جيوبوليتكال: هكذا تهيمن الجيوش على السياسة في الدول العربية

جيوبوليتكال: هكذا تهيمن الجيوش على السياسة في الدول العربية
جيوبوليتكال: هكذا تهيمن الجيوش على السياسة في الدول العربية

على مدار عقود، شهدت معظم الدول العربية انقلابات عسكرية مصحوبة بوعود من الجيوش بانفيذ إصلاحات ديمقراطية واقتصادية، وغالبا ما رفع الجنرالات الشعارات الثورية وقدموا أنفسهم على أنهم المنقذون، لكن سرعان ما يظهر الوجه الاستبدادي والوحشي ليقضوا على جماعات المعارضة وحتى الحلفاء الذين ساعدوهم في الوصول إلى السلطة.

ويعد ذلك نمطا شبه ثابت لكن شكل الصعود اختلف من دولة إلى أخرى. وسنركز في العرض القادم على تجارب 4 دول هي العراق ومصر والجزائر والسودان، والتي كان لكل منها نتائج سياسية مختلفة.

الكارثة العراقية

تعود أصول الحراك العسكري العراقي إلى عام 1941، عندما قام 4 عقداء قوميين عرب، متأثرين بالدعاية الفاشية، بانقلاب “المربع الذهبي” لطرد البريطانيين من العراق. وفشل الانقلاب، وهرب مهندسه “رشيد علي الكيلاني” إلى السعودية.

ومع الهزيمة العربية في حرب عام 1948 وظهور القومية العربية والأيديولوجيات اليسارية في الخمسينيات من القرن الماضي ومعارضة ميثاق بغداد الموالي للغرب، تحمس ضباط الجيش العراقي لتنفيذ انقلاب آخر في عام 1958، للإطاحة بالنظام الملكي الهاشمي وإعلان العراق جمهورية.

وفي عام 1963، أطاح انقلاب بعثي بنظام “عبد الكريم قاسم”، وحاول فصيل بعثي متطرف تثبيت نظام سياسي يساري بينما أطلق العنان لعملية تطهير دموي بين الشيوعيين العراقيين. وقبل نهاية العام، قام “عبد السلام عارف” (من أشد المدافعين عن القومية العربية) بانقلاب آخر، ولعب في عام 1964 دورا حاسما في تشكيل القيادة العربية المشتركة لمقاومة إسرائيل. وأدى موته في حادث تحطم مروحية عام 1966 إلى إضعاف الجهود العربية لتشكيل قوة عسكرية فعالة مناهضة لإسرائيل.

وفي عام 1968، عاد حزب البعث إلى السلطة في العراق بانقلاب “أحمد حسن البكر”، الذي بنى عراقا حديثا، وشرع في إصلاحات شاملة وأدخل أنظمة تعليمية وطبية عالمية، لكن نائبه “صدام حسين” أجبره على الاستقالة عام 1979، وجر البلاد إلى مغامرات كارثية، مما أدى في النهاية إلى احتلالها في عام 2003 من قبل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ثم أصبح العراق لاحقا دولة تابعة لإيران.

المغامرة المصرية

كان “جمال عبد الناصر” ضابطا بالجيش المصري خلال حرب 1948 التي تعرضت خلالها وحدته للحصار. ورأى “ناصر” أن معركته الحقيقية يجب أن تكون ضد الملكية المصرية. وعند عودته إلى مصر، أنشأ مجموعة سرية من صغار الضباط تسمى حركة الضباط الأحرار.

وطلب “ناصر” دعم الجنرال “محمد نجيب” وجماعة الإخوان المسلمين في حركة الضباط ضد الملك “فاروق” عام 1952. لكنه قام بانقلاب أبيض ضد “نجيب” في 1954، ونكث بوعوده بضم الإخوان المسلمين إلى الحكومة بل أطلق حملة واسعة لاستئصاله.

وتضمنت أجندة “ناصر” لتحديث مصر إجراءات “العدالة الاجتماعية” مثل الإصلاح الزراعي والتعليم والتوظيف العام. وقد عاش حياة بسيطة ولم يسعى وراء الثروة الشخصية، لكن هوسه بصورته العامة قوض حياته السياسية.

وفي عام 1961، قطعت سوريا اتحادها مع مصر وأنهت الاندماج الذي بدأ عام 1958. ولتعويض تلك الخسارة، نشر “ناصر” جيشه بعد عام لدعم الانقلاب الجمهوري الوليد في اليمن. لكن الجيش لم يستطع الانتصار في جبال اليمن الوعرة، وأدى التدخل المكلف إلى تقليص إنجازات “ناصر” الاجتماعية والاقتصادية في الداخل.

• ميدل إيست آي: السيسي وبن زايد يقودان حلف الثورة المضادة ويصدران الانقلابات.. فمن يضحك أخيرا؟

وفي عام 1967، أرسل “ناصر” الجيش إلى سيناء وأغلق مضيق “تيران” واستغلت إسرائيل هذه الإجراءات لشن الحرب واستولت على سيناء وغزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان. وأنهت الخسارة طموحات “ناصر” الأيديولوجية، وأجبرته على إيجاد طريقة لاستعادة سيناء. وبعد وفاته عام 1970، سعى خلفه “أنور السادات” إلى كبح تطلعات مصر الإقليمية، واعتبر أن هدف مصر هو صنع السلام مع إسرائيل، وروج بشدة لفكرة “مصر أولا”.

وقضى “السادات” على النخبة السياسية والعسكرية في البلاد وأطلق سراح الآلاف من النشطاء الإسلاميين الذين سجنهم “عبد الناصر”، وأنهى حالة الحرب مع إسرائيل عام 1975، قبل 3 أعوام من توقيع اتفاقية “كامب ديفيد”. وحاول “السادات” القضاء على هوس الناس بشخصية “ناصر” وقدم نفسه على أنه “بطل العبور”، في إشارة إلى عبور الجيش المصري لقناة السويس خلال حرب 1973.

وخوفا من أن يتدخل الجيش في الحكم بعد التوصل إلى السلام مع إسرائيل، قدم “السادات” حوافز اقتصادية للجيش، وهي الخطوة التي تبناها خليفته “حسني مبارك”، ما جعل القوات المسلحة المصرية لاعبا رئيسيا في الاقتصاد الوطني. وفتح “مبارك” الطريق لظهور “جمهورية الضباط” التي توسعت بشكل كبير في ظل الرئيس الحالي “عبد الفتاح السيسي”.

ومن “عبد الناصر” إلى “السيسي”، اعتبر جميع الرؤساء المصريين، باستثناء “محمد مرسي”، الإسلام السياسي عدوا وجوديا. وحظر “ناصر” جماعة الإخوان المسلمين عام 1954، ودفعها إلى العمل السري وسجن الآلاف من أعضائها. واستخدم “السادات” الحركات الإسلامية ضد أعدائه السياسيين لكن أحد أعضاء هذه الحركات اغتاله في نهاية المطاف في عام 1981. وواصل “مبارك” الحرب ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة مع التسامح نسبيا مع جماعة” الإخوان المسلمين”.

لكن الإطاحة بـ “مبارك” عام 2011 أدت إلى صعود جماعة الإخوان المسلمين ووصول “محمد مرسي” إلى سدة الرئاسة. ولم تستطع القوات المسلحة التعايش مع رئيس إسلامي، واغتنم “السيسي” أقرب فرصة للإطاحة به في عام 2013. وأصر “السيسي”، مثل أسلافه، على أن مصر كانت هدفا لمؤامرة أجنبية تستهدف وحدتها وسيادتها.

الثورات والثورات المضادة في الجزائر

بعد 132 عاما من الاحتلال الفرنسي، أصبح “أحمد بن بلة” أول رئيس للجزائر في عام 1962. وكان إرثه كقائد رمزي لحرب الاستقلال وكشخصية قوية مناهضة للاستعمار جعله رمزا عالميا للحرية والتحرر. لكن الصعوبة التي واجهها في التغلب على المشاكل الاجتماعية والسياسية الهائلة في الجزائر أعاقت رئاسته.

وأثارت جهوده لتعزيز صعود المجتمع المدني والنقابات العمالية قلق الجيش الذي أطاح بـ “بن بلة” عام 1965 ليتولى مكانه نائب الرئيس “هواري بومدين”. وكان “بومدين” زعيما ثوريا راديكاليا وعدوا لدودا للصهيونية. وقد أضفى الطابع المؤسسي على عداء الجزائر لإسرائيل وعدم الاعتراف بوجودها كدولة يهودية.

وحكم “بومدين” الجزائر حتى عام 1978، عندما توفي عن عمر يناهز 46 عاما بمرض دم نادر. وقد حافظ على تماسك البلاد وأطلق خطط تصنيع طموحة لجعل الجزائر نموذجا يحتذى به في العالم الثالث. لكنه توفي قبل أن يثبت أن سياساته الاقتصادية غير قابلة للتطبيق، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن النخبة البيروقراطية التي تدربت في فرنسا استاءت من تكليف “بومدين” للقطاع العام بتنفيذ استراتيجيته للتحديث.

علاوة على ذلك، كان لدى الجزائر نقص حاد في العمالة الماهرة اللازمة لعملية الصناعة. وأعطت الطفرة النفطية في السبعينيات ووفرة السيولة انطباعا خاطئا بأن الجزائر تسير على طريق التنمية الصحيح. ومن الناحية السياسية، عزز “بومدين” تفوق جبهة التحرير الوطني كحزب سياسي منفرد بالسلطة في الجزائر، وجيش التحرير الوطني باعتباره المهيمن على السلطة في البلاد.

واختار جيش التحرير الوطني “الشاذلي بن جديد” لخلافة “بومدين”. ووجد “بن جديد” نفسه في موقف لا يحسد عليه وهو الاضطرار إلى التعامل مع تخمة النفط والغاز الدولية وفقدان الإيرادات. وسقطت الجزائر في براثن أزمة مالية طاحنة دمرت البنية التحتية، وخفضت مستويات معيشة الجزائريين، وقلصت خدمات القطاع العام.

• انقلاب السودان.. هل يسير البرهان على خطى السيسي؟

وفي أواخر الثمانينيات، قدم “بن جديد” نظاما سياسي تعددي أدى في عام 1990 إلى فوز ساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات المقاطعات والبلديات. وفي الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية عام 1991، والتي تنافس فيها أكثر من 50 حزبا سياسيا، فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بـ 198 مقعدا من بين 232 مقعدا، مقارنة بـ 16 مقعدا لجبهة التحرير الوطني.

وقبل أيام قليلة من الجولة الثانية من التصويت، نظم جيش التحرير الوطني انقلابا، مما أجبر “بن جديد” على الاستقالة وإنهاء الفاصل الديمقراطي القصير في الجزائر. وأدت هذه الخطوة إلى اندلاع حرب أهلية مروعة خلال التسعينيات، أطلق عليها الجزائريون اسم “العشرية السوداء”، وأسفرت عن مقتل أكثر من 150 ألف شخص.

وأعاد المجاهدون الجزائريون العائدون من أفغانستان تنظيم صفوفهم تحت قيادة الجماعة الإسلامية المسلحة وقاتلوا الجيش والجماعات الإسلامية المتنافسة. ووقعت العديد من المجازر التي استهدفت المدنيين الأبرياء والصحفيين والعسكريين”، مما أدى إلى تآكل الدعم الشعبي للحركة الإسلامية، الأمر الذي ساعد على إنهاء الصراع في عام 2002.

وفي عام 1999، طرح جيش التحرير الوطني “عبد العزيز بوتفليقة”، وهو شخصية بارزة في جبهة التحرير الوطني منذ الاستقلال، كمرشح للرئاسة. ووعد بإصلاحات سياسية واقتصادية شاملة لكنه أهدر مليارات الدولارات على شراء الولاء من خلال الرشوة والفساد، ومنذ الحرب الأهلية تم تصميم نظام ديمقراطي زائف لمنع انتفاضة أخرى.

ومنذ عقود يعاني اقتصاد البلاد من التخلف. وتأتي أكثر من 93% من عائدات الجزائر من النفط والغاز. وفي عام 2020، بلغت الإيرادات النفطية 23 مليار دولار، فيما بلغ إجمالي الإيرادات غير النفطية 2.3 مليار دولار فقط. ومثل أسلافه، فشل “بوتفليقة” في تنويع الاقتصاد بعيدا عن الهيدروكربونات، مما جعله عرضة لتقلبات الأسعار غير المتوقعة.

وأثار المأزق الاقتصادي احتجاجات حاشدة في 2019، ما أجبر “بوتفليقة” على الاستقالة. وطرح جيش التحرير الوطني، الذي يدير الجزائر من خلال قشرة ديمقراطية، “عبد المجيد تبون” الذي جاء أيضا من صفوف جبهة التحرير الوطني، لخلافته.

التحولات الديمقراطية في السودان

بعد حصوله على الاستقلال في عام 1956، شكل السودان حكومة ديمقراطية لكنها كانت غير مستقرة. وفشل النظام السياسي التعددي في معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والعرقية في البلاد، كما برزت مشكلة تدخل مصر المتزايد في شؤون السودان. وفي عام 1958، خوفا من زيادة النفوذ المصري في الشؤون الداخلية للبلاد، طلب السياسيون السودانيون من اللواء “إبراهيم عبود” القيام بانقلاب، معتقدين أنه سيحافظ على النظام الديمقراطي التعددي.

لكن “عبود” تشبث بالسلطة وفشل في حل مشاكل السودان الاقتصادية. ومع تدهور الوضع، واجه تمردا شعبيا أطاح بنظامه في عام 1964. وعادت الديمقراطية إلى السودان حتى قام العقيد “جعفر النميري” بانقلاب عام 1969. واستمر حكمه الاستبدادي حتى عام 1985عندما أطاحت به انتفاضة حاشدة. وبدأت مرة أخرى فترة ديمقراطية وجيزة بقيادة الرئيس المنتخب شعبيا “أحمد الميرغني”. وفي عام 1989، أطاح به اللواء “عمر البشير” وبدأ حملته التي استمرت 30 عاما كحاكم استبدادي للسودان.

وفي عام 2019، أطاح الجيش بـ “البشير” وأعلن اللواء “عبد الفتاح البرهان” نفسه رئيسا لمجلس السيادة، وتقاسم السلطة مع حكومة مدنية. وكان من المقرر استعادة الديمقراطية في غضون عامين، لكن “البرهان” نفذ انقلابا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي وأقال مجلس الوزراء. وعين “البرهان” نفسه رئيسا لمجلس السيادة الانتقالي ووعد باستعادة الديمقراطية بعد الانتخابات العامة في يوليو/تموز 2023.

ويصر “البرهان” على أنه لن يشارك في الحكومة المقبلة، لكن بناء على سلوكه منذ الإطاحة بـ “البشير”، سيحاول “البرهان” على الأرجح إضفاء الشرعية على حكمه، تماما مثل معظم ضباط الجيش العربي الآخرين الذين لا يتركون مناصبهم السياسية إلا بالسجن أو الموت. وفي وقت سابق من الشهر الجاري، كشف “البرهان” عن نواياه عندما هدد بطرد رئيس بعثة الأمم المتحدة للمساعدة الانتقالية في السودان بعد أن حذر من تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.

لا منقذ عسكري حقيقي

تواصل الجيوش ممارسة سلطة هائلة في جميع الأنظمة الجمهورية العربية. حيث يقوم جنرالات الجيش خلف الكواليس بتعيين واستبدال الحكومات المدنية. ويبدو أن هذه الجيوش ستتمسك بالسلطة بأي ثمن مما يجعل الدول في خدمة الجيوش، وليس العكس.

وواجه القادة المدنيون صعوبة في إدارة شؤون بلدانهم، مما سهل صعود الجيش إلى السلطة وخلق انقسام في العلاقات المدنية العسكرية، غالبا بين الإسلام السياسي وضباط الجيش العلماني.

وتعاني المجتمعات العربية من الانقسامات الاجتماعية والعقائدية والعرقية والدينية. ولم تنضج هذه المجتمعات بما يكفي للتعايش مع الاختلافات التي تعزز هذه الانقسامات. وقد بشر الضباط العسكريون المستنيرون في أجزاء أخرى من العالم بالتحديث الاقتصادي والتكامل الوطني في بلدانهم، لكن هذه الفرصة لم تسنح في المنطقة العربية.

هلال خاشان – (جيوبوليتيكال فيوتشرز)

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن