من المفارقات الساخرة أن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط بهدف التركيز على مكافحة الصين، سمح لبكين بتوسيع نفوذها في هذه المنطقة الاستراتيجية من خلال أفضليتها الاقتصادية.
ويتسم انخراط الصين المتزايد في الشرق الأوسط بـ”الاستراتيجية” و”الخُفية”، في ظل استمرار تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها في المنطقة، ما جعل الخليج فرصة نفوذ جيوسياسي محتملة، وهو ما رحبت به الصين بأذرع مفتوحة.
المحتويات
تقدم النفوذ الصيني
بالرغم أن الولايات المتحدة ستظل لاعبًا رئيسيًا في الشرق الأوسط بسبب أهميتها الاستراتيجية، إلا إن العلاقات الاقتصادية أصبحت تتجه نحو الشرق أكثر فأكثر.
ويشير تحول الأولويات الأمريكية، إلى جانب التوترات الجيوسياسية الحالية بين الولايات المتحدة والصين، إلى تغير ديناميكية النفوذ في الشرق الأوسط. وبالرغم أن الصين ستواجه تحديات لتوسيع نفوذها، إلا أن الفرص تتزايد أمامها.
وتعد الصين أكبر مشتر للنفط من الشرق الأوسط، وهو عامل لا يمكن التقليل منه عندما يتعلق الأمر بالنفوذ، فقد ارتفعت صادرات النفط السعودية إلى الصين بنسبة 1.9% عن العام السابق إلى حوالي 84.92 مليون طن، بينما قفزت المشتريات الصينية للنفط الإيراني إلى أعلى مستوياتها في عام 2021.
الحلف الصيني الإيراني
تتمتع بكين بعلاقات جيدة مع جميع الدول الكبرى في الشرق الأوسط، ومع ذلك فإن تعميق حلفها مع إيران هو مصدر قلق خاص للولايات المتحدة خاصة مع الإعلان عن اتفاقية اقتصادية وتنموية بين الصين وإيران مدتها 25 عاما. كما كانت الاتفاقية بمثابة تحذير إيراني لواشنطن يشير إلى أن طهران لن ترضخ للولايات المتحدة بعد الآن.
وهناك جوانب غموض أمنية في طيات الاتفاقية التي أطلق عليها اسم “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”، ما يثير شكوك الولايات المتحدة ولكن المقلق بالنسبة لواشنطن هو التحدي الجيوسياسي الذي تطرحه هذه الديناميكية الجديدة.
وسوف تنظر الولايات المتحدة في خياراتها؛ فهل تعزز الضغط أم تقلله؟ وهل ستعزز العقوبات أم تخفف من تدابير “أقصى ضغط”؟ وإذا فشلت الولايات المتحدة في الحد من هذه العلاقة المتزايدة بين بكين وطهران، فإنها تمنح الصين فرصة لتزدهر استراتيجيا واقتصاديا داخل المنطقة؛ وهو نقيض ما كانت تهدف إليه بالطبع.
ومع تصاعد التوتر الجيوسياسي، يمكن اعتبار التصرفات التي ستقوم بها واشنطن مؤشرا على مدى الانسحاب الذي تريده من الشرق الأوسط، فالانسحاب المادي شيء، ولكن التخلي عن الأهداف الجيوسياسية شيء آخر تماما.
ومع ذلك، فإن دور الصين داخل الشرق الأوسط لن يسير بسلاسة. وصحيح أن الشرق الأوسط منطقة مؤهلة لتحقيق فائدة كبيرة من زيادة الاستثمار الصيني، إلا أن ذلك يأتي مصحوبًا بتعقيدات إقليمية وجيوسياسية. وحتى لو لم تكن الصين ترغب في تعزيز وجودها السياسي والأمني، فقد لا يكون لديها خيار آخر.
وعلى سبيل المثال، ففي 28 يوليو/تموز التقى مستشار الدولة الصيني ووزير خارجيتها “وانج يي” بمسؤولي “طالبان” واعترف علنا بـ”طالبان” كقوة سياسية مشروعة في أفغانستان، كما أن الصين هي أيضا واحدة من الدول القليلة التي أعلنت أنها لن تغلق سفاراتها في كابل، بعد سيطرة “طالبان” على أفغانستان في الأسابيع الأخيرة.
وفي حين أن الصين ترغب في لعب دور اقتصادي أكبر في الشرق الأوسط لكن ذلك مرتبط بمؤشرات الاستقرار المستدام.
لذلك، ففي حين أن هذه الشراكة الجديدة بين الصين والشرق الأوسط قد تكون اقتصادية في غالبها، فإن هذا ليس تقييما شاملا للوضع الحالي.
ومثلما حدث من قبل للولايات المتحدة، فإن هناك احتمالًا حقيقيًا بأن تتورط الصين أكثر فأكثر في مستنقع المشاكل الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، وسيكون تجاوز هذه المعضلة بنجاح هو مفتاح تحقيق الصين لأهدافها.
جانب جيوسياسي حتمي
ظاهريا، لا تتضمن نوايا الصين استبدال دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل إن أهدافها تنموية وليست ذات طبيعة سياسية أو أمنية، وفق ما تعلنه في خطاباتها على الأقل. وسيبقى أن نرى كيف يمكن أن يتطور ذلك.
وتركز أهداف الصين على مبادرة الحزام والطريق، التي بدأت في عام 2013 بهدف وضع الصين في مركز شبكات التجارة العالمية.
وتعتمد الفكرة بالأساس على إنشاء “حزام” من الممرات البرية و”الطريق” هو طريق بحري لدروب الشحن، ويشمل المشروع الضخم 71 دولة تمثل نصف سكان العالم وربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويهدف الحزام الاقتصادي إلى إنشاء مبادرات بنية تحتية صلبة وناعمة، تذكرنا بطريق الحرير في الماضي.
ومن خلال هذه الخطة، ستتمكن الصين من لعب دور اقتصادي كبير في الشرق الأوسط، ومع ذلك فإن تردد بكين الكبير بشأن الانخراط في الشؤون السياسية أو الأمنية سيجعل المهمة شاقة.
وفي حين تؤكد بكين أن مبادرة الحزام والطريق لا تهدف لتغييرات جيوسياسية بأي شكل، فإن التوسع الاقتصادي بهذا الشكل سيكون له تأثير جيوسياسي حتمًا.
خيارات الولايات المتحدة
وفي حين أن الصين لديها مصلحة استراتيجية متزايدة في الشرق الأوسط، فإنها غير راغبة في ممارسة نفس الدور الذي لعبته واشنطن في المنطقة.
وبدلا من تكرار هذا الدور، ستستفيد الصين من الفرص الاقتصادية التي أصبحت متاحة الآن بشكل أسهل من أي وقت مضى، بعد تراجع واشنطن.
ويمكن قول نفس الشيء عن استثمارات الصين في أفريقيا (وهي قارة أهملت أيضا من قبل الولايات المتحدة من حيث الاستثمار) ويبدو أن بكين تنجذب نحو المناطق التي تغيب فيها الولايات المتحدة أو تقلص جهودها، من أجل تشكيل البنيات الاقتصادية العالمية.
وأصبحت الصين لا تُعنى بالرأي العالمي بدرجة كبيرة، كما أن طريقتها في بناء الاحترام المستند إلى اعتمادية الدول عليها يجعل حلفاء الولايات المتحدة يميلون إليها، ولا يعتبر الشرق الأوسط استثناء.
وغالبًا ما تشيطن واشنطن الصين بدلا من تقديم خيارات أفضل، ويعد الشرق الأوسط وأفريقيا مثالين على فشل الدول الغربية في الانخراط بكفاءة.
ويتبين من ذلك أن تزايد انخراط الصين في الشرق الأوسط ليس المشكلة الرئيسية خاصة مع المصاعب التي ستواجهها، وإنما تتمثل المشكلة في غياب الغرب، أو الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
ولمواجهة نفوذ الصين المتزايد، يجب على الولايات المتحدة تقديم بدائل اقتصادية منافسة للعروض الصينية في المنطقة.
ويتبقى أن نرى ما هي الإجراءات التي تخطط واشنطن لاتخاذها في مرحلة ما بعد الانسحاب ومدى فعالية تلك الإجراءات في تقويض الصعود الصيني.