تحليل.. التهدئة طويلة الأمد بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي

حماس واسرائيل

اعداد صلاح عبد العاطي: تركز هذه الورقة على تحليل العوامل المختلفة المؤثرة في فرص التوصل إلى اتفاق تهدئة بين إسرائيل وحركة حماس عبر مفاوضات غير مباشرة تنخرط فيها جهات عدة.  وتتناول مواقف الأطراف الرئيسة ذات العلاقة والسيناريوهات المحتملة لمسار مفاوضات التهدئة وتداعياته على الأوضاع المتردية في قطاع غزة من جهة، وفرص تحقيق المصالحة الوطنية من جهة ثانية، ومستقبل العلاقة بين الضفة الغربية وقطاع غزة من جهة ثالثة.

وكانت حركة حماس أكدت على لسان بعض قادتها، وصول عروض عدة عن طريق توني بلير، الممثل السابق للجنة الرباعية، ومن قبله المبعوث الأممي روبرت سيري (الذي قدم ورقة مكتوبة قبل إنهاء مهمته)، وعروض من شخصيات ووفود أوروبية وأميركية وعربية، زارت قطاع غزة أو التقت قيادات الحركة في الخارج.  إضافة إلى محادثات يجريها مسؤولون قطريون وأتراك بشأن وقف محتمل لإطلاق النار تتراوح مدّته بين خمسة إلى عشرة أعوام، وهذا ما أكدته جملة مصادر أوروبية وإسرائيلية وفلسطينية.

ولعل عرّاب الدفع باتجاه التوصل إلى الاتفاق حتى الآن، وفق المعطيات المتوفرة، هو بلير الذي تحرك على ما يبدو بتشجيع من بعض الأطراف الأوروبية ومباركة أميركية، إذ التقى قادة من حركة حماس مرات عدة، إضافة إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، ومستشار الملك الأردني للشؤون الأمنية الفريق أول فيصل الشوبكي، وولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وعدد من المسؤولين الإسرائيليين، في مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.  وتترافق مع تحركات بلير جهود قطرية قام بها رئيس اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة، محمد العمادي، الذي زار دولة الاحتلال الإسرائيلي والتقى منسق عمليات حكومة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية يوآف مردخاي.

روايات متناقضة

بدورها، أبلغت “حماس” الفصائل الفلسطينية أن اللقاءات مع بلير وغيره من الوسطاء لم تثمر حتى الآن عن اتفاق نهائي مكتوب، بل ناقشت مجموعة من الأفكار التي لا ترقى إلى مستوى “مبادرة متكاملة”، وأن الأفكار ناقشت تثبيت وقف إطلاق النار بين إسرائيل وفصائل المقاومة ومنع انفجار الأوضاع في القطاع من جديد، مع ضمان رفع الحصار عن قطاع غزة وتسهيلات إنسانية والسماح بإقامة “ممر مائي” يربط القطاع بالعالم الخارجي، وإعادة ترميم مطار غزة الدولي، الذي لا يزال الاحتلال يرفض الموافقة على إعادة ترميمه حتى الآن، مقابل التزام فلسطيني بوقف المقاومة فوق الأرض وتحت الأرض ووقف تهريب السلاح وتصنيعه، لكن هذه الأفكار لم ترق إلى مبادرة متكاملة مكتوبة، وفي حال بلورتها ضمن اتفاق سوف تقوم الحركة بعرضها على الفصائل للخروج برد موحد.
ترجح هذه الرواية عدم وجود أي بوادر توقيع اتفاق خلال الفترة القريبة في ظل تباعد ما تطرحه بعض الجهات، وما تريد تحقيقه حركة حماس، التي تشير إلى أن التسريبات الإعلامية لم تكن دقيقة وأن ترويجها يهدف إلى إشغال الرأي العام.

في المقابل، تم ترويج رواية أخرى عززتها تصريحات “متفائلة” لعدد من قادة حركة حماس في قطاع غزة والخارج، وتشير إلى أن اتفاقا مع دولة الاحتلال سيتم الإعلان عنه قريبا، بل وأشارت بعض التصريحات إلى أن الحصار بات يتفكك وينهار، وأن الفرج قريب والمرحلة المقبلة ستحمل الخير لأهل غزة الصامدين[1]، فيما صرح أسامة حمدان مسؤول العلاقات الخارجية لحركة حماس، بأن جهود التهدئة قطعت شوطًا مهمًا في النقاش، وأن الحركة كتبت أفكارًا واضحة في هذا الصدد وسلمتها للوسطاء[2].  ودعمت هذه الرواية تسريبات إعلامية متنوعة، سواء عالمية أم إسرائيلية أم محلية، تحدثت عن وجود اتفاق بات يتبلور إزاء التهدئة طويلة الأمد بين حركة حماس ودولة الاحتلال.

بمراجعة الأفكار المتداولة بشأن بنود الاتفاق، حسب التسريبات والمعلومات المتاحة، يلاحظ أي مراقب أن جميع المبادرات والأفكار تتمحور حول أفكار قديمة جديدة تنصب حول تهدئة طويلة مرتبطة بوقف أعمال المقاومة وتطوير قدراتها، ووقف حفر الأنفاق، مقابل رفع الحصار وإنشاء ممر مائي من خلال ميناء عائم بإجراءات أمنية تفرضها إسرائيل، وتسهيل عملية إعادة الإعمار، ومد خط غاز إسرائيلي لمحطة توليد الكهرباء، على أن يبدأ الاتفاق بفترة اختبار لستة أشهر تنتهي بإعلان اتفاق تهدئة يمتد إلى فترة تتفق عليها الأطراف تتراوح ما بين 5 إلى 10 سنوات.

غير أن بعض التسريبات تشير إلى أن إسرائيل ترى أن “التهدئة” قائمة بقوة الأمر الواقع، ولذلك لا ترى أنها مضطرة – في المدى المنظور على الأقل – لتقديم ثمن لحركة حماس يتجاوز حدود معادلة “هدوء أكثر مقابل تسهيلات أكثر”، وبخاصة في حالة إصرار “حماس” على التفاوض بشأن صفقة تبادل أسرى محتملة ضمن مسار منفصل عن مفاوضات التهدئة.

في نهاية المطاف، ينطلق جوهر أي اتفاق محتمل، رغم تضاؤل فرص التوصل إليه، من معادلة “الأمن مقابل تخفيف الحصار”، أو معادلة “الأمن مقابل تنمية قطاع غزة”، التي تحدّث عنها وزير الخارجية الألماني فرانك فلترشتاينماير، إبان زيارته إلى قطاع غزة منتصف العام 2015[3]، ويحمل في طياته مخاطر وتخوفات مشروعة تنصب على أن إسرائيل تسعى من خلال هذه الصفقة إلى تكريس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية سياسيا وجغرافيا بشكل كامل، وتحويل القطاع إلى كيان فلسطيني منفصل يخضع لإستراتيجية السيطرة الأمنية الإسرائيلية على المعابر والميناء العائم، والاستفراد بالضفة الغربية عبر توسيع الاستيطان، وخلق واقع يجعل المجتمع الدولي يتقبل فكرة البحث في بدائل عن الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي المحتلة العام 1967.

مواقف الأطراف من التهدئة

1.    موقف حركة حماس

تواجه حركة حماس جملة من الأزمات في إدارتها لقطاع غزة المحاصر، الذي يعاني جملة من المشكلات الإنسانية تسببت بها ثلاثة حروب عدوانية شنها الاحتلال الإسرائيلي في أقل من ست سنوات، ما أدى إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتزايد نسب الفقر والبطالة في القطاع، إلى جانب ما تعانيه الحركة من انحسار موارد التمويل على إثر التحولات الإقليمية، وعجزها عن تسديد فاتورة رواتب موظفيها البالغ عددهم قرابة 50 ألفا.

من جهة أخرى، تسبب الانقسام السياسي المستمر منذ سيطرة الحركة على قطاع غزة، في تراجع حالة حقوق الإنسان والحريات العامة، في حين عجزت مؤسسات النظام الساسي (حكومة رام الله، وحكومة غزة، ولاحقا حكومة التوافق) عن القيام بدورها في تأمين احتياجات ومصالح المواطنين، الأمر الذي أفضى إلى تراجع مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين.  وبالتالي، فإن حال القطاع ينذر بتفجر الأوضاع، إضافة إلى أن “حماس” تبدي تشاؤما إزاء فرص استكمال المصالحة، وتحمّل حركة فتح والرئيس المسؤولية عن تعطيلها.  كما تنتقد تفرد الرئيس محمود عباس وتعامله مع قطاع غزة باعتباره عبئا لا لزوم له، واستمرار كيل الاتهامات للحركة بالتفاوض المباشر مع الاحتلال.  ومن شأن الدعوة إلى عقد جلسة للمجلس الوطني في رام الله أن تضع جهود استكمال المصالحة على الرف إلى حين قد يطول تبعا لتداعيات عقد جلسة المجلس.

في تبريرها للانفراد بالتفاوض حول شروط التهدئة، تشير أوساط “حماس” إلى توقف المرحلة الثانية من محادثات التهدئة التي كانت ترعاها مصر، ولذا وجدت نفسها “مضطرة” لتولي الأمر بنفسها عبر مفاوضات غير مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي استجابة لجهود أطراف إقليمية ودولية، وضمن أسس تلتزم بمطالب الوفد الفلسطيني الموحد إلى مفاوضات التهدئة، ودون دفع ثمن سياسي بأي حال من الأحوال، مع رفض أي عرض يهدف إلى فصل القطاع عن الضفة، حسب ما أكده الدكتور موسى أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي للحركة وعدد آخر من قادتها، بشأن السعي لتثبيت وقف إطلاق النار مقابل تلبية المطالب الفلسطينية.

وبالرغم من عدم التوصل إلى اتفاق تهدئة حتى الآن، إلا أن الحراك السياسي الساعي لإبرام الاتفاق يوفر بحد ذاته فرصة لاستثماره لصالح خروج حركة حماس من حالة الحصار السياسي التي فرضتها عليها شروط اللجنة الرباعية الدولية.  وترى الحركة أن هناك مؤشرات على تحول سياسي في تعامل بعض الأطراف الأوروبية والدولية، وحتى العربية، مع الحركة، الأمر الذي يشكل متغيرا يمكن البناء عليه مستقبلا، في العلاقة مع أوروبا تحديدا، وفرص شطب الحركة من لائحة الإرهاب، إضافة إلى احتمالات تحسن علاقات الحركة مع السعودية مع اقتراب حماس من المحور الإقليمي الذي تسعى المملكة لتشكيله، إلى جانب فرص تحسن العلاقة مع مصر، الأمر الذي يعزز حضور الحركة وقوتها، ويجعلها تتصرف ببراغماتية ومراوغة تمكنها من المناورة والاستفادة من الوقت وحاجة الأطراف الدولية والعربية، ومن قبلها دولة الاحتلال الإسرائيلي، لهدوء يخدم مقاربة إدارة الصراع مع انسداد أفق التوصل إلى حل سياسي تفاوضي، فضلا عن استخدامها المفاوضات غير المباشرة مع الاحتلال كورقة ضغط قوية على الرئيس وحركة فتح لتعزيز موقعها في سياق أي حوار قد يتجدد مستقبلا لاستكمال مسار عملية المصالحة، في ظل حالة تهدئة تفتح الطريق أمام تخفيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة.

2.    موقف حركة فتح

تحمّل حركة فتح “حماس” مسؤولية إفشال حكومة الوفاق الوطني وعملية الإعمار من خلال عدم تسليم المعابر، وإعاقة عمل الوزراء في القطاع، وتركز خطابها السياسي على اتهام “حماس” بالسعي لتكريس انفصال قطاع غزة والقضاء على فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة العام 67.  وساهمت أجواء الاحتقان الداخلي، واستعصاء عملية المصالحة، وغياب المعالجة الجدية للمشكلات المتفاقمة في قطاع غزة، وعدم بذل السلطة الفلسطينية جهودا جدية لاستئناف مفاوضات التهدئة برعاية مصرية، بفتح المجال أمام دخول وسطاء وأطراف عربية وإقليمية ودولية متنوعة لاستكشاف فرص التوصل إلى اتفاق تهدئة بين “حماس” وإسرائيل، انطلاقا من الخشية من تبعات انفجار الأوضاع الكارثية في القطاع، وضرورة تفادي أي مواجهة جديدة ستكون أشد عنفا من حرب الصيف الماضي.

غير أن تنامي الحديث حول احتمالات التوصل إلى اتفاق تهدئة بين حركة حماس ودولة الاحتلال، أثار ردود فعل غاضبة من قبل السلطة وحركة فتح، إذ وجه الرئيس عباس اتهامات لحركة حماس بالتفاوض سرا مع الإسرائيليين، وأن هناك ملامح اتفاق على تطبيق مشروع “إيجورا آيلند” بهدف إنشاء دويلة غزة، مؤكدا أن هذا المشروع يمس بالمشروع الوطني وبوحدانية التمثيل الفلسطيني، ويهدف إلى التخلي عن القدس وحق العودة وإنهاء القضية والقبول بصيغ دولة ذات حدود مؤقتة.  كما صدرت تصريحات على لسان بعض المسؤولين في السلطة وحركة فتح تضمنت تحذيرات من سعي “حماس” لتكريس الانفصال واستمرار سيطرتها على مقاليد الأمور في قطاع غزة، في حين هدد عزام الأحمد، مسؤول ملف المصالحة في حركة فتح، بالعمل على إحباط أي اتفاق تهدئة خارج الشرعية الفلسطينية[4].

كما أكدت “فتح” أنها مع التهدئة في القطاع على أن تأتي في سياق جهود وطنية، وأن الوفد الفلسطيني الموحد في مباحثات التهدئة في القاهرة هو الجهة الوحيدة المخولة باستكمال التفاوض في المرحلة الثانية، ولا يجوز لحركة حماس كفصيل فلسطيني التفرد في عقد اتفاق، مجددة مطالبتها لحركة حماس بتطبيق المصالحة وتمكين الحكومة من العمل في قطاع غزة لحل مشكلات المواطنين وضمان رفع الحصار وإعادة الإعمار.

ويرى بعض المراقبين أن حركة فتح لا تبدي ارتياحا إزاء انفتاح بعض الأطراف الدولية على حركة حماس، الأمر الذي يضعف موقف حركة فتح في عملية المصالحة، كما يمس بتفرد الرئيس بعملية صنع القرار وبمجمل عملية التفاوض مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب الخشية من الضغط على الرئيس للإسراع في استئناف المفاوضات المباشرة دون شروط وفق ما تطالب به حكومة نتنياهو وأطراف دولية، خشية من “البديل الحمساوي”.

3.    موقف الفصائل الفلسطينية

تكاد جميع الفصائل الفلسطينية الرئيسية تتفق على حاجة القطاع إلى تهدئة تتيح مجالا لإعادة الإعمار ورفع الحصار، ولكنها تشترط أن يتم ذلك ضمن شراكة سياسية وباتفاق وطني عام، ولذا فهي تعبر عن معارضتها لتفرد “حماس” في مفاوضات التهدئة بعيدا عن السلطة ومنظمة التحرير وباقي الفصائل، الأمر الذي سوف يساهم في تعميق الانقسام الفلسطيني، مع نشوء كيان سياسي منفصل في قطاع غزة، على الأقل بحكم الأمر الواقع.

كما يقرّ الجميع بضرورة معالجة أزمات قطاع غزة باعتبارها مسؤولية الكل الوطني والمجتمع الدولي، ولكن تلبيتها يجب ألا تكون بأي حال على حساب المشروع الوطني الذي سوف يتأثر سلبا جراء هذا الاتفاق الذي سيكون في حال إتمامه أسوأ من اتفاق أوسلو، وذلك لغياب أي أفق سياسي في الاتفاق مرتبط بإنهاء الاحتلال عن الأراضي المحتلة العام 67 ككيان فلسطيني موحد، ما يتيح لإسرائيل الاستفراد بالضفة الغربية، والاستفادة من حالة الانقسام واتفاق التهدئة وفق معادلة “الأمن مقابل التنمية” لإجبار الفلسطينيين على القبول بمعادلة “الأمن مقابل السلام الاقتصادي”.  كما يتيح الاتفاق لدولة الاحتلال الإسرائيلي التنصل من الضغوط الدولية المتزايدة بسبب حصارها للقطاع، ومن التزاماتها كسلطة احتلال حربي وفق مقتضيات وقواعد القانون الدولي الإنساني.

وتخشى بعض الفصائل أن يفتح الاتفاق بوابة لتجدد الصراع الداخلي وحالة الاحتقان والانقسامات التي قد تتولد من جراء معارضة الاتفاق أو قيام الأجهزة الأمنية بإعاقة حرية عمل فصائل المقاومة في قطاع غزة، إضافة إلى مساهمة الاتفاق في توفير مزيد من المبررات لتنصل السلطة من التزاماتها اتجاه قطاع غزة.

ومع ذلك، هناك تمايزات في مواقف الفصائل في الساحة الفلسطينية، فهناك فصائل تتبني رؤية حركة فتح والسلطة، وأخرى تؤيد رؤية حركة حماس، وفي حين ترفض الجبهة الشعبية من حيث المبدأ الهدنة مع الاحتلال، فيما يتراوح موقف حركة الجهاد الإسلامي بين القبول بمبدأ التهدئة، والتهديد بإنهائها في حال استشهاد الأسير المضرب عن الطعام محمد علان.  كما صدرت تصريحات عن بعض قادة الحركة اشترطت أن تشمل أي تهدئة وقفا كاملا للعدوان، بما في ذلك إرهاب المستوطنين الذي تحميه وترعاه حكومة الاحتلال في الضفة الغربية.

لكن الأسئلة الأهم هي: هل ستأخذ “حماس” مواقف الفصائل الرئيسة بعين الاعتبار، أم ستمضي قدما في إبرام الاتفاق وفرض الالتزام به؟ وهل تملك الفصائل القدرة على تعطيل أو إفشال الاتفاق، أم ستكتفي بالتصريحات المحذرة والمعارضة فقط؟

4.    الموقف الإسرائيلي

في ظل تخوفات الاحتلال الإسرائيلي من انفجار الأوضاع في قطاع غزة بما ينذر بعودة المواجهة الساخنة مع المقاومة، فإن التقديرات الإستراتيجية العسكرية والأمنية والسياسية الإسرائيلية طرحت مقاربة جديدة في التعامل مع القطاع والوضع الفلسطيني برمته، تنطلق من السعي لتوظيف حالة الانقسام الفلسطيني بما يضمن تكريس فصل القطاع عن الضفة، وإدماج كل منهما ضمن منظومة السيطرة الأمنية الإسرائيلية مقابل تسهيلات اقتصادية وإنسانية تعزز دور كل من الإدارة الذاتية في الضفة والقطاع في توفير الخدمات وحفظ الأمن الداخلي، وتوفير الأمن للاحتلال الإسرائيل، بما في ذلك العمل على وقف تمدد التنظيمات المتطرفة.

لذا، أوصت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بالتوصل إلى تهدئة طويلة الأمد مع حركة حماس تستطيع من خلالها إسرائيل تحقيق عدة أهداف مباشرة وإستراتيجية، إضافة إلى أن هذه المفاوضات غير المباشرة مع “حماس” قد تدفع الرئيس للعودة إلى المفاوضات دون شروط، والتخلي عن فكرة المصالحة مع حركة حماس، وتكريس وجود كيان سياسي منفصل في القطاع بما يقوض آمال الفلسيطينيين في إقامة دولة على كامل الأراضي المحتلة العام 67، إضافة إلى تخفيف الضغوط الدولية المتزايدة على دولة الاحتلال.

ورغم ضجيج الحديث عن مفاوضات غير مباشرة مع “حماس”، تسعى حكومة نتنياهو للتقليل من شأن ما يدور، بل ووصل الأمر إلى نفي وجود مثل هذه المفاوضات أصلا من قبل مصادر في مكتب نتنياهو، بالرغم من نشر وسائل إعلامية إسرائيلية تسريبات حول بنود الاتفاق الجاري التفاوض حولها.  ويبدو أن الإستراتيجية الإسرائيلية تنطلق من الحد من المكاسب التي يمكن أن تحققها “حماس” وخفض سقف توقعاتها إزاء أي اتفاق محتمل.  وحسب ما يجري تداوله، فإن “حماس” سلّمت بالرفض الإسرائيلي الحازم لفكرة إعادة بناء المطار، واستبدال مطلب إنشاء الميناء على شاطئ غزة بفكرة الميناء العائم على بعد 3 كيلو مترات من الشاطئ، إضافة إلى عدم الحديث عن وقف الاعتداءات والإجراءات الإسرائيلية المتخذة ما بعد 12 حزيران/يونيو 2014، أي ما بعد حادثة اختفاء المستوطنين الثلاثة جنوب الخليل.  وهو ما يشير إلى أن سقف “حماس” التفاوضي انخفض عن المطالب التي كان طرحها الوفد الفلسطيني الموحد خلال المرحلة الأولى من مفاوضات وقف إطلاق النار بالقاهرة، ومع ذلك فهو لا يزال غير مقبول إسرائيليا.

وإذا أضيف إلى ما سبق الشروط الإسرائيلية التي تصر على وقف شامل لإطلاق النار، بما يحوّل حركة حماس إلى شرطي وظيفته ضمان التزام باقي الفصائل بالاتفاق، ووقف حفر الأنفاق، والحد من تطوير قدرات المقاومة، لا سيما الصاروخية، والتحكم عن بعد بحركة انتقال الأفراد والبضائع من وإلى قطاع غزة عبر أنظمة رقابة على المعابر والميناء العائم تضمن لدولة الاحتلال الإسرائيلي استخدام الفيتو على الأقل، والتمسك بإدماج قضية الجنود الأسرى وجثث القتلى ضمن مسار مفاوضات التهدئة، ورفض التعامل مع مسار تفاوضي منفصل تدفع فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي ثمنا باهظا بإبرام صفقة تبادل أسرى جديدة؛ فإنه يمكن تصور حجم العقبات التي لا تزال تعترض إمكانية التوصل إلى اتفاق تهدئة وفق ما تروج له بعض أوساط “حماس”.

سيناريوهات محتملة

إن تحليل مواقف الأطراف المختلفة وميزان القوى، يشير إلى وجود عدد من السيناريوهات التي يمكن إجمالها فيما يأتي:

السيناريو الأول: التوصل إلى اتفاق

وهو سيناريو يفترض تحقيق اختراق انطلاقا من حاجة الطرفين (الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس) إلى فترة هدوء بالترافق مع ضغوط إقليمية ودولية تدفع بهذا السيناريو.  ويعني ذلك أن توقع حركة حماس منفردة على اتفاق تهدئة بصرف النظر عن نتائج المشاورات مع الفصائل، إذ سيكون هناك اتفاق يقبله البعض ويرفضه البعض الآخر.  وأيا تكن التبريرات التي سوف تسوقها “حماس”، فإن معارضة حركة فتح وبعض الفصائل الرئيسة للاتفاق، سوف تؤدي إلى توسيع حالة التشظي الوطني والانقسام، وربما يقود رفض بعض الفصائل الالتزام بالاتفاق مع استمرار التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية إلى صدامات ميدانية في حال محاولة “حماس” فرض الالتزام الشامل بوقف إطلاق النار في قطاع غزة.

وفي ضوء التحليل الوارد أعلاه لمطالب كل من إسرائيل وحركة حماس، لا يبدو أن هناك فرصة لتحقق هذا السيناريو، في ضوء الأمر الواقع المحكوم حتى الآن بميزان القوى الذي انتهت إليه الحرب الأخيرة ضد قطاع غزة، إذ لا تملك “حماس” ما يكفي من أوراق لفرض القبول بمطالبها، في حين تفضل حكومة نتنياهو معادلة “هدوء أكثر مقابل تسهيلات أكثر”.

السيناريو الثاني: عدم التوصل إلى اتفاق

وهو السيناريو القائم حتى الآن، مع تزايد الحديث عن فشل مفاوضات التهدئة بسبب التباعد في مواقف الطرفين، الأمر الذي يعني إبقاء الأوضاع القائمة على ما هي عليه ضمن معادلة “هدوء مقابل هدوء”، مع تسهيلات إنسانية طالما توقفت أعمال المقاومة.  ولكن هذا السيناريو أيضا يعني بقاء الوضع الفلسطيني في قطاع غزة في حالة موت تدريجي وانفجار بطيء، وبخاصة إن لم يترافق مع تحقيق اختراق في ملفات المصالحة، وتمكين الحكومة من القيام بدورها، بما في ذلك تسلم المعابر وتيسير إدخال المواد اللازمة لعملية إعادة الإعمار.  وهو أمر سيكون أكثر صعوبة في ظل احتدام الخلاف الداخلي على خلفية الدعوة إلى عقد المجلس الوطني في رام الله.
لا يزال هذا السيناريو هو المرجح في المدى المنظور، إلا أنه يهدد بإمكانية انفجار الأوضاع في لحظة ما والدخول في مجابهة عسكرية أشد عنفا من سابقتها، وبخاصة أن الاحتلال الإسرائيلي سوف يواصل التحكم بمنسوب الحصار، وحركة انتقال الأفراد والبضائع كوسيلة للضغط على حركة حماس، لا سيما في حال عدم تسوية ملف الجنود الإسرائيليين الأسرى، دون مؤشرات على انتظام قريب لفتح معبر رفح من قبل مصر.

السيناريو الثالث: صفقة تبادل أسرى

في حالة فشل التوصل إلى اتفاق تهدئة، لكن مع استمرار الهدوء بقوة الأمر الواقع، قد تضطر حكومة نتنياهو بسبب الضغوط الداخلية لقبول الدخول في مفاوضات غير مباشرة لتسوية ملف جنودها القتلى والأسرى في غزة، وهو ما يوفر لحركة حماس فرصة المناورة والضغط للدفع باتجاه استئناف مفاوضات التهدئة في مرحلة ما، أو على الأقل ربط موضوع صفقة الأسرى بمطلب تخفيف الحصار وتسهيل إدخال مواد إعادة الإعمار.  وهذا مرهون أيضا باستجابة الاحتلال لشروط الحركة في رفع الحصار.  وفي نهاية المطاف، فإن النجاح بإبرام صفقة تبادل أسرى جديدة من شأنه يعزز موقف “حماس” الداخلي وأن يزيد من شعبيتها في حالة كسر موقف الاحتلال الإسرائيلي الرافض لمبدأ إطلاق سراح أسرى فلسطينيين مقابل استعادة أسرى أموات أو أحياء.

السيناريو الرابع: استئناف مهمة الوفد الموحد

إن العودة إلى صيغة الوفد الفلسطيني الموحد إلى مفاوضات التهدئة مرهونة باستعداد مصر لاستئناف وساطتها، إما بسبب احتمالات حدوث تحسن في علاقتها مع “حماس”، أو تدهور الأوضاع في قطاع غزة بشكل يهدد بحرب جديدة، أو بسبب ضغوط خارجية تحفزها الحاجة لاتفاق فلسطيني إسرائيلي على وقف طويل لإطلاق النار، أو بسبب تطور إيجابي في عملية المصالحة يعزز التوافق الوطني الفلسطيني بشأن شروط وإطار مفاوضات التهدئة ودور مصر في هذا السياق.

ويعد هذا السيناريو هو المفضل فلسطينيا، إذ إنه يقطع الطريق على مخططات تكريس الانفصال، ويضع جهود التهدئة في إطار توافق وطني ينطلق من الجهود المصرية ويوظف جهود جميع الأطراف لتثيبت تهدئة يتفق عليها الكل الوطني، وقد يدفع باتجاه تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على الاستجابة لاحتياجات المواطنين، وتوفير مقومات الصمود للناس، وحل أزمات ومشكلات قطاع غزة، من خلال الضغط لرفع الحصار وإعادة الإعمار ومعالجة قضايا الموظفين وتوحيد المؤسسات، وتسلم المعابر، وتنظيم علاقات عربية وإقليمية ودولية تقوم على المصالح الوطنية العليا، يترافق معها عقد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير.

غير أن هناك عقبات تعترض تحقق هذا السيناريو في ظل استمرار حالة الانقسام وإمكانية اتخاذ خطوات تزيد من حالة الخلاف الداخلي، مثل انعقاد المجلس الوطني وانتخاب لجنة تنفيذية جديدة للمنظمة دون مشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي.  كما أن إسرائيل لا تفضل هذا السيناريو وسوف تسعي لتعطيله بكل السبل، كونه يتعارض مع مصالحها في الاستفادة من تعميق من حالة الانقسام.

خاتمة

سوف تبقى فرص نجاح أي من السيناريوهات السابقة مرهونة بالعديد من الظروف والمعطيات الدولية والميدانية، التي قد ترجح تحقيق أحدها أو الدمج بينها، في ظل اختلاف معايير وشروط ووجهات نظر الأطراف الباحثة عن التهدئة في قطاع غزة، فلكل طرف مصالحه التي يحاول تحقيقها.  لذلك، يجب عدم التعامل ببراءة مع المبادرات الأوروبية والإقليمية وحتى العربية الهادفة إلى التوصل لاتفاق تهدئة بين إسرائيل وحركة حماس.  كما أن التسابق فلسطينيا على ترتيب علاقات مع الاحتلال الإسرائيلي من باب التهدئة أو غيرها بمثابة جري وراء أوهام، فضلا عما ينطوي عليه من خطورة الاستفراد بالقرار الذي يمس قضايا وطنية كبرى، ويقدم خدمات شبه مجانية للاحتلال ومشاريع التصفية للقضية الفلسطينية.

لعل تجربة السلطة في المفاوضات مع الاحتلال طيلة أكثر من عشرين عاما خير شاهد على ذلك.  كما أن تنصل الاحتلال من كافة الاتفاقيات السابقة مع السلطة، أو حتى مع فصائل المقاومة، توجب سلوك نهج مغاير يقوم على توافق وطني يحصّن المطالب الفلسطينية عبر إشراك القوى والفصائل الفلسطينية والشخصيات الوطنية في النقاشات المؤدية إلى بلورة موقف وطني موحد إزاء جهود ومحادثات التهدئة، إضافة إلى انتزاع ضمانات دولية تقوم على مقاربة الحقوق وتضمن تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الوطنية، وعدم السماح بتحويل وتجزئة القضية الفلسطينية إلى قضايا إنسانية يدفع من أجلها الفلسطينيون أثمانا سياسية باهظة من حقوقهم ووحدة قضيتهم وموقفهم.  فرفع الحصار وإعادة الإعمار وتأمين حاجات الناس هي حقوق يجب النضال من أجلها من خلال توجيه الضغط الدولي على الاحتلال الإسرائيلي لرفع الحصار، وإيجاد معالجات سريعة لكافة مشاكل المواطنين في قطاع غزة، وعبر خطوات جادة تساهم في إنهائها وحلها بما يمكّن المواطنين من التمتع بالحد الأدنى من حقوقهم الإنسانية.

ويتطلب ذلك بذل كل جهد ممكن للحد من تداعيات الدعوة إلى عقد جلسة المجلس الوطني في رام الله، والضغط لتأجيلها بما يفسح المجال للتحضير الجيد لعقد دورة عادية للمجلس في الخارج تشكل محطة في مسار إعادة بناء التمثيل والوحدة الوطنية، بما يضمن التوافق على إستراتيجيات شاملة وموحدة، وقيادة جماعية تقوم على نهج الشراكة الوطنية، وهذا يستدعي المسارعة لعقد الإطار القيادي المؤقت، وضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية من خلال حوار وطني شامل، والتعاون المشترك لرفع الحصار، وإعادة الإعمار، وتعزيز صمود المواطنين وحل مشكلات الكهرباء، وفتح المعابر، وقضايا توحيد المؤسسات والموظفين، والتصدي لمخططات واعتداءات الاحتلال وقطعان المستوطنين في الضفة، وعمليات تهويد القدس، والتنكيل بالأسرى في سجون الاحتلال، مع ما يقتضيه ذلك من توافق على أشكال المقاومة الملائمة وتوقيت ممارستها أو توقيت إبرام تهدئة بما يخدم النضال الفلسطيني.

دراسة لمركز مسارات

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن