نشرت مجلة “أتلانتك مونثلي” تقريرا أعدته أليس سو، حمل عنوان “غزة هي الجحيم”، قالت فيه: “بعد ثمانية أشهر من حرب الصيف الماضي بين إسرائيل والفلسطينيين، فإن غزة لا تزال في حالة دمار.
اركب السيارة لمدة خمس دقائق في المنطقة من المعبر الحدودي في جنوب غرب إسرائيل، وستصل إلى بيت حانون، وهي واحدة من المناطق التي ضربت بقوة من البر والجو خلال الحرب. وتنتشر السماء الزرقاء الصافية فوق البنايات التي سقطت أجزاء كبيرة منها، وتظهر المطابخ وغرف النوم التي أكل نصفها القصف وهي تتثاءب، وتظهر منها الأسلاك المتدلية والحجارة المتكسرة ممتلكات البيت: أحذية وصناديق من مواد النظافة وكتب مدرسية ممزقة. ويختلس الناس النظر فوق ركام من الأنقاض من الخيام التي نصبت إلى جانب بيوتهم السابقة، مثل الغرباء الذين جاءوا للاستيطان من كوكب مهجور”.
وتضيف الكاتبة في تقريرها أنه “في مدينة غزة تغطي أعلام وشعارات حركة حماس، التي تدير غزة، زوايا الشوارع (ثابروا أيها الفلسطينيون، صمودكم هو أملنا الوحيد للحرية). وعندما تسوق السيارة في المدينة فإنك تشاهد اللوحات الجدارية التي تظهر الحمائم والأطفال الممسكين بأيدي بعضهم البعض، ورسوما كاريكاتيرية للأونروا حول كيفية توفير المياه وإزالة النفايات، ومن ثم صورة لشخص وهو يقوم بتدمير دبابة إسرائيلية. وعلى الجانب الآخر قام أحدهم برسم نجمة داوود على حاوية قمامة”.
وتتابع سو: “اسأل الناس عما يفعلون، وسيردون (نجلس وننتظر)، وخطابات حركة حماس كلها عن المقاومة، لكن الناس الذين التقيتهم لم يكونوا صامدين بقدر ما هم بائسون، فمن نجا منهم من حرب الصيف الماضي لا يزال عالقا في مسافة لا تزيد على 360 كيلومترا من العذاب والتناقض، تخنقه الحرب والحصار، ويشعر بالخيبة من القيادة الفلسطينية، ومغلوب على أمره من الدول الداعمة. يجلسون دون عمل أو إغاثة أو وسائل لإعادة البناء، وينتظرون الأمور كي تتغير”.
المحتويات
البحث في الأنقاض
يقول محمد، البالغ من العمر 20 عاما من حي الشجاعية، الذي يعد الحي الأكثر تضررا في مدينة غزة: “غزة هي الجحيم”. ويقوم هو وشقيقه البالغ من العمر 19 عاما بجمع ما تبقى من بيتهما. وفي بعض الأحيان يبيعان ما استخرجاه من حديد وحجارة لمحلات إعادة التدوير. وفي يوم آخر كانا يبحثان عن صورهما وأرواقهما الشخصية وملابسهما، ويضيف محمد: “الغزيون يواجهون إسرائيل من جانب، وحركة حماس من الجانب الآخر، وهم يأكلون العفن”. مبينا أن “الناس يعيشون هنا فقط لأنهم لا يموتون، ولو كان الموت أفضل لذهبنا إليه”.
ويشير التقرير إلى أن غزة التي وقعت تحت السيطرة الإسرائيلية في الفترة ما بين 1967 إلى 2005، بعدما قررت إسرائيل الانسحاب وتفكيك المستوطنات، عادت إلى السلطة الوطنية، ولكن فوز حركة حماس عام 2006 والخلافات بينها وبين حركة فتح، قادا إلى هزيمة الأخيرة وهروبها إلى الضفة. وردت إسرائيل بفرض الحصار على القطاع تحت ذريعة منع الصواريخ والنشاطات المسلحة. وفرضت قيودا على مرور المواد التجارية والأساسية من المعابر الواقعة تحت سيطرتها، مثل مرور الدواء والطعام والوقود اللازم للطاقة الكهربائية، وشنت إسرائيل ثلاث حروب على غزة، كانت آخرها الحرب التي راح ضحيتها 2131 فلسطينيا و 71 جنديا إسرائيليا. وكان معظم القتلى الفلسطينيين من المدنيين، أي بنسبة 70%، بينهم 501 طفل.
وتنقل المجلة عن طالب في الجامعة الإسلامية في غزة عمره 21 عاما قوله: “لا أدعم أي حزب سياسي، ولكن عندما تقتلنا إسرائيل فإن حركة حماس تكون مثل العمليات الخاصة، وهم الوحيدون الذين يفعلون شيئا للدفاع عنا”. وتقول طالبة جامعية أخرى إنها فقدت الأمل بالسياسة، ولكنها ستصوت لحركة حماس لو جرت الانتخابات الآن. مشيرة إلى أن الساسة الفلسطينيين فاسدون، ولكنها ستدعم حماس بدلا من الامتناع عن المقاومة، وتقول: “نعرف أننا لو توقفنا فستمحونا إسرائيل عن ظهر الوجود، لقد تم سحقنا وسحقنا وسحقنا، فإما الموت من أجل قضيتك أو الاستسلام، ولكنك ستقتل في كلتا الحالتين”.
خلافات
وتذكر سو أن حركتي فتح وحماس كانتا قد شكلتا في حزيران/ يونيو الماضي حكومة للوحدة الوطنية، ووعدتا بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في غضون ستة أشهر، ولكن الحرب اندلعت، ومضى الوقت على عقد الانتخابات البرلمانية، وانقسم الساسة حول عدد من القضايا الرئيسة. وبعض هذه القضايا أيديولوجية مثل تبني حركة حماس خيار المقاومة، فيما تفضل السلطة الوطنية المفاوضات. وهناك قضايا بيروقراطية تبدو غريبة، فقد طلب مثلا من 70 ألف موظف تابع للسلطة التوقف عن العمل عندما سيطرت حركة حماس على غزة عام 2007، ويتلقى أربعون ألفا رواتب من السلطة الوطنية في رام الله، مع أنهم لا يعملون، فيما يعمل الموظفون المدنيون والقوى الأمنية، الذين وظفتهم حركة حماس ليحلوا مكان الذين لا يعملون، وعددهم 40 ألفا، فهم يعملون ولسنوات دون تلقي رواتب.
وتبين المجلة أن حركة حماس تريد من السلطة الوطنية دفع رواتب هؤلاء، ولكن السلطة رفضت مناقشة أن بعض من وظفتهم حركة حماس غير مؤهلين. وفي الوقت ذاته تفرض السلطة الوطنية ضرائب على الوقود المستورد لتشغيل محطة التوليد الوحيدة في القطاع، التي دمر نصفها، وتستخدم جبايات الضرائب لدفع رواتب موظفيها في غزة، وهؤلاء يجلسون في بيوتهم دون عمل وفي الظلمة بسبب عدم توفر الكهرباء؛ نظرا لكلفتها العالية وقلة الوقود الذي خنق إمدادات غزة للطاقة.
نصيب
تقول الكاتبة: “في أنحاء غزة كلها سمعت كلمة واحدة وهي: (نصيب)، أي أن قدر الإنسان في الحياة يقدره الله”.
ويورد التقرير أن أحد السائقين السابقين على “التك تك”، ويدعى يحيى محمود يقول: “نصيب”، حيث كان يقف إلى جانب هيكل بيت عائلته الذي كان مكونا من أربعة طوابق في دير البلح، وهو مخيم للاجئين بني في البداية كي يستوعب تسعة آلاف نسمة من بين 750 ألفا أصبحوا لاجئين بعد إنشاء إسرائيل عام 1948. وبعد نصف قرن تحولت الخيام عبر الأجيال إلى ملاجئ، ومن ثم بنايات أسمنتية.
وتلفت المجلة إلى أنه يعيش اليوم في ملجأ مؤقت، حيث يحلم توائمه الثلاثة البالغ عمرهم عشرة أعوام (ولدان وبنت)، بالانتقام يوما من إسرائيل. ويقول محمود: “أخبرتهم أن هذا نصيبنا”.
وتشير الكاتبة إلى أن كلمة “نصيب” قالها كذلك كمال عياد (23 عاما)، الذي قتلت والدته وشقيقته الحامل بالقصف الإسرائيلي الصيف الماضي، عندما كانتا تحاولان الهرب من حي الشجاعية، ويقول عياد: “لم أكن أعرف أنهما ماتتا حتى وقفت إلى جانب جثتيهما في المشرحة، رأيت وجه أختي وحجاب أمي وخاتمها”.
وتذكر المجلة أن شقيقته الأخرى تلقت شظية، ولم تستطع إجراء عملية في غزة لاستخراجها من جسدها، حيث دمرت الحرب 50 سيارة إسعاف و 50 عيادة صحية و 17 مستشفى. ومن أجل الخروج للعملية يجب الحصول على إذن من إسرائيل، الذي لا يمنح إلا “للحالات الإنسانية العاجلة”. وعندما وضع عياد الشاي على الطاولة، ونظر إلى الأمام وحملق بسرعة عندما سـألته الكاتبة إن كان غاضبا، فأجاب: “نصيب، هذا قدرنا”.
ويوضح التقرير أن كلمة “نصيب” قالها أبو خالد (29 عاما)، وهو مهندس بناء يعمل بعقد مع وزارة الإسكان في البلدة الجنوبية خزاعة. وتقول سو: “جلسنا في خيمة مع جيرانه خلف حيهم المدمر، مجموعة من البنايات المدمرة تتجه أجزاؤها المدمرة نحو السماء وسط الحقول التي تنتشر فيها الزهور الصفراء”. ويقول أبو خالد: “كل ما تجيده الحكومة هو الكلام، يقولون لنا ثابروا، ولكن لا توجد خطة ولا دعم أو دخل”.
وتبين المجلة أن أبا عماد يوافق ما قاله أبو خالد، حيث يقول إن حركة حماس تبقي على المال لنفسها، ويقول: “تحتفظ حركة حماس بالمال لها، فهم سارقون وتجار مخدرات، وكانوا يعملون مع الحمير قبل أن يديروا حكومة، وقد أغلقوا كل شيء علينا”، ويضحك الرجال، ولكن أبا خالد يخاطب الكاتبة قائلا: “لا تأخذي قوله على محمل الجد، فهو يحصل على مال الفساد من رام الله”، وكان أبو عماد، وهو محام يعمل جنرالا في السلطة الوطنية، واحدا من موظفي حركة فتح السابقين الذين يتلقون رواتب دون عمل أي شيء. وعندما سألت الكاتبة: لماذا لم تعمل السلطة لدفع الفصائل للمصالحة أو محاسبة الحكومة على ماليتها؟ هز الرجال أكتافهم، وقالوا: “هذا نصيبنا”.
وتجد سو أن إعادة الإعمار تقتضي أمرين، كما يقول القائم بأعمال نائب وزير الأشغال العامة والإسكان في حكومة الوحدة الوطنية ناجي سرحان، وهما المال ومواد البناء، وليس لدى غزة أي منهما، فقد وعدت الدول المانحة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر بـ 3.5 مليار دولار لإعادة الإعمار، لكن لم تصل منها سوى نسبة 27%، وذلك بحسب تقرير صدر في نيسان/ أبريل، أعدته مجموعة من جماعات الدعم، ولا يزال التوزيع بطيئا بسبب الأزمات التي تشهدها المنطقة، ولأن الدول المانحة لم تتشجع بسبب الخلافات بين الأحزاب الفلسطينية.
ويفيد التقرير، بأن غياب عملية الإعمار يعمق من الانقسامات بين غزة والضفة الغربية بشكل مثير للتناقض. ولا تقدم الدول المانحة المال؛ لأن المصالحة الفلسطينية لا تزال متوقفة، وكلما تأخرت عملية إعادة الإعمار تعمق الانقسام السياسي وساء.
ما هو نصيب غزة؟
وتتساءل الكاتبة: “ما هو نصيب غزة؟”، فيرد الغزيون: “إسرائيل”. وفي الوقت الحالي قيدت إسرائيل من دخول مواد الاستيراد الأساسية الضرورية للبناء مثل الأسمنت والفولاذ؛ لأنها لا تريد أن تستخدم في بناء الأنفاق وتساعد في النشاطات الإرهابية. وقد اعتمد الغزيون على المواد القادمة من مصر، وهربوها عبر الأنفاق في الحدود الجنوبية لإعادة بناء ما خلفته الحربان السابقتان. لكن الحدود هذه المرة مغلقة بشكل تام، حيث تستند الحكومة المصرية على مكافحة الإرهاب لتبرير ما تقوم به. وبناء على عدد الشاحنات التي تدخل القطاع اليوم تقدر منظمة “أوكسفام” أن عملية إعادة إعمار غزة ستستغرق مئة عام.
وترى المجلة أنه نتيجة لهذا الوضع فلم يتم تعمير أي من البيوت المدمرة البالغ عددها 19 ألف بيت، وبسبب هذا لا يزال مئة ألف غزي من بين 1.5 مليون نسمة دون بيوت. ويقول سرحان: “يعاني الناس، وقد تعرضوا للضغط، ويعيشون في سجن بين أنقاض بيوتهم، وإن لم نساعدهم فسينفجرون، وسينفجرون ضد إسرائيل”.
بيت لاهيا
وتقول سو: “التقيت في بيت لاهيا، وهي بلدة تقع في شمال غزة، جماعة من العاطلين عن العمل، وسألتهم: ماذا يريد الغزيون؟ فقال محمد كيلاني (29 عاما)، وهو يضحك: (على الأقل 12 ساعة من الكهرباء)، وأضاف ساخرا: “أهل غزة سعداء، أعطونا ساعة واحدة من الكهرباء وسنكون ملوك العالم”. ويدرس كيلاني القانون في جامعة الأزهر، ولكنه لم يحصل على شهادته، بسبب عدم توفر المال لمواصلة الدراسة. أما صديقه علي، الذي يدرس الرياضيات في الجامعة الإسلامية، فقد تحدث ساخرا: (غزة مثل الجنة لا يعمل فيها الناس)”.
وتضيف الكاتبة: “عندما سألتهم ما هو نصيب غزة؟ سكتوا قليلا ثم أجابوا: “إسرائيل”. ومن الذين كانوا في المكان، أبو أحمد، الأكبر سنا، الذي عاش خلال حرب عام 1948 وعام 1967 والانتفاضتين والحروب الثلاث. وقال: (الله يلعن أبو السياسيين)، إسرائيليين أو فلسطينيين على حد سواء. وأضاف (إسرائيل قوة عظمى لا يمكننا الوقوف أمامها، فليست لدينا طائرات أو دبابات أو أسلحة مثل ما لديهم، كل ما لدينا هو البشر). ويرى أبو أحمد أن (النصيب) يعني أن كل شيء من الله، ولهذا علينا أن نعمل ما بوسعنا ونترك الأمر لله، (يجب ألا نستسلم، ولكننا لا نستطيع القتال دائما). وقاطع كيلاني قائلا إن (المشكلة أن الفلسطينيين هم مثابرون، نستطيع التكيف مع جهنم، ويتكيف الناس دائما إلا أن الأمور تزداد سوءا، وفي النهاية نحن موتى ولا توجد حياة)”.
لا فرق بين الحياة والموت
وترى سو أنه “في غزة الحياة والموت مكتوبان على الرمل، فكلما أطلت الإقامة اختفى الخط الفاصل بينهما. فيعد نيسان/ أبريل شهر الزواج، فسيارات المتزوجين الجدد تقف على الشاطئ مغطاة بالورود، وتعلن عنها أصوات قرع الطبول، وتتدفق العائلات إلى الحفلات التي تستمر حتى آخر الليل، فيها الرقص والزغاريد للنجوم والبحر، وكأن الحرب لم تحدث أبدا هنا، وكأن القطاع لا يعاني من اختناق المياه المالحة، وتخرج الأضواء والبيوت مدمرة، وكأن جيوب الضيوف غير فارغة من المال، وكأن العريس والعروس لن يصحوا في أول صباح لهما على حقيقة أنهما دون عمل وفي غرفة عارية من الأثاث، إلا من صور الأقارب الشهداء”.
وتختم الكاتبة تقريرها بالقول: “وقفت في إحدى الليالي على السطح مع عمات وشقيقات عروسة أراقب حفلة العريس التي جرت في الأسفل. وهتف أصدقاء العريس عندما حملوه على أكتافهم والعرق يتصبب منهم ويلتفون حول بعضهم البعض محتفلين. خلفهم كانت المدينة تغرق في الظلمة باستثناء ثلاث نقاط كانت تلوح في الأفق: البنايات المضاءة بالكامل على الجانب الآخر في إسرائيل، وأضواء معسكر التدريب التابع لحركة حماس، وضوء القمر المكتمل. وصرخت إحدى الفتيات قائلة: (تعالي، لن تري القمر بهذا الشكل في أي مكان، ولكن ليس أثناء الحرب هذا وقت سيئ، تعالي بعد الحرب وستجدينا ننتظرك)”.