسطينيين وينتظر رؤية كيف سيلعبون أمامنا. والآن كل شيء متعلق بأبو مازن، وباثنين أو ثلاثة آخرين مهمين إلى جانبه.
للسياسة الإسرائيلية في هذه المسألة تداعيات مستقبلية عميقة أكثر مما يبدو، فهي لا تنتهي بـ 6.300 مقترح ولا بمسألة التصويت في شرقي المدينة. جربوا أن تضعوا أنفسكم محل رجال الطبقة الوسطى الفلسطينية، العمود الفقري للمجتمع. شبان أبناء 20، 30، 40. وسواء كانوا متعلمين، أكثر أو أقل، فإنهم ينظرون إلى إسرائيل، الهائجة والميسورة وذات القانون والنظام والمؤسسات الديمقراطية، تأخذ منهم أملهم في حياة ديمقراطية. فهي تمسك بكل مفاتيح اقتصادهم وحقهم في الحركة اليومية، بل حتى بسفرهم خارج البلاد للاستجمام. وتمنع عنهم الآن حياة سياسية تتمتع هي نفسها بها.
لو كانت إسرائيل دولة ضعيفة وقريبة من التفكك، لكان من الطبيعي أن تحمي نفسها من كل عدو. ولكن مم تخاف؟ يتساءل الفلسطيني المشارك بينه وبين نفسه. وبالنسبة له، بخلافنا، هذه الانتخابات ليست منافسة بين حماس وكل الباقين، وليس مناورة لانقلاب سلطوي في رام الله. هذا هو أمله في أن يشعر بأنه مواطن في دولة ديمقراطية، وأن يشعر ما هي حرية التنظيم والتمثيل السياسي، وكيف يمكن تحديد هدف شخصي في الحياة وتحقيقه. آلاف المتنافسين في جملة القوائم التي تقدمت للانتخابات هم شبان ذوو قدرات وارادة للانخراط في العالم الكبير، والسلاح الوحيد الذي رأوه في حياتهم يحمله جنود الجيش الإسرائيلي. لإحساسهم أن هذه الانتخابات مشروع بناء مستقبل للمجتمع الفلسطيني. ولكنه مستقبل تمسك به إسرائيل وترفض تحريره. لهذا الفهم تأثير سلبي على مستقبل العلاقات بين الشعبين هنا، وقد يكون فيه بذور الاضطراب.
ما الذي سيعتقده الفلسطينيون بعد عقد أو اثنين عن إسرائيل كقوة عظمى جارة؟ هل سيقولون لأنفسهم إنهم علمونا الديمقراطية، أم سيقولون عنا إننا حفظنا ديمقراطيتنا وخنقنا ديمقراطيتهم. هذه أسئلة تحاول إسرائيل الهرب منها، ومن أسئلة أساسية أخرى ولدتها: ماذا ستكون مكانة الفلسطينيين في ختام سنوات جيل؟ هل سيعيشون في دولتهم وسلام على إسرائيل، أم في دولة واحدة من البحر المتوسط وحتى نهر الأردن؟ وإذا كانوا في دولة واحدة، فهل سيكونون مواطنين متساوي الحقوق أم مواطنين من الدرجة الثانية؟ وإذا كانوا مواطنين من الدرجة الثانية، فكم من الوقت يمكننا تركهم تحت الكفة؟
بيننا كثيرون لا تريحهم هذه الأسئلة، كما أنها ليست مريحة بالنسبة لي أنا أيضاً. ولكن ما العمل؟ لسنوات دحرناها تحت البساط، ولكنها تصر أحيانا على أن تطل علينا من هناك. سنلتقي في صناديق الاقتراع.
بقلم: جاكي خوجي صحيفة (معاريف) العبرية