طريق الصين إلى القمة غير سالك

جميل مطر
جميل مطر

جميل مطر

قبل شهر أو أكثر كنا من على البعد في انتظار مواجهة أمريكية تبدأ مع الصين وتنتهي بروسيا. وبعدها تعود الهيمنة الأمريكية مطلقة كالعهد بها منذ انفراط الاتحاد السوفييتي، ولم تكن الصين رشحت نفسها قطباً دولياً. وقتها، وأقصد في الفترة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، تولت الولايات المتحدة قيادة العالم منفردة وراحت تعزز هذه المكانة بالانطلاق بكل قواها تغزو دولاً، كما فعلت في أفغانستان والعراق، وتغير أنظمة حكم، كما فعلت وتفعل في بعض دول العالم العربي، وتقرر للشعب الفلسطيني مصيره، وتواصل فرض إرادتها في فنائها الخلفي، كما تفعل مع فنزويلا وكوبا ما بعد كاسترو.

جربت الكتابة في الشؤون الدولية في كل عصر. أظن أنها لم تكن في أي عصر صعبة كما الكتابة الآن عن أزمة أوكرانيا. الصعوبة ليست لأن أحداً يقف فوق رأسي يحاول أن يملي ما أكتب، لكنني أختصر متاعبي عند اختيار قرار الكتابة في هذه الأزمة في النقاط التالية.

  • أولاً: الكتابة عن الصراع حول أزمة أوكرانيا في اللحظة الراهنة مهمة صعبة، لأن شرط الموضوعية ليس متوفراً عندي في ظل الظروف التي يمر فيها أو وصل إليها الصراع. صحيح أن هذا الشرط غاب أحياناً ومع ذلك لم يحل غيابه دون الانغماس في الكتابة، كان يكفيني مصارحة القراء بنواحي انحيازي، إذ تعلمت في مرحلة أو أخرى من مراحل تكويني الأكاديمي ثم الصحفي وجوب الكشف عن انحيازي بشكل أو بآخر قبل الكتابة أو أثناءها، بخاصة إذا شعرت أنه يمكن أن يؤثر على مجمل استنتاجاتي أو توصياتي. تعلمت أيضاً تجنب الكتابة وأنا تحت الضغط.

  • ثانياً: توافر المعلومات شرط آخر من شروط الكتابة. ومن الظاهر تبدو هذه الأزمة غنية بالمعلومات سواء في طرفها الغربي أو طرفها الروسي. بينما في الواقع المعلومات الضرورية شحيحة للغاية والوافر منها لا يصلح للبناء عليه في الكتابة. قبل يومين التقيت صحفياً صديقاً نجح في الاحتفاظ لنفسه بسمعة طيبة في هذه المهنة الشاقة، وبطبيعة الحال تناولنا بالحديث تجربة كل منا في الكتابة في أزمة أوكرانيا. اعترفت أمامه بأنني لم أواجه صعوبة في الكتابة عن أزمة جارية كالصعوبة التي أواجهها الآن عند الكتابة عن هذه الأزمة بسبب نقص ثقتي في صدقية المعلومات وفي أحيان انعدمت تماماً هذه الثقة. أقرأ أو أسمع أخباراً عن الاحتكاكات الدائرة بين هؤلاء وأولئك وعند التدقيق اكتشف أن الطرفين المتنازعين استخدماني وسيطاً ساذجاً بينهما من ناحية وبين قراء أو صناع قرار في العالم العربي والعالم النامي بشكل عام. أنقل لهم كذباً أو أحداثاً وجرائم جرى تأليفها في مراكز استخبارات ووزارات دفاع ومخازن العصف الفكري. حتى الصور الحية خدعتنا، لم تكن حية. القتلى الذين التقطت لهم صور في مدينة نقلوا لتلتقط لهم صور في مدينة أخرى وأحياناً، كما أكد لي صديقي، كانوا من ضحايا حروب أخرى في ليبيا والعراق وأفغانستان.
    اختلطت الصورة في ذهني بين ممثل كوميدي أقرب إلى فنون التهريج يطلب أو يكلف بالحديث إلى الكونغرس الأمريكي والبوندسيتاغ الألماني والبرلمان البولندي ومجلس العموم البريطاني ومجلس الأمن، لا أحد في هذا العالم قادر على تحقيق هذا الطلب إلا الولايات المتحدة. تساءلت مثل كثيرين إن كان احترام شعوبنا لهذه المؤسسات الوقورة لن يتغير إلى أسوأ في المستقبل.

  • ثالثاً: لم تخل مسيرة الأزمة من أحداث ومواقف تستحق أن نعيد قراءتها على ضوء ما حدث خلال شهر أو أكثر. لا أزال حتى هذه اللحظة أحاول فهم هدف الرئيس بوتين من عقد اجتماع في بداية الأزمة لأركان حكمه وتكليفهم بإلقاء كلمات أمام الكاميرات وملايين المواطنين الروس، وغير الروس. كان بكل المعايير وبعد ما عشناه من أسابيع الأزمة وخلاصة الوضع القائم والأداء العسكري والسياسي والإعلامي غير الموفق عرضاً سخيفاً وبلا مبرر. على الناحية الأخرى لم يكن تعرض جو بايدن لفلاديمير بوتين بالسباب والإهانات مجرد زلة لسان كما ادعت الإدارة الأمريكية. وإن كنت أعود فانضم إلى القائلين من خارج الإدارة إنها كانت بالفعل زلة لسان استبق بها ما كان ربما سراً من أسرار الخطط الدموية والمدمرة العديدة المعدة لإخراج روسيا من معادلة صراع الأقطاب.. صراع آن أوان حسمه.

في ظني، وبعض ظني له أساس، أن الأولوية في الإخراج من معادلة صراع القمة كانت للصين وليس لروسيا. لم تكن روسيا تمثل تهديداً يذكر لمكانة الولايات المتحدة في القمة، لا عسكرياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً. بل وساد اقتناع في عديد العواصم الأوروبية أن الزحف المتواصل لحلف الناتو، الذراع الذهبية للهيمنة الأمريكية نحو الشرق، كفيل وحده بإسقاط النظام في موسكو وتقزيم روسيا. التهديد المحتمل للمكانة الأمريكية كان من جهة الصين. لذلك لم يكن مثار شك أن تأخير إصدار وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي يعود إلى نية مبيتة، وتصاعدت في الشهور الأخيرة السابقة على اشتعال أزمة أوكرانيا، تهدف إلى افتعال أزمة حول تايوان أو سنكيانغ أو التبت أو الحدود مع الهند أو حول جزر ومياه بحر الصين الجنوبي أو جميعها في وقت واحد تنتهي بإضعاف مكانة الصين في شرق آسيا وجنوب شرقها وتعطيل فرص صعودها المتدرج بانتظام ولكن بإصرار نحو القمة الدولية.

أما كيف ومتى ولماذا تبدلت الأولويات حتى صارت روسيا الهدف الأسبق فهي بعض من أسئلة عديدة تستحق الاهتمام.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن