المقاولات في غزة.. تدليس أم شطارة؟

مواد البناء

محمد أبو ضلفة – غزة

تهتز سمعة مهنة المقاولات في قطاع غزة مرةً بعد أخرى منذ سنوات، حتى اقترنت في أذهان معظم السكان بالربح غير المشروع والغش والسرقة والإخلال بالمواصفات والجودة، وأحيانًا بـ”الشطارة” وحسن التصرف والتدبير.

ومع عمليات الإعمار للدمار الذي خلفته ثلاث حروبٍ متعاقبةٍ تعرض لها قطاع غزة المحاصر منذ 10 سنوات، أصبح توصيف الإسمنت في ذهن السكان “معدنًا نفيسًا” يجب الحرص في استخدامه لندرته وصعوبة الحصول عليه، باعتباره عصبًا مهمًا للعديد من شرائح المجتمع.

البنية التحتية.. مسرح غشٍ واسع

يوضح المهندس المدني سالم (اسم مستعار)، أن مجالات الطرق والبنية التحتية من أكثر المجالات التي يتم فيها الغش والتلاعب في المواصفات، ذلك لأنها تكون تحت الأرض أو على أول مرحلةٍ على السطح، وتأتي بعدها باقي طبقات المنشأة.

{تُعد البنى التحتية والطرق من أكثر المجالات التي تشهد غشًا وتلاعبًا في المواصفات، ولا تسلم من ذلك المشاريع الممولة من جهاتٍ أجنبية}

ويؤكد المهندس سالم ، أن المقاول يتلاعب في مشاريع الطرق بالطبقات الثلاث اللازمة لعملية الرصف، حيث يتم استخدام معدلات سماكةٍ مختلفةٍ فيها لتقليل استخدام المكونات غالية الثمن، كمادة القار التي تأتي في الطبقة الأخيرة من الرصف.

وذكر أنه في أحد مشاريع الطرق التي مولتها مؤسسةٌ دوليةٌ ونفذتها شركةٌ محليةٌ، تم التلاعب من قبل المقاول في الطبقة الثالثة الظاهرة من الطريق، وهي تتكون من طبقتين الأولى خشنة تحتوي على نسبةٍ كبيرةٍ من الحجارة، وفوقها تأتي طبقةٌ ناعمةٌ نهائيةٌ، إلا أن المخالفة اكتُشفت من قبل طاقم الإشراف الهندسي التابع للجهة الممولة، فتعرض الطاقم المشرف للاعتداء الجسدي إثر ذلك.

ورغم أن القانون يمنع استكمال المقاول لمشروعه، كونه ارتكب مخالفتين إحداهما الغش، والأخرى الاعتداء الجسدي، إلا أنه استطاع استغلال علاقاته الواسعة والرفيعة واستكمل الرصف، كأنه لم يفعل شيئًا.

وفي مشروعٍ آخر لتعبيد الطرق أيضًا، اختلطت كميةٌ كبيرةٌ من مادة “البسكورس” التي تُستخدم في الطبقة الوسطى، بمادة “الكركار” التي تُستخدم في الطبقة الأولى، فأصبحت الكمية غير صالحةٍ للاستخدام في الرصف، فما كان من المقاول إلا أن انتظر يوم إجازةٍ رسميةٍ واستخدم الكمية المغشوشة، ثم استكمل سُمك الطبقة المطلوب بكمية “بسكورس” سليمةٍ تخفي المخالفة، حسب ما أكده لنا المهندس سالم.

فحص المواد

ويكشف المهندسٌ يزيد (اسم مستعار) ويعمل في مختبرٍ لفحص المواد عن ما يقول إنها “أوضاعٌ كارثيةٌ” في مختبرات الفحص في قطاع غزة، مبينًا، أن المقاولين يتعاملون مباشرةً مع مختبرات الفحص.

وشرح المهندس يزيد بعض الآليات في عينات الفحص وكيفية التلاعب بها، مبينًا، أنه يتوجب أخذ عينةٍ من كل عملية توريدٍ بشكل نسبيٍ معقول. فمثلًا تُؤخذ عينةٌ واحدةٌ من كل سيارة إسمنت على طول مدة المشروع، لكن ما يحدث في كثيرٍ من المشاريع، أن كافة العينات الحالية والمستقبلية تُؤخذ من سيارةٍ واحدةٍ فقط، ويجبرُ المقاولُ المختبرَ على كتابة التقارير بتواريخ مستقبلية، للادعاء بأنه قدم العينات المطلوبة.

ويقول “يزيد” أنه “ليس باليد حيلة”، لأنه إن رفض ذلك فسيذهب المقاول لمختبرٍ آخر ليحصل منه على نتيجة فحصٍ ناجحة، مضيفًا، أن أحد المقاولين أرسل له دستة كاملةً “مشتاح” من بلاط “الإنترلوك” الذي يُستخدم في الرصف لأخذ كل العينات منه بغض النظر عن عمليات التوريد المستقبلية، التي قد تكون مغشوشةً أو غير مطابقةٍ للمواصفات المطلوبة.

وبيّن، أن الدهانات في عملية الرصف تُعتبر شيئًا ثانويًا لدى معظم الأطراف، لذلك يتم التغاضي عن مواصفاتها، فتختفي وتُمحى بعد فترةٍ قليلةٍ بسبب استخدام دهاناتٍ مغشوشةٍ أو غير مطابقةٍ للمواصفات.

وأشار إلى أن أي “عملية غشٍ تحدث يكون مهندس الإشراف جزءًا منها، فهو إما متواطئٌ نتيجة رشوة، أو مستضعف، أو مستغفل”، معللاً ذلك بتعدد مهام المهندس المشرف من رقابةٍ واستلامٍ وعملٍ ورقيٍ مكتبيٍ وتعاملٍ مفترض مع مختبر الفحص.

الخرسانة.. فرصة أخرى للغش

عينات الخرسانة تمثل أيضًا فرصةً للغش والكسب غير المشروع. إذ يتحدث المهندس أحمد (اسم مستعار) عن فسادٍ متراكمٍ يبدأ من تجاوز مهام مهندس الإشراف الذي يتوجب عليه أن يشرف على أخذ عينة الفحص، ثم التحفظ عليها بعد تنفيذها من فنيٍ مختصٍ، ليتولى مهندس الإشراف بعد ذلك تسليمها إلى المختبر.

لكن ما يحدث، حسب ما أفاد به “أحمد”، أن العينات تُؤخذ من قبل عاملٍ وبدون علم الإشراف، ما يتيح التلاعب بها، ثم يسلمها المقاول لمختبر الفحص مباشرةً، موضحًا، أنه في حالاتٍ كثيرةٍ تكون التقارير جاهزةً قبل الفحص أصلاً.

{يتواطؤ مهندسو الإشراف ومختبرات الفحص في غزة مع المقاولين، وأحد المهندسين عندما اكتشف غشًا تم الاعتداء عليه}

وأضاف “أحمد”، أنه تم تسجيل بعض الحالات التي تمت فيها إضافة “إسمنت جاف” على العينة التي ستخضع للفحص، ما يعطيها نسبة نجاحٍ وقوةٍ عاليةٍ جدًا، موضحًا، أن هذه الحالات يفترض أن يتم اكتشافها من قبل الإشراف، لكون العينة تفوق المطلوب بنسبةٍ كبيرةٍ جدًا، ما يشير إلى أنها مغشوشة، وهو ما يجب أن تلحظه أيضًا وزارة الأشغال في تقارير العينات التي تأخذها من كافة المختبرات في قطاع غزة، بشكلٍ نصف سنوي.

وأشار إلى مخالفةٍ وقعت في مشروعٍ وصفه بأنه “ضخم”، إذ تم رصد كميةٍ كبيرةٍ من العينات غير المفحوصة، وقد بررت جهاتٌ رسميةٌ ذلك بأن عاملاً ألقى بها بشكلٍ فرديٍ جهلاً بما يجب أن يحدث، فيما تحدثت مصادر غير رسمية أن العينات وصلت لمختبر فحصٍ كبيرٍ في غزة، ثم تم التخلص منها دون إصدار نتائج.

وشدد “أحمد” على أن هذه المشاكل معروفةٌ لدى الجميع ولكل الأطراف، لكنها لا تجد تحركًا فعليًا، “لأن الجميع لا يريد أن يكون في بوز المدفع، ولأن الناس بدها تعيش”، حسب تعبيره.

نقابة المقاولين

وكانت خلافاتٌ حادةٌ وقعت مؤخرًا بين رئيس اتحاد المقاولين في الضفة الغربية مروان جمعة، ونائبه في غزة أسامة كحيل، تخللها اتهاماتٌ بارتكاب مخالفاتٍ إداريةٍ وماليةٍ، وتخريب العلاقة مع المؤسسات المحلية والدولية والوزارات المختلفة في فلسطين.

واتخذ جمعة قرارًا بموافقة أعضاء مجلس إدارة الاتحاد، بتجميد صلاحيات كحيل من منصب نائب رئيس الاتحاد ونقيب المقاولين في غزة، وتشكيل لجنة تحقيقٍ معه في كافة القضايا المتهم بها، إلا أن المحكمة الإدارية في غزة أبطلت القرار.

وخلال شهر فبراير/شباط 2016، انهار سقف مبنىً قيد الإنشاء يتبع لجامعة الأقصى في خانيونس، ما أودى بحياة عاملٍ وإصابة عشرات العمال. وأكدت لجنة التحقيق أن الحادثة وقعت بسبب خللٍ هندسيٍ من المقاول، تمثل في نقص الدعامات الحديدية التي توضع أسفل السقف ليرتكز عليها؛ من أجل تقويته لعدة أيام حتى جفاف الخرسانة.

{وزارة الأشغال تقول إن الغش في مهنة المقاولات ضئيلٌ وما يُضبط يتم التعامل معه}

وخلال لقاءٍ صحافيٍ أعقب الحادث، تجنب وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان ناجي سرحان، ورئيس اتحاد المقاولين في قطاع غزة أسامة كحيل، تحميل المسؤولية عن الحادث لشخصٍ أو جهةٍ محددةٍ، واكتفيا بتعميم الخطأ على الجميع، وتحميل المسؤولية للاحتلال الإسرائيلي، بدعوى أن الحصار الذي يفرضه أدى لنقصٍ كبيرٍ في الإمكانيات.

وعلل وكيل الوزارة سرحان ما وصفها بـ”حالة الفوضى” في هذا القطاع بأسلوب المناقصات، الذي يدفع المقاولين لعرض أقل الأسعار من أجل الفوز بالعطاء وعدم التوقف عن العمل، مدعيًا، أن المقاول يتحمل الخسارة ولا يلجأ للغش، وأن نسبة الغش في المقاولات ضئيلةٌ جدًا، وما يتم ضبطه يجري التعامل معه.

وقال وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان ناجي سرحان لـ الترا فلسطين، إنّ مسألة الغش نادرة وغير منتشرة في قطاع المقاولات بغزة، وذلك لأنّ “بيئة فلسطين تتمتع بمفهوم ثقافة الأمانة وليس الغش والتدليس”.

وأكد سرحان أن حالات الغش على قلتها تكون موجودة في الغالب بالمشاريع الخاصة التي لا يوجد عليها إشراف أو رقابة، موضحًا أنها معدومة أو قليلة جدًا في المشاريع الحكومية وشبه الحكومية الممولة من جهات خارجية وأجنبية، بسبب وجود طواقم إشراف على كفاءة عالية تقلل من احتماليات الغش إلى أقل النسب.

وأضاف أنه في المشاريع الخاصة لا يرجع الخلل للغش بشكل رئيس، إنما يرجع للإهمال والتقصير كونها لا يشرف عليها مكتب إشراف استشاري، إنما يشرف عليها المالك الذي لا يكون مؤهلًا لذلك في الغالب.

وعن موضوع العيّنات واختبارات الجودة وآلية أخذها، قال سرحان: الأصل أن يُدير هذه الاختبارات طاقم الإشراف، إلّا أن المقاول يتدخل أحيانًا ويمارس ضغطًا على مختبر الفحص، وذلك “ينتشر غالبًا في المشاريع غير الخاضعة للرقابة”.

أمّا في ملف المناقصات، قال سرحان إن الأسلوب الصحيح هو تحديد سعر تقديري للمناقصة من قِبل من يطرح العطاء، ويتم على أساسه تحديد معدل بزيادة أو نقصان عن ذلك السعر، ويتم استثناء كل من يخرج عن هذا المعدل من نقاش الترسية. وأوضح أنّ هذا الأسلوب متّبع بشكل عالمي، لأنه يضيّق حالات الغش إلى أقصى الحدود، ويضمن عدم تكبّد أي طرف لخسارة محتملة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن