بقلم: طلال عوكل
بينما يتواصل المشهد المأساوي، الذي يخيّم على الوضع الفلسطيني، خصوصاً في الضفة الغربية، إثر جريمة قتل الناشط نزار بنات، شهدت العاصمة البريطانية لندن يوم السبت تظاهرة كبيرة مناهضة للحكومة على خلفية بيع السلاح لإسرائيل، وحمل المتظاهرون لافتات تصف إسرائيل بدولة فصل عنصري، وأخرى تهتف بالحرية لفلسطين.
ثمة ما يدعو للقلق الشديد، ذلك أن ما يجري، يتجاوز جريمة قتل فلسطيني معارض، على يد أجهزة الأمن، فلقد شهدت الساحة الفلسطينية أحداثاً مماثلة لكنها لم تحظ بردود الفعل الواسعة التي تحظى بها الجريمة الأخيرة.
ردود الفعل الغاضبة، جاءت من كل فصائل العمل الوطني تقريباً، ومن معظم منظمات المجتمع المدني، وأيضاً من قبل نشطاء سياسيين وحقوقيين واجتماعيين، واستدعت مواقف انتقادية من قبل الولايات المتحدة ومن قبل الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة.
إسرائيل الرسمية صامتة، ولا بدّ أنها تتابع تطور الأوضاع وهاتفها الداخلي يتمنى لو أن الأمور تتدهور نحو صراع فلسطيني فلسطيني، يؤدي إلى إضعاف الجميع، ويترك لها المجال لمواصلة سياساتها الاستيطانية التوسعية وقمعها لكل من يرفع صوته ضدها.
تستغل إسرائيل الاضطراب الذي تعيشه الساحة الفلسطينية، فتقوم قواتها باستخدام القوة لإخلاء الشيخ جرّاح من المتضامنين، بينما يمر الحدث بعيداً عن اهتمام وسائل الإعلام بما في ذلك الفلسطينية، وذلك بعد أن أعلنت قرارها بإقامة واحد وثلاثين مشروعاً استيطانياً.
هذه الجريمة يمكن محاصرتها، عبر تحقيق شفاف، سريع، ينتهي إلى تحديد المسؤولين، ومحاسبتهم، لكنها أبداً لا ينبغي أن تكون فرصة للفتنة، والانتقام، والتحريض، وهدم المعبد على من فيه.
واضح أن الأمر يتجاوز إلى العمق الجريمة التي أثارت كل هذا الغضب، وتعمق أزمة الثقة بين السلطة والجماهير الفلسطينية، وأيضاً بين الفصائل الفلسطينية، بما يعطل ويعقد إمكانية العودة لحوار المصالحة.
هذه ليست فرصة للأجندات الفئوية، على حساب الأجندة الوطنية ولا لإطلاق التهديد والوعيد، لتصعيد المواجهة، بذريعة الدفاع عن السلطة والنظام السياسي.
لقد طال أمد التحقيق الرسمي المقنع في هذه الجريمة الواضحة، التي لا تستدعي التمهل والمماطلة، فلقد قامت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بتحقيق أولي سريع، استنتجت بعد تشريح الجثة، الحاجة لفتح تحقيق جنائي.
الهيئة المستقلة تتمتع بمصداقية مرضية لكل الأطراف بما في ذلك عائلة بنات، التي تهدد بالانتقام ما لم تقم السلطة بإجراء تحقيق شفاف ذي مصداقية يحدد المتهمين، ويفرض موجبات القانون.
واضح أن ثمة عواراً كبيراً في تنفيذ القانون في مثل هذه الحالات، فلقد سبق لأجهزة الأمن أن استدعت المغدور، واعتقلته مرات عديدة ولو كان يستحق العقاب لتم عرضه على القضاء لكي تأخذ العدالة مجراها بحقه.
لا أتوقع أبداً أن المجموعة التي دهمت منزل المغدور كانت تنوي قتله، ولا أتوقع أن تكون قد تحركت استناداً إلى قرار من جهات مسؤولة بقتله، لكن المجموعة أفرطت في استخدام القوة ولكن حتى لو كان الأمر على هذا القدر فثمة عوار قانوني.
أولاً: لماذا توكل المهمة لأجهزة الأمن وليس للشرطة الرسمية، ذلك أنها المسؤولة مباشرة عن التعامل مع المشتبه بارتكابهم جنايات أو حتى جرائم.
ثانياً: هل يحتاج الأمر، إلى هذا العدد الكبير من أفراد الأمن (27) حسب تصريح عائلة بنات، لإلقاء القبض على مواطن معارض أو غير معارض، مدني، ولا يملك سلاحاً، أو حتى لو كانت الفرضية، أنه يحمل سلاحاً، وسيستخدمه للدفاع عن نفسه أو مقاومة المجموعة؟
ثالثاً: لماذا لم يتم استدعاء المتهم إلى مركز الشرطة للتحقيق معه، وتقديمه للمحاكمة إن توفرت المبررات لذلك؟
رابعاً: من حيث المبدأ لا يجوز إطلاقاً استخدام العنف والتعذيب بحق المتهم، لا خلال إجراءات استدعائه ولا في غرف التحقيق، خصوصاً أن السلطة وقعت على اتفاقية مناهضة التعذيب.
يفتح هذا الأمر، ملف الرقابة على أداء أجهزة إنفاذ القانون بدءاً من الشرطة والأجهزة الأمنية إلى أروقة القضاء المدني والعسكري والتدقيق على طبيعة الأحكام والإجراءات المتبعة بحق نزلاء السجون.
خامساً: في ظل غياب المجلس التشريعي الذي يملك صلاحية الرقابة على الأجهزة التنفيذية، فإن السلطة التنفيذية، تتحرك، خطأً أو صواباً دون رقابة حتى من قبل المجتمع المدني، الذي تعمّدت كسر أدواته وإضعافه.
قد ينتهي الأمر بهذا الشكل أو ذاك، ولكن تداعياتها تشير إلى الحاجة لإصلاح شامل في أوضاع حركة فتح، وفي النظام السياسي، ليس فقط لضمان الحريات، وإنما لإعادة بناء الثقة وتصحيح الاختلالات العميقة التي تضرب الوضع الفلسطيني برمّته.
قد نتفق أو نختلف مع المعارض المغدور نزار بنات، الذي كان حاداً في انتقاداته للسلطة، ورموزها، ولكن ذلك لا يبرر إطلاقاً استخدام القوة المفرطة حتى الموت بحقه، خصوصاً أن السلطة لم تعر أي اهتمام لمتابعة التحقيق في ملفات الفساد التي دأب على الحديث عنها.
والمؤسف أن الأجهزة الأمنية مارست العنف ضد الصحافيين والمحتجين ما استدعى ردود فعل من قبل الأمم المتحدة، وأدى إلى تصاعد حالة التوتر، والاحتجاج.
المشهد العام بتداعياته لا يسر صديقاً، ولا يكيد عدواً، بل إن العدو يستقبله بكل سرور وابتهاج. لاحظوا ما قاله المدير العام لهيئة الإذاعة الإسرائيلية يوني بن مناحم، الذي يتهم مسؤولين كباراً في السلطة باتخاذ قرار لتصفية نزار بنات. غير أن الأهم فيما قاله بن مناحم، هو اتهامه للسلطة بأنها سلطة مافيا، ويستنكر أن حكومة بايدن تريد من إسرائيل السماح لها بإدارة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على خطوط 1967، على حد تعبيره.
تؤشر تصريحات بن مناحم على أن إسرائيل، ستقوم بحملة تحريض دولية واسعة لتشويه السلطة، والادعاء بأن الفلسطينيين غير جديرين بتقرير مصيرهم بأنفسهم، والحقيقة أن ثمة تداعيات أخرى خطيرة لما يجري لا نرغب في الحديث عنها بدواعي الالتزام الوطني.