كتب:عبد الباري عطوان: يلتزم المسؤولون والمتحدثون باسم حركة “حماس″، سواء كانوا داخل الاراضي المحتلة، او خارجها، الصمت المطبق، ويرفضون التعليق على التقارير الاخبارية التي تتحدث عن قرب التوصل الى “اتفاق هدنة” لمدة عشر سنوات مع دولة الاحتلال مقابل رفع الحصار عن قطاع غزة وفتح ممر مائي يربط القطاع بالعالم الخارجي عبر قبرص التركية، وربما مطار ايضا.
توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الاسبق، واحد ابرز المهندسين والمنفذيين للعدوان الثلاثيني على العراق هو الذي توسط، ويتوسط، من اجل تمرير هذا الاتفاق، وذهب الى مدينة غزة عبر معبر ايريز، والتقى مسؤولين في حركة “حماس″ لطرح بنوده عليهم، ثم طار الى الدوحة للقاء السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة، وقيادات اخرى، للغرض نفسه.
تركيا وقطر تدعمان هذه الوساطة، وهما من اكثر الدول دعما لحركة “حماس″ في الوقت نفسه، فبينما تتعهد قطر بالتغطية المالية، والمساهمة بقسط كبير من تكاليف اعادة اعمار غزة، يقتصر الدور التركي على وضع اللمسات القانونية واللوجستية للممر المائي، والاشراف على الترتيبات الامنية، من خلال القاء هذه المهمة على عاتق “حلف الناتو” التي هي عضو فيه، لان المحطة الخارجية المقابلة للممر المائي ستكون في قبرص التركية.
كل اتفاق يجري التوصل اليه مع اسرائيل يتضمن عدة شروط ابرزها التنسيق الامني، وتوقف كل الاعمال العسكرية، بما في ذلك وقف صناعة الصواريخ وتطويرها، والامتناع كليا عن حفر الانفاق، واشراف ضباط امن اسرائيليين، بشكل مباشر او غير مباشر، على مراقبة وتفحص هويات وامتعة كل المسافرين الى قطاع غزة عبر هذا الممر المائي، تماما مثلما كان يحدث في معبر رفح زمن السلطة.
هذه الشروط كانت العمود الفقري لاتفاق اوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وستكون حتما كذلك في اتفاق الهدنة المقترح، لان الامن يشكل الاولوية المطلقة للمسؤولين الاسرائيليين، معتدلين كانوا او متطرفين، واسألوا مفاوضي اوسلو.
لا نجادل مطلقا بأن حركة “حماس″ والمسؤولين فيها يدركون حتما هذه الحقائق، ولا يريدون منا او غيرنا ان يلفت انظارهم اليها، ولا بد انهم ناقشوها بشكل مكثف مع الوسطاء القطريين والاتراك والالمان، وبلير نفسه عراب الاتفاق بطبيعة الحال، وهناك تسريبات لا نعرف مدى صحتها تقول ان كفة الموافقة هي الارجح، وان وفدا من قطاع غزة يحزم حقائبه استعدادا للطيران الى الدوحة، ومنها الى اسطنبول لعقد اجتماعات موسعة مع القيادة الخارجية للحركة لاتخاذ قرار نهائي.
حركة “حماس″ التي تتحمل مسؤولية حكم قطاع غزة تتعرض لحصار خانق من السلطتين المصرية والاسرائيلية، وضغوط عربية ودولية للقبول باتفاق الهدنة كشرط اساسي لرفع هذا الحصار، والبدء في عملية الاعمار، ولكن هل يستحق رفع الحصار هذا الثمن الباهظ جدا، سياسيا واخلاقيا ودينيا، الذي يمكن ان تدفعه الحركة والشعب الفلسطيني؟ وهل سيبرر هذا الرفع النتائج الكارثية التي يمكن ان تترتب عليه؟
المؤيدون لهذا الاتفاق، ويدفعون باتجاه توقيعه يقولون ان الثمن مناسب، والمرونة مطلوبة، لانهاء الحصار، وتخفيف معاناة مليوني فلسطيني، يعيشون ظروفا انسانية صعبة للغاية في ظل تواطؤ دولي وعربي متعمد لاغلاق كل المخارج والابواب، وهي المبررات نفسها التي كان يرددها رجال اوسلو مثل محمود عباس، ونبيل شعث، وياسر عبد ربه، لتسويق الاتفاق الى المجلس المركزي الفلسطيني قبيل التوقيع في ايلول (سبتمبر) عام 1993.
الاختلاف هنا ليس حول صعوبة الظروف والمعاناة، فهذه حقائق لا يمكن نكرانها ويعرفها اصغر طفل فلسطيني، ولكن الخلاف حول عملية توظيف هذه المعاناة لتمرير اتفاق الهدنة، والنتائج الخطيرة التي يمكن ان تترتب عليه بالنسبة الى الشعب الفلسطيني اولا، وقضيته ثانيا، وحركة مجاهدة مثل حركة “حماس″ قدمت البديل الجهادي المقاوم، لهذا الشعب بعد انحراف منظمة التحرير وسقوطها في براثن الوسطاء الثعالب مثل توني بلير، وما اكثرهم ثالثا.
نظرية بلير الحليف الاوثق للصهيونية، والمدافع الشرس عنها، والعدو اللدود للعرب والمسلمين، التي طبقها بنجاح كبير في ايرلندا الشمالية اولا، والضفة الغربية ثانيا، تقوم بالدرجة الاولى على قتل نزعة المقاومة المسلحة من خلال “هدن” قصيرة او طويلة، واغراق استثماري ومالي ضخم لالهاء الشعوب عن قضاياها المصيرية، والتخلي كليا عن المقاومة باعتبارها ارهابا، والتفرغ للصراع من اجل جمع المال، والغرق في رغد العيش، او الحد الادنى منه، وتكوين طبقة متوسطة مترفة ترتبط مصالحها مع الاعداء بشكل مباشر او غير مباشر، تدافع عن التهدئة خدمة لمصالحها الذاتية المطلقة.
اختيار بلير كمبعوث دولي للسلام، لم يكن صدفة، وانما في اطار مخطط مدروس، فقد اقنع بلير صديقه سلام فياض “عراب السلام الاقتصادي” بالانخراط في مخططه تحت عنوان بناء البنى التحتية للدولة الفلسطينية، ووعده بأنه بعد عامين ستقوم هذه الدولة، وصدق الرجل هذه الاكذوبة، مثلما صدقت قيادة منظمة التحرير اكذوبة اوسلو الاكبر، وتحولت رام الله الى سويسرا اخرى، وبات الامن الفلسطيني الحارس الشرعي للمستوطنات الاسرائيلية المتنامية، ولمستوطنيها، وباتت كل النداءات لانتفاضة، اي انتفاضة، لا تجد آذانا صاغية، فقد ترهل الجسم الفلسطيني، ومن لم يترهل جسده وفكره عصا الامن في انتظاره.
السيناريو نفسه سيتكرر في قطاع غزة، وسيتحول قادة حركة حماس وكوادرها، والعسكريون منهم خاصة الى عبيد الراتب، والى حراس للحدود الاسرائيلية، وسيضطرون الى لعب الدور نفسه الذي يلعبه امن السلطة في الضفة في منع اي عمليات عسكرية، او مظاهرات سلمية ضد الاحتلال، وربما يدخلون في مواجهات دموية مع فصائل اسلامية او غير اسلامية، في حال محاولتها اللجوء الى اسلوب “حماس″ نفسه في المقاومة واطلاق الصواريخ، في عهد سلطة عباس واجهزته الامنية الفاسدة سيئة السمعة او بعده.
مناضلو حركة “فتح” تحولوا الى مدراء عامين برواتب كبيرة، وفيلات ضخمة فارهة، وبعضهم، والصقور منهم خاصة، تحولوا الى وزراء ووكلاء وزراء وفرق حماية وسيارات دفع رباعي تحرسهم وبطاقات VIP، ومحظور عليهم تسمية اسرائيل بالعدو، او التلفظ بالمقاومة والكفاح المسلح لان هذا تحريض على الارهاب، ممنوع حسب نصوص اتفاقات اوسلو، وتحول الاعلام الفلسطيني، الثوري سابقا، الى حفلات الطرب والرقص والترفيه والمسلسلات التركية، فهل سيكون هذا هو مصير محطة “الاقصى” و”القدس″ الحمساويتين لاحقا؟
امتيازات الاتفاق مغرية، ولكن اخطاره كارثية، وهناك من العرب، وفي ظل حالة الاستقطاب الحالية التي تعيشها المنطقة، وتترجم الى حروب دموية، من يريد خطف القضية الفلسطينية الى “الحلف السني” الذي يتبلور حاليا بزعامة، او دعم اسرائيل ضد ايران، واستخدامها كغطاء في الحروب الطائفية.
لا نتمنى ان يأتي اليوم الذي نرى فيه مجاهدي “حماس″ حراسا للحدود، وينسقون امنيا مع العدو، حتى ولو بطريقة غير مباشرة، ويتقمصون دور قوات السلطة في رام الله وممارستة في القطاع ومطاردة المقاومين وقتلهم او تعذيبهم في السجون، بما في ذلك عناصر في حركة “فتح” نفسها قررت التمرد على قيادتها وقيادة “حماس″ نفسها، والتاريخ يمكن ان يعيد نفسه.
يحق لنا نحن الذين وقفنا ضد السلطة وتنسيقها الامني ومفاوضاتها الكارثية، ان نحذر حركة “حماس″ من المصيدة التي يراد لها الوقوع فيها، ولكننا في الوقت نفسه لا نسمح للسلطة التي فاوضت، وتنازلت، ونسقت امنيا، ومنعت المقاومة، ان تتهم حركة “حماس″ بالتفريط، او تتهمها بالخيانة، لاننا نؤمن انها سلطة انتهازية، وليس من حقها ان تعطي محاضرات في الوطنية وهي التي خذلت الشعب الفلسطيني طوال العشرين عاما الماضية، وقدمت تنازلات للاحتلال لم يحلم بها.
نختار كلماتنا بعناية، لاننا نحترم حركة “حماس″ ونقدر تضحياتها الكبيرة والمشرفة، ونعتز بصمودها ورجالها في مواجهة عدوان اسرائيلي تكرر ثلاث مرات في اعوام معدودة، ولاننا ايضا ندرك جيدا ان “اتفاق الهدنة” لم يوقع، وما زال على مائدة التشاور، ولن ننطلق في احكامنا من همسات هنا واخرى هناك، وتسريبات من هذا الطرف او ذاك، لبذر بذور الفتنة والانقسام.
لا نريد انقساما في صفوف حركة “حماس″، ولا حربا بين اجنحتها، او بينها وفصائل اسلامية وغير اسلامية تحالفت معها، ووقفت في خندقها، ولهذا فإن رهاننا يظل على صقور الحركة وعلى كتائب عز الدين القسام وقائدها محمد ضيف الذي نطالبه ان يقول كلمتة بقوة، وهو مشروع الشهيد، وان ينحاز لضميره وعقيدته، فله الكلمة الفصل في نهاية المطاف.
نختم بالقول المأثور: ان السعيد من اتعظ بغيره.