معلومات عن الجن لم تسمع بها من قبل

الوطن اليوم / رام الله

يمثل الاعتقاد في الجان اساس المعتقدات السحرية في المغرب على خلفية ان الجني يكون غالبا هو الرابط الخفي بين الساحر والمسحور وربما يتميز المغاربة عن غيرهم من باقي الشعوب العربية والاسلامية بما عرف لديهم من تشخيص بعض الكائنات الخفاء الشريرة او الحامية ومنحها صفات واسماء (كعيشة قنديشة مثلا).

ان «الجنون» (الجان، بالتعبير المغربي الدارج) اسم طابو عند المغاربة اي محرم النطق به علانية فذكر الجن بالاسم هو بمثابة مناداة عليهم قد ينتج عنها رد فعل انتقامي منها غير محدد العواقب ولذلك يتحدث المغاربة عن الجن بشكل ملتو وغير مباشر فيسمونهم «هدوك» اي اولئك او المسلمين او سيادنا او اللي ما عندهم سمية (اي: اولئك الذين لا اسم لهم) او موالين المكان اي: اصحاب المكان الخ.

قبائل الجان

الجان كائنات تستوطن عوالم الخفاء الممتدة في كل مكان من حولنا هم غير مرئيين بعيون البشر في الاحوال العادية لكن مع ذلك يمكن رؤيتهم ـ حسب المعتقد العامي ـ ليلا خلال الفترة المتراوحة بين الساعة الحادية عشرة ليلا والواحدة صباحا عدا ليلة الجمعة التي هي لحظات ابتهاج عام يستغلها الجن للتسكع في عالمنا حتى صباح السبت, ومن اجل الحلول في عالم المرئي يضطر الجان الى تقمص اشكال الحيوانات والحشرات بغاية التنكر: حمار، كلب، قط، صرصور، فأر ولذلك يحاذر المغاربة ان يقتلوا او يلحقوا الاذى ليلا بحيوان او حشرة خصوصا اذا كان كلبا او قطا اسود.

ان الحديث عن المعتقدات المغربية حول الجان قد شكل موضوعا مغربيا للبحث الانتربولوجي منذ مطلع القرن العشرين، وفي حدود علمنا يمثل مؤلف الفنلندي (وستر مارك) اول واهم ما كتب حول الموضوع ولعل صعوبة اختصار الحديث عن تلك المعتقدات تأتي من كونها تختلف الى حدود التباين من منطقة مغربية الى اخرى.

ان الجان يتكلمون فتصلنا اصواتهم دون ان تدركهم ابصارنا وهم مع ذلك من كل الاحجام والاشكال: فيهم الجان الصفر والحمر والبيض والسود، كائنات مهجنة تجمع في الشكل غالبا ما بين رأس الكلب وجسم الانسان وقوائم الدجاج وهم يتوزعون على قبائل يدين افرادها بثلاث ديانات اذ فيهم المسلمون واليهود والنصارى ولبعضهم عين وحيدة في الجباه، بينما الآخرون عميان.

الطعام

بيد انهم على اختلافاتهم الخلقية والدينية تجمعهم خاصية واحدة على الاقل وان الجن جميعا لا يأكلون سوى الطعام «المسوس» (اي من دون ملح) فهم ايضا يأكلون ويشربون ويتناسلون مع افضلية في الاذواق لأكل ريش الدجاج وشرب الدم وعشق الآدميات.

والجان طبعا يموتون لكن بعد عمر طويل يمضي بالجني الى قرون عدة وقبائل الجان لا تتبع تقسيما واحدا فبينما يذهب بعض الفقهاء الى تقسيمهم على عدد يراوح ما بين 400 الى 420 قبيلة تذهب المعتقدات الشعبية الى تفضيل العدد سبعة ذي القيمة السحرية المعروفة او اربعة تارة اخرى وحسب التصنيف السباعي هناك:

أنواع الجن

الصنف الأول : الجان الصفر ولهم رؤوس كلاب مستديرة الشكل واجسام بشر مع ارجل دجاج ويقتاتون من العظام.

الصنف الثاني : لهم رؤوس كلاب طويلة واجسام بشر وقوائم تشبه تلك التي عند الدجاج وهم مثل الصنف الاول غذاؤهم المفضل الهياكل العظمية.

الصنف الثالث : وتضم الجان الحمر الذين لهم عين وحيدة في الجبهة وجوههم آدمية لكن طويلة وغذاؤهم الوحيد هو ما تحويه معدة البقر.

الصنف الرابع : يشبهون البشر ما عدا ارجلهم التي تشبه ارجل الدجاج وهم عمي بلحى طويلة يلتهمون كل ما يجدونه غير مالح من طعام في مساكن البشر التي يزورونهم ليلا.

الصنف الخامس : هم صنف من الجان شديد الشبه بالانسان لكن له اقدام الدجاج وهم مسلمون لا يحبون سوى اكل الخرفان.

الصنف السادس : هم جنود يعيشون دائما قريبين من قائدهم طعامهم يشبه طعام البشر لكن من دون ملح.

الصنف السابع : تضم الجان الزنوج.

وفي مقابل التقسيم السباعي لأصناف قبائل الجان بحسب اللون والمزاج والهيئة ونمط التغذية المفضل ينحو التقسيم الرباعي الى التمييز بين الجان بحسب العناصر الاربعة للكون التي خلقوا منها وهكذا:

جنون الأرض:

وهم الجنون المستوطنون للأرض التي نتحرك فوقها بالمعنى الذي يفي ان لهم خاصية التفوق على غيرهم من المخلوقات ويستوطنون كل الاماكن من حولنا التي يبتعد عنها البشر المغارات والاشجار والجبال والفيافي والصحارى وباطن الارض.

ولذلك ينبغي على كل من ذهب لقطع الاشجار وتكسير حجارة الجبل او التنقيب عن الكنوز او رمي اشياء في اماكن فارغة ان يتخذ بعض الاحتياطات الوقائية كي يتجنب رد فعلهم العنيف ان هو ألحق بهم الأذى دون قصد.

احتياطات واجبة

ومن هذه الاحتياطات ما هو شفوي مثل ذكر اسم الجلالة او النطق بالبسملة عند القيام بأحد تلك الاعمال، او طقوسي لاسترضاء «الجان الارض» كتقديم قرابين تراوح اهميتها حسب اهمية العمل ما بين وجبة طعام بسيطة من دون ملح او ذبيحة.

الجنون الناريين (الجان الناري):

وهم الاقرب الى اصل الجن الذين ذكروا في القرآن الكريم انهم كائنات مخلوقة من نار.

جنون الماء (جن الماء)

يعيشون قرب الانهار والمستنقعات وهم الاكثر خطورة من بين كل انواع الجن الاخرى ويتواجدون في الآبار والعيون والغدران والبحار واشهر هؤلاء هي الجنية «عيشة قنديشة» التي سنعود للحديث عنها باستفاضة فيما يلي.

الجنون الهوائيين (الأرياح):

مواطنهم الهواء، وهم الذين يحركون الزوابع والعواصف «يسكنون» البشر (بالمعنى الدارج الذي يعني حلولهم في اجساد وارواح البشر) للانتقام منهم ولذلك عندما يتحدث المغاربة عن شخص «مجنون» ان «مسكون بالجن» يقولون عنه انه «مرياح» او «فيه الارياح».

وتذهب معتقدات اخرى الى ان لكل آدمي «قرينه» اي نسخة منه في عالم الجن يولد مع مولده ويموت لحظة وفاته لكن اكثر الاساطير المغربية غرابة في موضوع الجان تبقى هي تلك المرتبطة بالمحكمة الكبرى للجن (بويا عمر) التي سنعود للحديث عنها فيما بعد.

فحول الوالي بويا عمر تنتشر بعض الاضرحة والمقامات الصغيرة لأولياء الجان الذين تعتبر زيارتهم والتبرك بهم جزءا اساسيا من الزيارة الاستشفائية لبويا عمر، وتوغل اسطورة ولي الجن (سيدي الطيبي بن عبو) القريب ضريحه (بويا عمر) في الغرابة فتحكي عنه انه يحفظ «ارشيفاً» كاملاً من ملفات الجن حيث يضم كل ملف اسم قبيلته وسنه وديانته والمكانة التي يحتلها في العوالم الغيبية الخ.

وفي ذلك يبدو التشابه غريبا بين «ارشيف سيدي الطيبي بن عبو» «ارشيف دوائر الشرطة والاستخبارات لدى بني البشر».

مشاهير الجن:

يحفل التراث الفلولكلوري في المغرب بالكثير من الحكايا والمعتقدات المرتبطة ببعض مشاهير الجن الذين يحملون صفات شنيعة واسماء غريبة تثير الرعب في نفس من ينطق بها: شمهاروش، عيشة قنديشة، التابعة، الخ,,, والراجح ان تلك المعتقدات هن بقايا معتقدات قديمة ما تزال تزن بثقلها في اللاوعي الجماعي للمغاربة حتى اللحظة الراهنة، ونقدم فيما يلي تعريفاً لبعض مشاهير الجن، وسنستثني منهم «ملوك الجن السبعة» الذين سنعود للحديث عنهم بشكل مستقل.

عيشة قنديشة

من اكثر شخصيات الجان شعبية لدى المغاربة انها «عيشة مولات المرجة» (سيدة المستنقعات) كما تصفها الاغنية الشعبية الذائعة الصيت ولها من الألقاب «لالة عيشة» او«عيشة السودانية» او «عيشة الكناوية» يلجأ اليها المغاربة حتى لقبها الغريب والمخيف: «قنديشة» الذي يجر النطق به لعنة غامضة.

بالنسبة الى الانثربولوجي الفنلندي (وستر مارك) الذي درس اسطورتها بعمق يتعلق الامر باستمرار لمعتقدات تعبدية قديمة، ويربط بين هذه الجنية المهابة الجانب (عشتار) الهة الحب القديمة التي كانت مقدسة لدى شعوب البحر الابيض المتوسط من القرطاجيين والفينيقيين والكنعانيين، حيث الذين كانوا يقيمون على شرفها طقوسا للدعارة المقدسة، وربما ايضا تكون «عيشة قنديشة» هي ملكة السماء عند الساميين القدامى اعتقدوا قبلنا في انها تسكن العيون والانهار والبحار والمناطق الرطبة بشكل عام.

كيف يتمثل المغاربة هذه «الجنية المائة»؟

– تارة يتم تصويرها في شكل ساحرة عجوز شمطاء وحاسدة تقضي مطلق وقتها في حبك الألاعيب لتفريق الازواج وتارة اخرى تأخذ شبها قريبا من «بغلة الروضة» (بغلة المقبرة) فتبدو مثل امرأة فاتنة الجمال تخفي خلف ملابسها نهدين متدليين وقدمين تشبهان حوافز الماعز او الجمال او البغال (بحسب المناطق المغربية).

وكل من تقوده الصدفة في اماكن تواجدها تغريه فينقاد خلفها فاقد الادراك الى حيث مخبؤها من دون ان يستطيع المقاومة وهناك تلتهمه بلا رحمة، بعد ان يضاجعها لتطفئ نار جوعها الدائم للحم ودم البشر.

والطريف في تداول الاسطورة ان تأثيرها لا ينحصر في اوساط العامة فقد كتب عالم الاجتماع المغربي الراحل (بول باسكون) في (اساطير ومعتقدات من المغرب) يحكي كيف ان استاذا اوروبيا للفلسفة في احدى الجامعات المغربية كان يهيِّئ بحثا حول «عيشة قنديشة» قد وجد نفسه مضطرا الى حرق كل ما كتبه حولها وايقاف بحثه ثم مغادرة المغرب، بعدما تعرض لحوادث عدة غامضة ومتلاحقة.

التابعة

من اناث الجن الشريرات هي الاخرى وكما يدل اسمها فإنها حسب الاسطورة «تتبع» الناس بلعنة سوء الحظ (العكس) وفي الاصل هي جنية تزحف فوق الارض الى ان تصادف امرأة تحمل رضيعا على ظهرها فتتسلق قدميها ثم ساقيها حتى تصل الى الظهر فتلتهم الصغير بوحشية.

لكن السيوطي كتاب (الرحمة) يقدم عنها صورة مخالفة (نعود الى الحديث عنها عند الحديث عن امراض الرضع).

بغلة القبور

«بغلة الروضة» (الروضة: المقبرة) او «بغلة القبور» او «عذابة القبور» هي اسطورة قروية تستوطن خيال ساكني القرى المنعزلة خصوصا في اعالي الهضاب والجبال باللهجة البربرية يسمى هذا المخلوق الخرافي «تمغارت نسمدال» بمعنى «عروسة القبور» وهي في تصور العامة بغلة تخرج من المقبرة حين يجن الليل، لتبدأ ركضها المجنون الذي لن تنهيه الا مع تباشير الصباح الاولى.

وفي ظلام الليل تبدو مضيئة بفعل الشرر الهائل الذي يتطاير من عينيها وتحدث حركتها جلبة مرعبة تمزق صمت الليل الموحش فوقع حوافرها وصليل السلاسل الحديدية التي تحملها في عنقها يرعب كل من يلمحها او يصادفها في طريقه.

واذا حدث ان صادفت في تجوالها الليلي رجلا تحمله على ظهرها الى حيث مستقرها في المقبرة وهناك تحفر له قبرا لتدفنه حيا او تأكله والامر مرتبط برغبتها وشهيتها وحسب الاسطورة فإن «بغلة القبور» كانت في وقت سابق من حياتها امرأة ترملت (اصبحت ارملة) ولم تلتزم بتعاليم العرف الاجتماعي الذي يلزمها باحترام «حق الله» اي ان تلبس ثيابا بيضاء طيلة فترة العدة ولا تغادر بيت الزوجية ولا تعاشر رجلا آخر خلال ذلك.

وبسبب عدم التزامها «حق الله» انتقم منها الله فكان جزاؤها اللعنة الابدية التي حولتها الى جنية لها هيئة بغلة تنام النهار مع الموتى وتمضي الليل «تتعذب» وفي بعض المناطق كان الناس يعتقدون ان في امكان «بغلة القبور» ان تتنكر لتدخل البيوت في هيئة قريب او صديق، وتختطف احد افراد الاسرة الى مقبرتها.

جنيات شالة

في داخل انقاض قاعدة الوضوء القديمة في شالة التي تغمرها مياه عين عذبة يطلق عنها سكان عدوتي الرباط وسلا اسم «عين الجنة» حاليا تشكل حوض ماء تناسلت حوله الاساطير وربما ليس ثمة ما يثير فضول زوار قلعة شالة المنزوية عند مكان مشرف على نهر ابي رقراق في العاصمة الرباط، اكثر من اسماك الحنكليس (السمكة الافعى) التي تسبح في الحوض.

فالمشهد المألوف ان يرمي الناس في ذلك الحوض قطع نقود ونتف البيض المسلوق لإطعام تلك الاسماك الاليفة لكن الاسطورة تذهب الى ان تلك السمكات الافعوانية الشكل هي مجرد تمظهرات فقط للجان الذين استوطنوا ذلك الحوض منذ القدم وتحكمهم ملكة هي عبارة عن سمكة حنكليس من نوع خاص جدا، حيث تختلف عن غيرها من الحنكليس بضخامة جسمها ويتدلى من رأسها شعر طويل كما انها تضع في اذنيها حلقتين من ذهب.

هي لم تخرج من مخبئها الاسطوري الا نادرا ـ حسب المعتقد ـ وحدث ذلك اثناء الليالي المقمرة فقط، وليس ذلك، لذلك لم يرها احد كل ليلة حين يلف الظلام اطلال القلعة الرومانية القديمة التي تحولت الى مقبرة للأسرة الملكية المرينية في القرون الوسطى تدب الحياة في كائنات الخفاء فتخرج جحافل الجان من «حوض الجنيات» اسرابا كثيفة مثل النحل لتملأ الفضاء الرطب والمعتم المتعلق على اسراره الابدية.

وفي تلك القلعة التي ظلت فاتنة بغرابتها عبر العصور تقول الاسطورة عن ملكة الجنيات تحرس المنافذ التي تقود عبر قنوات مذهبة من حوض «عين الجزة» الى اعماق الارض السحيقة حيث توجد كنوز سليمان.

المحكمة الكبرى للجان !

لو سألت احدا بالصدفة اليوم، في اي مكان بالمغرب عن معرفته للولي «بوياعمر» فانه سيجيبك على الفور بان ضريحه متخصص في علاج الحمقى والمصروعين بالجان، وحتى ان استحال على من تسأله تحديد موقع ضريح الولي الشهير على خارقة البلد، فانه سوف يتحدث لك عنه وعن كراماته الباهرة بالكثير من الاعجاب.

فمن هو «بوياعمر» هذا، الذي تمنحه الاساطير المحلية مطلق السلطات على عوالم الجان والارواح؟ وما هي طقوس العلاج التي يتداولها احفاده جيلا في اثر جيل؟ وما سر «المحكمة الكبرى للجن» التي تنعقد في ضريحه للفصل في منازعات الانس مع الجان؟

موقع المقام

«بوياعمر» هو عمر بن عبد العزيز بن رحال الكوش, اشهر اولياء المغرب على الاطلاق، اذ يناهز عدد زوار ضريحه المليون زائر سنويا.

يقع ضريحه على بعد 30 كيلو مترا من مدينة قلعة السراغنة (وسط المغرب)، وعلى مسافة ثلاثة كيلو مترات من مركز العطاوية، عبر مسلك طيني تذرعه بلا كلل وعلى مدار ساعات اليوم عربات مجرورة بالدواب.

ويقع الضريح على ضفة نهر تساوت، وهو قبلة للعلاج شهيرة داخل وخارج المغرب، وايضا رحم خصبة لتناسل الاساطير.

وفي كل ليلة، عندما يسود الظلام وتستوطن الوحشة ارجاء منطقة تساوت، وبعد ان يفرغ المؤمنون من صلاة العشاء وتستسلم اجساد المرضى واهلهم للراحة او للنوم، تنبع وسط النهر عين ماء عجيبة ماؤها ليس كالماء، فبياضه الشديد يجعله اشبه ما يكون بالحليب يجري وسط النهر متميزا مثل شريط ابيض طويل, وطوبى لمن يشرب او يلمس جلده، تبشر الاسطورة.

يقول البعض انها تنبع من اعماق النهر كل ليلة بعد صلاة العشاء، ويزعم اخرون ان جريانها يقتصر على الليالي الاربع للموسم السنوي الكبير الذي يلتئم من حوالي الضريح، خلال الايام الاربعة التي تسبق عيد المولد النبوي.

وفي كل الاحوال تتفق الاساطير على ان لذلك الماء المبارك خصائص فريدة تمنح لكل من يشرب منه بعض الجرعات، قدرات ذهنية تسير له سبل النباهة والذكاء او العلاج الشافي المعافي ان كان مريضا.

ولكي يحصل الراغبون على تلك الجرعات الثمينة منه، يرتمي في النهر كل ليلة، خفية عن الانظار، بعض الزوار والمرضى و«الطلبة» (الفقهاء الذين يكتبون التمائم والحروز) واخرون ,,, ويبدأون في سكون الليل تسابقا غامضا وصامتا ينال في اعقابه الاوفر حظا منهم ما يروون به ظمأ الحاجة الى التميز او العلاج بينما يكتفي الاقل حظا منهم بلمس السائل الابيض الهارب، قبل ان يتحلل ويختلط بماء النهر المقدس.

حسب تقديرات الباحثة المغربية خديجة نعموني التي انجزت اطروحة دكتوراه في الانثربولوجيا الاجتماعية حول «بو يا عمر» فان هذا الولي قد يكون ولد خلال العقدين الاخيرين من القرن 16 عشر الميلادي ولكن الغريب انه على شهرته الذائعة الصيت، لا تذكر الاساطير المحلية اي تفاصيل عن طفولته وشبابه، وكل ما يتداول عنه يهم فقط مساره التعليمي وتصوفه بشكل موغل في الاسطورة.

فقد بقي «بو ياعمر» اميا الى حدود سن الاربعين ثم شد الرحال الى زاوية تامكروت الناصرية على ضفاف نهر درعة (جنوب المغرب) وهناك تتلمذ على يد مؤسسها سيدي محمد بن ابراهيم الانصاري وراكم من الكرامات ما جعل شيخه يورثه «دربالته» (اي لباسه الزاهد المرقع) المحملة ببركته، وبفضلها تمضي الاسطورة قائلة، حول بويا عمر رمل الصحاري الى حبات قمح، واظهر في طلب العلم نبوغا غير مسبوق، بحيث استوعب من علوم الباطن والظاهر واصول الدين، خلال شهر واحد ما يكتسبه غيره من طلاب العلم بالزاوية الناصرية في اربعين عاما من الكد والجد.

وبعد وفاة سيدي محمد بن ابراهيم، تولى من بعده خلفه سيدي امحمد بن ناصر امور الزاوية، ومنها مهمة تدريس بوياعمر، فانبهر الشيخ الجديد مثل والده المتوفى بتفوق «الطالب» القادم من ضفاف تساوت على باقي زملائه البالغ عددهم 1400 فمنحه «اجازة» تخول له ان يقيم زاوية يعلم فيها القران للجن والانس، وخلال توديعه لتلميذه النابغة، سلمه سيدي امحمد بن ناصر مرآة هندية «مراية هندية» لها من خصائص السحرية ما يتيح لها علاج مرض التهاب السحايا الشوكية المعروف محليا تحت اسم «اللقوة» ضمن امراض اخرى كثيرة.

وفور عودته من زاوية تامكروت انشأ بوياعمر «محضرة» اي حلقة يجتمع فيها الانس مع الجان لتلاوة القران الكريم، وتأكدت بعد ذلك سلطته المطلقة على كائنات الخفاء، حتى صار في امكانه معالجة «اللقوة» دونما حاجة الى «المراية الهندية» فقام باهدائها – بدوره – الى احد تلامذته المقربين لديه، ويدعى سيدي ادريس، وهو الذي يوجد ضريحه اليوم بنواحي مدينة دمنات، فاصبح هذا الاخير محتكرا لعلاج المس بالجان واستقرت بركة المرآة العجيبة في ضريحه حتى اصبح ملقبا وشهيرا بسيدي ادريس «مول المري» اي صاحب المرآة.

تضيف الاسطورة تاقت المرآة الهندية الى صاحب الكرامات الفريدة بوياعمر الذي فوض اليه «ديوان الصالحين» مطلق السلطات على الجان، وترتعد امامه مخلوقات الخفاء فقررت (المرآة او القوة السحرية التي تسكنها) العودة اليه، هو الذي يحسن استعمال خصائصها العجيبة.

وتقول رواية اولى، ان جنية من اناث الجان استغلت نشوب معركة بين ابنتها وسيدي ادريسي، فاستولت على المرآة وحملتها الى «بو ياعمر» بينما ترى رواية اخرى وامر انتقال او لنقل عودة البركة الى «بو ياعمر» على النحو الذي تنقله الحكاية العجيبة التالية: بعد ان استقرت بركة «المري» في ضريح سيدي ادريس لم يحسن احفاده استعمالها بشكل سليم، فقد بالغوا في التهافت وراء الحصول على مكاسب مالية من معالجة المرضى وبلغ ابتزازهم.

وبلغ بهم الجشع الى ابعد الحدود، حيث لم يراعوا في ذلك حرمات ضريح جدهم سيدي ادريس، وعهده الذي قطعه لبوياعمر حين سلمه المري.

وذات مرة سمحوا ليهودي بان يدخل ضريح سيدي ادريس في مقابل مبلغ مالي كبير من اجل معالجته بواسطة «المري» وبينما كان الضريح غاصا بالمرضى والممسوسين بالجان، تحركت قوة خفية ونقلت في اللحظة نفسها التي دخل فيها اليهودي جميع من كانوا في ضريح سيدي ادريس ومعهم المراية الهندية الى ضريح «بو ياعمر» الذي يبعد عنه مسافة 30 كيلو مترا تقريبا ,.

وما ان وجد المرضى وذووهم انفسهم داخل ضريح «بو ياعمر» حتى اخذوا يبكون ويستنجدون ببركته طالبين الصفح فقد ادركوا من دون شك ان شيئا ما قد حصل، ولابد ان يكون خطيرا، هو الذي اعضب القوة السحرية للمرآة.

ومنذ تلك الحادثة الغامضة تختم الاسطورة استقرت «بركة المري» نهائيا بين اهلها المستحقين لها، والعارفين بقدرها واحتفظ بها احد الشيوخ الثقاة من احفاد بويا عمر في مكان مجهول وآمن ,,, الي ان «وقف عليه الولي» في منامه وطلب منه ان يدفنها سرا في جدار زاوية الضريح المواجهة للقبلة، وكذلك كان فصار «بوياعمر» للابد مطوع الجاني والجانية!

المحكمة الكبري

تقول الاسطورة انه اجتمع في زمن غابر «ديوان الصالحين» المؤلف من اربعة واربعين وليا من كبار اولياء المغرب، كي يوزعوا بينهم التخصصات والكرامات فقر قرارهم باجماع «الديوان» على ان يمنحوا لواحد منهم، هو الولي «بوياعمر» مطلق السلطات على قبائل الجان، وفوضوا اليه المهام الشاقة المرتبطة بالفصل في النزاعات والصدامات التي تحدث بين عالمي الانس والجان منذ بدء الخليقة والى ان يشاء الله، فكان اجتماع ديوان الصالحين ذاك اعلان نشأة محكمة الجان الكبري التي تعقد في صحن الضريح.

هي في معتقد الملايين من عامة الناس التي تعتقد في الكرامات الخارقة لبو يا عمر محكمة تنظر في «الملفات» التي تعرض عليها ككل المحاكم الحقيقية، ولها قضاة وجلادوها من نوع خاص، وهي مهيكلة بدهاء وفق التصور الاسطوري لمحكمة سليمان الحكيم.

وفي فناء الضريح وداخل غرفة يتكدس مرضى وممسوسون بالجان من الجانسين ومن كل الاعمار بعضهم قضى هناك عدة سنوات في انتظار حصوله على «الاذن« من «السيد» (اي من بوياعمر) كي يعود الى اهله.

اطفال صغار يقيمون برفقة امهاتهم المريضات، وامهات انقطعن عن حياتهن الاجتماعية الى جانب الازواج من اجل البقاء مع بناتهن المريضات ومجتمع من المرضى وذويهم ائتلف من حوالي الضريح وحده المرض والامل في العلاج ومحكوم عليه ان يقيم ما شاءت له المحكمة الغيبية ان يقيم الى ان يصدر «الاذن» للفرد منه بنهاية «العلاج» والانصراف للعودة من حيث أتى.

الماء الذي في المرجل النحاسي يغلي فوق لهيب نار قنينة الغاز الصغيرة وسحائب البخار الحار(السبولة) تحدث عند خروجها من فم المرجل صوتا يشبه صغيرا متسارعا «في مواجهة الأنظار المشدوهة للمرضى واهلهم يمد مول المقراج (اي صاحب بركة المرجل) يدا منفعلة الى المقراج ليرفعه من على النار تحدق الاعين القلقة بخوف وامل في ما يصدر عن «الشريف» الذي يتدلى على وجهه شعر رأسه المتراقص وبحركة سريعة تنال اعجاب الحاضرين يفرغ من الماء الساخن درجة الغليان ما يكفي لملء فمه، من دون ان يبدي ادنى تأثر لذلك ثم يقوم ببصقه على رؤوس المرضى القابعين عند قدميه، يعيد الكرة من جديد فتتسابق رؤوس اخرى لنيل «البركة» والجميع يولول في هياج هستيري.

ان «موالين المقراج» (اصحاب بركة الماء الساخن) هم احفاد بو ياعمر المتخصصون في نقل بركته المعالجة الى المرضى من خلال بصق الماء الساخن عليهم، او الاكتفاء بنفث البصاق عليهم، خصوصا حين يتعلق الامر باطفال صغار او رضع لا يتحملون درجة غليان الماء.

فجأة يتعالى في ركن من الضريح الفسيح نشيج بكاء طويل النفس يليه صراخ متقطع وحاد لا البكاء ولا الصراخ يثيران فضول العالم الهائم الذي يضج بجلبته المكان الحمقى مقيدون بسلاسل من ارجلهم ويتجولون بحرية كاقنان من زمن العبيد، هي ليست سلاسل عادية — يقول الشرفاء الرحاليون احفاد بوياعمر – فهي ما ان توضع في اطراف اشد الممسوسين بالجان عنفا حتى يعود اليهم هدوءهم.

ان المقيمين في ضيافة الولي بويا عمر صنفان: صنف ينتظر ان تبث المحكمة الكبرى في «ملفه» مع الجاني الذي «يلبسه» وقد تطول فترة الانتظار او تقصر حسب مشيئة الولي (اي احفاد المسيرون للضريح).

والصنف الثاني من ضيوفه هم اولئك الذين صدر في حقهم حكم يقضي ببقائهم في جوار الضريح لاشهر عديدة او لسنوات حتى!

لكنهم جميعهم منتظرون او محكومون يبدو ان العلاج بطقس التطهر اولا، الذي يقتضي منهم فور الوصول الى تساوت ان يطعموا جوفهم من تراب «السيد» معجونا بماء النهر المقدس.

عندما يمثل مريض امام المحكمة الكبرى ـ تتغير نبرات صوته، لأنه يتكلم بلسان الجاني المعتدي عليه الذي «يسكنه» وتبدأ وقائع المحاكمة الغيبية بطلب الاحفاد من الجاني «التسليم» (اعلان الخضوع) لبويا عمر، والعملية في حقيقتها تقوم على صرع الجان ويختص بها احفاد الولي المعروفون باسم «موالين الاذن» (اصحاب الاذن) وهم المفوض لهم دون غيرهم بمقارعة الجان ومفاوضته بهدف «اخراجه» من الجسد المريض يفعلون ذلك و«بركة» جدهم بويا عمر تحميهم من اذى مخلوقات الخفاء الشريرة، خلال «المحاكمة» اي خلال حصص صرع الجان.

ويتملك الحال أحد «الملبوسين» بالجان، فيتمرغ فوق أرض الضريح, يأخذ صوته نبرات غير عادية، فالجاني يتكلم بلسانه ليرد على استنطاق «مول الاذن», يكشف عن هويته، ثم بعد مفاوضة غريبة يفرض الجاني شروطه «لمغادرة» المريض, وفي أغلب الحالات يطلب كشرط أساسي أن يراق دم قربان (ثور أوكبش، حسب امكانيات المريض) كي يعقد مصالحته مع خصمه والآدمي، ويضيف الى ذلك اشتراطه على المريض ان يقضي مدة معينة بضريح بوياعمر كنوع من العقاب.

بعد حصول الاتفاق الغريب في المحكمة الغيبية، يتدخل «المعلم بوشويشية» وهو من أولياء الجان وجلاد المحكمة، كي يقدم الجاني الماثل أمامها القسم بين يديه، متعهداً بأن يترك المريض بسلام عندما يستوفي هذا الأخير الشروط المفروضة عليه.

لكن قد يحدث الا يكون الجاني «المصروع» من النوع السهار المراس، فيرفض حتى مجرد الاعتراف لبويا عمر بسلطانه على الجان, وهنا يتدخل «المعلم بولحرير» الذي يشغل في تراتبية النظام القضائي الغيبي لبوياعمر، قاضياً على قبائل الجان وحاملاً لخاتم سليمان الذي تهابه الجان, يتدخل بأمر من «مول الإذن» الذي يقود المحاكمة (أي حصة صرع الجان) فيخرج الجاني المتمرد من الأدمي المريض ويسلمه الى «سيدي الشتوي»، وهو جني آخر من خدام المحكمة مهمته كجلاد ان يحرق الجان المتمردين (النواقم).

أما اذا تمكن جني متمرد من الفرار من المحكمة الكبرى، فإن «لمعلم اليزيد»، وهو الجاني فارس المحكمة يقوم بتعقبه لاعتقاله، ثم اعادته الى سلطة الولي بويا عمر كي ينال عقابه.

وفضلاً عن هؤلاء «الخدام» الأربعة، تضم هيكلة محكمة الجان الكبرى ايضاً «الجاني الرباني» مولاي احمد الرحالي، الذي تتحدد مهامه في حماية «موالين الإذن» وهم احفاد بوياعمر المأذون لهم بمقارعة الجان.

ان استعراض تشكيلة المحكمة الغيبية لبوياعمر، يسمح بإبداء ملاحظتين اثنتين على الأقل:

من جهة، تتشابه اسماء خدام المحكمة من أولياء الجان مع الاسماء الآدمية المتداولة (أحمد الرحالي، اليزيد، الشتوي,,,) عكس ما هو معروف عن حمل مشاهير الجان لأسماء غريبة عن النطق المحلي، كشمهاروش وميرا، وغيرها,,, ومن جهة ثانية، نلاحظ ان الألقاب الدرجات تتوزع، بشكل لم تبرره الأساطير، بين «لمعلم» التي يطلقها المغاربة عادة على كل حرفي برع في حرفته وبلغ فيها درجة الاتقان, و«سيدي»: و«مولاي» وهي ألقاب تستعمل «لتشريف» فئة خاصة من الناس,,, حيث «سيدي» تنطق قبل اسم الأشخاص الذين يميزهم علمهم او جاههم عن عامة الناس، بينما «مولاي» تطلق على من ثبت انحدار اصوله من الدوحة النبوية الشريفة, فكيف يحمل الجاني «بولحرير» لقب «لمعلم»، وهو الفقيه القاضي الموكول اليه اقامة العدالة بين قبائل الجان، بينما يحمل جلاد المحكمة (الشتوي) مثلاً، لقب «سيدي» الأكثر تشريفاً؟ ولماذا تتوفر لبعض اولياء الجان مقامات، بنيت قريباً من ضريح بوياعمر، تتم زيارتها واقامة طقوس خاصة فيها كجزء من «زيارة» الولي بوياعمر,,, بينما خدام آخرون ليست لهم مقامات؟

وإذا أخذنا العدد الهائل من الزوار الذين يفدون سنوياً وبلا انقطاع الى الضريح دليلاً على نجاعة اساليب العلاج النفسي والبدني التي يحصلون عليها، فإن السؤال يثور حول السر الذي يجعل بوياعمر يستقطب من الحمقى والمرضى اليائسين اكثر مما تستقبل المصحات العمومية في المغرب.

أسئلة نطرحها دون ان نجيب عنها، لأنها بعض من الألغاز المحيرة التي تقوم عليها محكمة الجان الكبرى في بوياعمر

زواج الجان من الإنس

كان في مدينة مراكش منزل قرر اصحابه تحويله الى حمام عمومي وهم يجهلون انه مسكون بالجان, وعندما ذهبت امرأة شابة متزوجة حديثا للاستحمام فيه، اختفت تحت ماء «البرمة» – اي الصهريج – الذي يتجمع فيه الماء الساخن المخصص للاستحمام الزبائن, وبعد المناداة عليها طفت على سطح ماء الصهريج وتكلمت قليلا ثم عادت للاختفاء مجددا، بمجرد ما حاول الناس الامساك بها.

وقد تم اغلاق هذا الحمام ، وترك لمالكيه الغيبيين!

إن هذه الحكاية التي سمعها الطبيب الفرنسي موشون في مراكش، خلال العقد الاول من القرن العشرين، لا تختلف في شيء من تفاصيلها المثيرة عما يتداوله حتى الساعة الراهنة في اوساط العامة، من غريب الحكايات عن افتتان كائنات الخفاء المذكرة والمؤنثة ببعض بني الانس, وهو افتتان قد يبلغ درجة الوقع فتتراوح نتائجه بين افتضاض بكارة فتاة وهي نائمة من طرف جني من «النواقم»، وتسليط مرض غامض عضال على أخرى لأجل الضغط عليها حتى تقبل بالزواج من الجني الذي «يهيم بها»، حبا، وتقبل بالرحيل للعيش معه حيث ارضه وعشيرته.

معتقدات مغربية

وإذا كان اعتقاد المغاربة في وجود الجن موغلا في القدم، كما رأينا، فإنه كان من الطبيعي ان يثمر ذلك الاعتقاد الذي ترسخ بمرور الزمن، الكثير من المعتقدات الخرافية حول مخلوقات الخفاء.

وقد سعى أسلافنا الى اضفاء طابع اكثر واقعية على الجن، حتى يكونوا قريبين الى تصور العامة، عملا بمنطق التفكير البدائي الذي يرفض بطبعه المجرد لصالح المحسوس, فمنحوهم شخوصا واشكالا اسطورية تجعل منهم كائنات مهجنة لها خصائص تكوينية مشتركة بين البشر والحيوان، وقدرات هائلة على التحول والحلول في الاجسام الحية والجامدة، وتحقيق الخوارق.

الاختلاط

إن الاختلاط القائم بين العالم المرئي وغير المرئي، يفرض التزام كل من بني الانس وبني الجن بقواعد الجوار التي تتضمن حقوق كل طرف, بعض الاحتياطيات الضرورية, لكن مثلما لا ينفع الاحتياط في امور الحب بين البشر فيقع الافتتان بين الناس رجالا ونساء، فقد يحدث ان يقع جني او جنية في هوى واحدة او واحد من بني البشر,,, وهنا المشاكل,,.

وفي تصور العامة، ان الزواج والارتباط العاطفي وقيام علاقة جنسية بين الجن والانس هي امور ممكنة الوقوع، ويستدلون على ذلك بالكثير من الحكايات لتأكيد صحة اقوالهم, ويمثل هذا الاعتقاد امتدادا لمعتقدات باقي الشعوب العربية حول موضوع «عشق الجان».

ولا يخلو الموضوع رغم غرابته الشديدة من طرفة ففي المغرب حيث ما زال البعض يعتقد ان العنة «العجز الجنسي» التي يشكو منها هي من عمل الجن المسلط بأعمال السحر، ينصح بعض الطلبة أولياء الفتيات الجميلات بأن يصنعوا لهن تمائم يحملنها باستمرار كي تقيهن من العين الشريرة ومن اي عملية اغتصاب قد يتعرضن فيها من طرف جني يستهويه جمالهن، فيفقدن بكارة الشرف.

ونعود الى الطبيب موشون – مرة اخرى – الذي ذكر حالة رجل من مراكش كان يعتقد ان جنيا لواطيا كان يسكنه كل ليلة (,,,) ويعلق الطبيب على ذلك بالقول ان الرجل المسكين انما كان مصابا بالبواسير، واكتشف الامر بعد عيادته له.

وعموما يمكن ايجاد ابرز معتقدات المغاربة

الإيجاز

حول العلاقة الحميمة بين الانس والجن فيما يلي :

– يمكن للجن ان يقع في عشق الانس تماما كما يعشق بنو الانسان بعضهم بعضا.

– الجن «النواقم» و«الواعرين» – اي الاشرار – يغتصبون بعض الفتيات اثناء نومهن.

– قد يتزوج الجني من بنات الانس كما قد تتزوج الجنية من بعض ذكور الانس ويتم الزواج بأن يسكن الاول الثاني – بمعنى يحل الجني في جسد الانسي .

– المصاب بالصرع قد يكون متزوجا من الجن «رغم انفه» وعندما يدخل المصروع في نوبة مرض الصرع فان ذلك علامة على شروع الجني في المباشرة الجنسية.

– زواج الجان من الانس لا يثمر في العادة اولادا، أو قد يثمر اولادا من الجن غير مرئيين.

– قد يتزوج الجني من امرأة رغما عنها فيقوم بالانتقام من كل من تقدم لخطبتها حيث يدبر له مصيبة.

– الزواج من الجان يمنح الانسان قدرات خارقة – كالقدرة على قراءة الغيب او علاج الامراض وغيرها.

واذا نحن صدقنا كل ما يتداول حول الموضوع فسنعلم بالضرورة ان من السحرة من يتخذ من بعض بني الجن زوجا له او زوجة, ومنهم من يظل بلا زواج من بني جنسه تلبية لرغبة زوج او زوجة من الجن، وثمة من السحرة من له زوجة واولاد من زواجه من كائنات الخفاء.

لكن المتصوف المغربي ابن الحاج وهو من أبرز مؤلفي مصنفات السحر، ينفي هذه الامكانية حيث يقول ان زواج الانسان من جنية يفقده القدرة على مجامعة بنات جنسه.

الزواج والانتقام

تقدم خديجة نعموني في أطروحتها الجامعية حول بويا عمر، نموذجا لطقس «الصريع الظاهري» عن حالة فتاة عازبة في ربيعها الخامس والعشرين، تشتغل خياطة بالدار البيضاء، وتقول الباحثة ان الشرفاء الرحالين اخبرونها بأنها – مسكونة – من طرف الجني ميمون وزوجته عيشة, وسنكتفي من مشهد الصريع الطويل بالمقطع الذي يهمنا هنا وهو الذي يعترف خلاله الجني باعجابه بالفتاة, وتسجل الباحثة الانثربولوجية باهتمام التغيرات التي تطرأ على صوت الفتاة حين يتقمص صوت الجني.

– وبعد طلب التسليم يبدأ الجني اعترافاته «انا اسكنها بالجدول ولا أريد بها شرا, أنا فقط معجب بها وأريد أعمل معها، ولكنها لا تريدني, لقد اهديتها سلسلة من الذهب فرفضتها، وطلبت منها ان تقدم لي خبزا من دون ملح ورفضت ايضا,,».

– وترد الفتاة مستجيرة بأنها لا تريد الذهب من الجني، ولا الذهاب معه لانه سيسجنها هناك، ليفعل بها ما يريد وانه يطلب منها ان تشرب الدم,, الخ.

إن إهداء الجني او الجنية للانسان سلسلة من الذهب او حين يطلب منها خبزا من دون ملح، في معتقد المغاربة له معنى قاموس لغة الجن، ويفيد بأن الجني او الجنية يعرض على الانسي ان يمكنه من قدرات خارقة تجعله يتفوق على غيره من بني البشر.

وحسب المعتقدات الشائعة، فإن رفض عرض الجن ينتج عنه الحاق مرض بالرافض او الرافضة يكون عضالا.

ومن اهم اعراضه : حمى – شلل – صرع – نزيف – الام في العينين – تشنجات – الخ,, اما في حال الموافقة على طلب الجن، فإن الرجل او المرأة المطلوب للزواج ينبغي عليه ان يقتنص الفرصة ويطلب اي شيء مهما كان خارقا قبل الموافقة، والا ضاعت عليه الفرصة التي لا تعوض.

العشق

وعن عشق الجان وزواجه من بني الانس وما يلي ذلك من مظاهر النعمة او النقمة التي تظهر مفاجئة على بعضهم وسمعنا وقرأنا من الحكايات ما يتخطى عتبة الغرابة ليؤسس لأساطير حية.

أحدهم تحول في وقت وجيز من نادل في مقهى الى ساحر معالج مشهور، والسر كما افشى لبعض معارفه، انما يكمن في زواجه من جنية اشترطت عليه قبل سنوات قليلة الا يتزوج عليها من آدمية، وهو يعيش فعلا حياة عزوبة وثراء في احد المراكز الحضرية الصغرى باقليم الجديدة.

وفي رسالة نشرها ملحق من القلب – الذي تنشر فيه جريدة الاحداث المغربية مشاكل الشباب – قبل اشهر كتب شاب ليشتكي للقراء من تسلط جني عليه، وقال انه احال حياته العائلية الى جحيم منذ وقوعه – الجني – في هوى زوجة المشتكي.

ويحكي الشاب في مرارة واستسلام ان الجني المغتصب – يختلي – كل مساء بالزوجة في غرفة النوم ويهدده من خلف الستار بأن ينزل به أوخم العواقب ان هو لم يطلق زوجته كي يتمكن الجني من الزواج بها,.

ونكتفي بهذين النموذجين عن حكايات الوهم، لنتساءل : كيف تبدو الحياة الزوجية للبشر مع الجن في تصور العامة؟

يبدو ان الانسان المتزوج من الجان – رجلا كان او امرأة – ميالا الى العزلة، منغلقا على نفسه ويكلم نفسه دائما, وتؤول نوبات الصرع لدى البعض على أنها لحظات المجامعة الجنسية, كما يستدل بوقوع الرجل اثناء النوبة، على بطنه بينما تقع المرأة على ظــهرها فوق الارض عندما تنتابها نوبة صرع.

ولأن هاتين الوضعيتين هما اللتان يتخذهما كل من الرجل والمرأة خلال الجماع – المرأة تحت والرجل فوق – فليس أبسط من تأويل لحظات الصرع على أنها لحظات المجامعة الجنسية.

ولا ينتج عن الزواج من الجن اطفال او على الاقل لن يكونوا آدميين، اي لن يكونوا مرئيين، كما اسلفنا.

وعندما يتوفى «الشريك» الجني يختلف مصير زوجه او زوجته، بحسب ما يعتقد, فبينما يكون مصير الآدمية المتزوجة من جني اللعنة الازلية والحياة في عوالم الجن السفلي، نجد مصير الارمل الذي يفقد زوجته الجنية يحظى بتعامل مختلف, فالجنية حين تموت تأخذ معها زوجها وابناءها الى حيث قبيلتها كي يحضروا مراسيم دفنها.

ومن حق اهلها أن يروا ابناءها متى شاءوا كما ترث العائلة من الجنية صندوقا يجد فيه الزوج الابنــــاء كل ما يكفي لعيــشهم على الارض.

ملوك الجان السبعة

بعد ان عرضنا المكانة الاساسية التي يحتلها الجان في عالم السحر والسحرة، يقودنا مجرى الحديث بالضرورة الى طرق موضوع ملوك الجان، الذين يلعبون حتى وقتنا الراهن ـ دورا اساسيا في المعتقدات والممارسات السحرية بالمغرب، حيث اقيمت لبعضهم اضرحة ومزارات يتبرك منها الناس وتقام فيها طقوس غريبة تمزج السحري مع الديني كما تدخل اسماء اولئك «الملوك» في اعداد جداول سحرية شديدة المفعول وتقام على شرفهم حفلات طقوسية خاصة في مناسبات محددة تتضمنها يومية السحرة المحترفين.

ملوك الخفاء

ملوك الجان في التراث السحري المتداول، الشفوي والمكتوب هم موضوع خلاف آخر تضاربت في شأنه الآراء والاتجاهات فمرة نجدهم خمسة بأسماء آدمية مذكرة واخرى مؤنثة ومرة ستة او اربعة واربعون تنقص اسماؤهم او تزيد بحسب السحرة او المناطق المغربية.

ولكن الرقم سبعة ذي الخصائص السحرية الشهيرة هو الذي يعود بكثرة، ويحصر ملوك الجان في المذهب، مرة الاحمر، برقان، شمهورش، الابيض وميمون وفيما عدا اسمي شمهورش ومرة الغريبين عن النطق المغربي العربي والامازيغي فإن الاسماء الخمسة الاخرى معروفة ومتداولة في المجتمع المغربي بكثرة كأسماء لافراد.

وقد عرف اسم ملك الجان (مرة) تحريفا متواليا طال حتى جنسه الذي تحول حسب الاسطورة من الذكورة الى الانوثة, فحسب البوني في مصنفه منبع اصول الحكمة فإن اسمه كان هو الحارث بن مرة لكننا نجده تحول الى (مراته) ان (لاله) لفظ تشريف يسبق عادة اسماء النسوة ذوات النسب المتحدر في اعلى الشجرة من الدوحة النبوية الشريفة.

وحسب المعتقد فإن (لالة ميرة) تنال في توزيع الادوار بين ملوك الجان السبعة بركة استقراء مكنون النفس البشرية الغامضة وكل ما يرتبط بعالم الغيب ولذلك تقام لتلك الملكة المهابة الذكر حفلات خاصة كي تحضر وتدخل في جسد وتسرع في كشف اسرار النسوة المحيطات بها.

اما شمهورش الذي تطلق عليه العامة اسم شمهاروش او سيدي شمهاروش الطيار فشهرته تتجاوز حدود المغرب الى الشمال الافريقي وربما مصدرها ـ اضافة الى غرابة الاسم ـ كونه الوحيد من الملوك السبعة الذي خصص له مقام مقدس معروف.

ويعتقد الناس في جنوب المغرب (سوس) انه هو الذي يخرج من منابعها كل الانهار والاودية التي تخترق بلادهم وهو الذي يقود مجاري المياه العذبة في تلك المناطق شبه القاحلة، لتروي الأرض والبشر والدواب,,.

العامة

واعتبارا للمكانة المهمة التي يحظى بها لدى العامة فقد اقيم لهذا الجني الملك مزار عند قدم جبل توبقال في الاطلس الكبير، الذي يعتبر اعلى قمة جبلية بالمغرب,,, هل هو مكر المصادفة ام تراه نداء الأعالي، ما جعل (سيدي شمهاروش) ينسحب نحو تلك المغارة المحاطة بنقط تجمع مياه الثلوج والامطار والجبال المتوحشة.

وحسب الاسطورة فإنه انسحب الى حيث ضريحه الآن ليمضي هناك القرون الاخيرة من عمره الطويل.

وينبني تقدير الطيب الفرنسي على تصريحات الفقهاء السحرة الذين اخبروه (في 1910) ان الطلاسم والجداول التي تتضمن اسم شمهاروش فقدت مفعولها السحري، وانهم حين سألوا عن سبب ذلك بعض الجن، اخبروهم بأن الملك اي شمهاروش قد مات منذ سنوات.

وقد كان سكان الجبل والهضاب القريبة من ضريح سيدي شمهاروش يجتمعون حول المغارة خلال مواسم القيظ (السمايم) كل عام خلال الفترة المراوحة بين اواخر يوليو واواخر غشت ليقيموا له موسما تذبح خلاله ثيران سوداء اللون (رمز الفحولة والقوة) ولكن العادة جرت ان يغادروا مسرعين مكان التئام الموسم كل يوم وقت حلول صلاة العصر الى مكان بعيد عن المغارة, وكل من بقي هناك سوف ينال من غضب خدام الملك انتقاما شديدا، حيث تتهاطل عليه سحب الغبار والحجارة من دون ان يرى مصدرها.

فكل يوم في اوان العصر، يصبح الجبل كله ملكا للجان المقيمين على خدمة ملكهم المتوفى سيدي شمهاروش.

المصنفات

وتذهب مصنفات التراث السحري المكتوب الى ان لكل واحد من ملوك الجن ابناء واتباعا يقطنون في اماكن محددة وهكذا فللملك الابيض (ميمون الابيض) بنت اسمها (شمس القراميد) ويقطن ابناء الملك الاحمر المياه السطحية.

اما (بنو قماقم) فيسكنون الجبال العالية وعيون الماء الباطنية وهكذا، وفي زعم السحرة ان لكل واحد من ملوك الجان السبعة لونا خاصا يتوسل اليه به فبالنسبة لميمون (الكناوي) لونه الاسود والاصفر لميرة الخ، ولذلك ترفع الرايات وتلتحف الاجسام بأثواب من لون واحد هو لون الملك المراد دعوته او التشفع بسلطته على ممالك الجن اثناء حفلات خاصة.

كما يقتسم ملوك الجن ايام الاسبوع، لكل واحد منهم سلطة على يوم محدد ففي زعم كتب السحر دائما ان يوم الاثنين يقع تحت سلطة (ميرة) والثلاثاء تحت سلطة الاحمر بينما الاربعاء يحكم برقان والخميس تحت سلطة شمهروش واما الجمعة والسبت والاحد فعلى التوالي تحت سلطة الابيض وميمون الكناوي والمذهب ويوضح جدول دعوة الشمس المستعمل على نطاق واسع في صنع جداول اخرى انطلاقا من مكوناته السحرية الاساسية تقسيمات اخرى تمنح لكل واحد من ملوك الجن السبعة سلطة على كوكب او حرف من الحروف الابجدية الخ

ومن تجليات الاعتقاد واسع الانتشار في قداسة ملوك الجن ان الكثير من الاغاني الشعبية تردد بعض اسمائها مسبوقة بعبارات التقديس للأميرة او سيدي ميمون الكناوي في اغاني بعض المجموعات مثلا.

كما تنظم حفلات مغلقة على شرفهم، توسلا لمساعدتهم في قضاء اغراض اجتماعية او طلبا للشفاء من مرض استعصى على العلاج.

«الحضرة» وليمة طقوسية

في كل مدن المغرب اليوم يوجد اتباع طائفة (كناوة) التي يسميها رجال الدين المتشددون طائفة الشيطان والسبب في اطلاق هذه التسمية المخيفة هو ما يلاحظ على كناوة من ممارسة طقوس (الدردبة) او (الحضرة) التي هي حفلة على شرف ملوك الجان، وخصوصا منهم (سيدي ميمون الكناوي) الذي هو المشرف الروحي على الطائفة.

و«الحضرة» هي احتفال طقوسي يشبه حفلات الزار في مصر، يجري تنظيمها في مواعيد سنوية محددة كعيد المولد النبوي وليلة القدر او خلال شهر شعبان كما يمكن ان تنظم خارج تلك المواعيد بطلب من ميسوري الحال او بأمر من (عريفة) وهي المرأة التي تتوافر لها سلطة التوسط لدى الجن.

وتقام الحضرة داخل فضاء مغلق وحميمي، من اجل تخليص المرضى الممسوكين بالجن، الذي تسبب لهم بهذا الشكل او ذاك في متاعب صحية او اجتماعية.

«الحضرة» ليست بهذا المعنى حفلا لصرع الجن، لأن «الصريع» يتميز بالتعامل العنيف مع المرضى (ومن خلالهم مع الجن) بينما الحضرة هي طقوس احتفالية اشبه ما تكون بعرس صغير يقام على شرف الجن و«سادتهم» وتكون خلالها (العريفة) العرافة هي نجم الحفل وسيدته.

وتتم برمجة طقوس الحضرة وفق تسلسل منظم يسري على بضعة ايام او يوم واحد حسب الحالات و«الحضرة» تمارس في المغرب خلال بعض المناسبات الدينية كعيد المولد وشعبان (في هذه الحالة تسمى «شعبانة» وتتم وفق النموذج التالي:

في اليوم الاول، تلبس (العريفة) (وهي منظمة الحفل) ثوبا ابيض و«تنقش» يديها بالحناء وتجلس وسط الحفل ومن حولها تدق الطبول وتنشد الامداح النبوية وشيئا فشيئا يرتفع ايقاع الرقص الى ان يفقد الحشد البشري زمام التحكم في النفس وعند نهاية الحفل تنفس الحاضرات عن رغباتهن المكبوتة عبر شحنات «الجذبة».

حين يعود الهدوء يتم ذبح دجاجة فوق رأس العرافة التي تشرب من الدم الحار المنساب عليها ثم تمسح فمها بمنديل ابيض لم يستعمل قط من قبل.

وخلال اليوم الثاني من «الحضرة» يتم ذبح عنزة سوداء اللون (القوة السحرية للون الاسود) وترتدي العرافة ثوبا بلون اصفر (الاصفر هو لون «ميرة» كما رأينا) ويهتز الحاضرون على وقع دق الطبول والاناشيد الصادحة في ترديد موحد: (اللاميرة هاك الجاوي، هاك البخور) ثم توزع في اثر ذلك اكلة خاصة بالمناسبة تسمى (الحلو والمسوس) وهي وجبة دجاج مهيئة بتوابل خاصة ومن دون ملح لأن الجان الذي سيأكل» منها لا يحب الملح يتناول جميع المحتفلين حصتهم من الحلو والمسوس وتدهن الحاضرات به اجسامهن كما ترش اركان البيت الذي تقام به «الحضرة» بهذا الاكل «اطعاما» للجن منه بالمجان بينما يضع كل من تناول حصته ممن بين الحاضرين مقابلا ماليا في اناء خاص يطاف به عليهم.

وفي اليوم الثالث من «الحضرة» تلبس العرافة (وهي عروس الحفل) ثوبا احمر (وهو اللون الخاص بملك الجن الاحمر) ويوزع على الحضور القليل من الحليب والتمر والجوز في مقابل مقادير مالية (دائما) يضعها كل واحدة فوق اناء خاص ثم يردد الجميع بعد ان يشتد هيجان الحشد اناشيد على شرف (مول الاحمر سدي حمر).

اما اليوم الرابع والاخير من ايام الحضرة فيخصص لـ «حلان المائدة» (فتح المائدة) وليس يعني فتح المائدة سوى تقديم الاتعاب للعرافة في شكل اموال وهدايا يقدمها لها المشاركون في الحفل شكرا وعرفانا.

والذي سبق له ان عاش اجواء ليلة من ليالي الحضرة كان شاهدا من دون شك على حالات فقدان الشعور الهذياني التي تتملك بعض النسوة في غمرة الرقص المحموم فيسقطن والشعر منسدل يكنس الارض وهن يتمرغن في هذيان يجري تأويله من قبل العرافة بأن الجن يقاوم الخروج, وتأمر اهل «المجذوبة» بعدم الاقتراب منها تجنبا للأذى ومن دون شك فإن للإيقاعات الطبلية المضبوطة دورا اكيدا في اطلاق القيود النفسية التي تكبل النساء فيندفعن نحو حلبة الرقص المجنون الى حين إفراغ آخر شحناتهن العصبية ثم ينهرن.

القرابين

وقد كانت عادات تقديم القرابين لملوك الجن و«سادتها» تتخذ اشكالا احتفالية اكثر سفورا الى حدود ماض قريب فقد اورد سالمون ان مريدي سيدي بلال الحبشي في طنجة (وهم من اتباع الطرق الكناوية قدموا من سوس) كانوا في بداية القرن العشرين يحيون طقوس تقديم هدايا الفول الى «رأس المول» قرب الاحجار المقطوعة منطقة في ساحل طنجة بعد ان يتم تبييضها بالجير لأنها «مسكونة» بجن البحر وكانوا يسوقون علانية الى هناك ثورا وجديا وهم يحملون شموعا موقدة في وضح النهار ويرقصون مع ترديد الصلاة على النبي ويرمون الفول الى البحر ثم يذبحون القرابين التي يذهبون لأكل لحمها عند احد اتباعهم يكون ـ ما امكن ذلك ـ احمق او مجنونا ثم بعد ذلك ينصرفون للرقص طوال الليل اما الجن (جان البحر الذي كانت الطقوس المذكورة تقام لتقديسهم) فأسماؤهم كانت: سيدي حمو سيدي موسى، للاميمونة، جميلة، عيشة ورقية».

وما زالت تمارس طقوس شبيهة بما ذكرنا حتى اليوم في بعض اضرحة المدن الساحلية لكن بشكل اقل سفورا, ففي ضريح سيدي عبدالرحمن بالدار البيضاء مثلا يتم ذبح الديكة، التي تحمل مواصفات خاصة ورميها في البحر قربانا لتهدئة غضب «الجنون البحريين» وشدة وطأتهم على المرض.

وعندما لا تفيد الطقوس الاحتفالية ولا القرابين المقدمة في تهدئة الجان و«اخراجه» من مساكنه الآدمية ينصح المريض باللجوء الى محكمة الجن الكبرى في (بويا عمر) باقليم قلعة السراغنة، وهي محكمة غيبية تمنحها الاسطورة مطلق الصلاحيات والسلطات في فض النزاعات بين الانس والجان، بشكل سلمي.

الجان الحامي / الجان المؤذي

في أحاديث العامة، يجري الحديث عادة عن الجنّ كمصدر شرّ وأذى, لكن في بعض الحالات يتم اللجوء الى مخلوقات الخفاء للاستعانة بــ «خدماتها» في تحقيق بعض الأغراض, فالجن يمكن – أن يكون مؤذياً أو حامياً ومساعداً – بحسب الظروف والحالات,,.

الجان أصـل الـمـصائـب كـلـهـا!

يقول فقيه عشاب من مدينة الرباط: «ان الأذى الذي يلحق الانسانَ هو ناتج عن الجان، مسخر من لدن الفقيه أو النفاثات «العجائز»، فالجن يدق العظم، ويشرب الدم، وينهك الجسد، ويخرب الدور، ويهدم القصور، ويعمّر القبور, وهذا النوع من الجان يوجد بالقرب من عين البحر الأزرق، وعندما يسخره أحدهم لالحاق الأذى، فانه يسقي الضحية من هذا الماء، فلا يشفيه من أذاه «طالب» ولا طبيب الا اذا قضى الله أمره».

ان هذا النموذج من أحاديث الوهم والخرافة كاف لكشف الأساليب التضليلية والترهيبية المحملة بمغالطات تناقض أبسط حقائق العلوم الطبية والجغرافية وغيرها,, والكثير مما تحفل به مصنفات السحر الصفراء، يورد أحاديث غريبة عن مخلوقات سر وجودها يكمن في الحاق الأذى بالبشر، من دون أدنى سبب, ولا يتردد تجار الدجل في حشو رؤوس العامة بها، قصد ابتزازهم.

انواع الجان المنتقم

كيف ولماذا اذن، يعتدي الجان على الناس؟ وكيف يمكن للانسان أن يتفادى أذاهم؟

– بحسب الاعتقاد الشائع، فان اعتداء الجان يكون في واحدة من حالات ثلاث:

أن يكون الجني من صنف الجان «النواقم» أي الفكرة المتمردين، فيأتي اعتداؤه مجانيا على بني البشر، وبدون سبب واضح.

– أو قد يكون الجني «مسخرا» لالحاق الأذى بواسطة «جدول» يصنعه الفقيه الساحر بناء على طلب من طرف جهة ماّ.

ويتم دفنه (الجدول السحري) في ركن مجهول من مقبرة مهجورة (الروضة المنسية).

وبحسب ادعاء السحرة، فان هذا النوع من «الديار» (أي العمل السحري المؤذي) هو أخطر ما يمكن أن يلحق الانسان نظرا لصعوبة التعرف على مكان دفن الجدول، وبالتالي استخراجه منه وابطال مفعوله,

ثالث حالات الاعتداء، هي التي تأتي كرد فعل انتقامي من الجان على أذى لحقهم (عن قصد أو بغير قصد) من طرف انسان.

ويعتقد المغاربة أن أمراض الصرع وفقدان الذاكرة وانفصام الشخصية وشلل العصب الوجهي (اللقوة)، والثقاف، والتجرية (الحاق نزيف حاد بامرأة خلال فترة العادة الشهرية)، والتمريض (اصابة شخص بمرض)، و«التعريض» (أي افشال عمل أو مشروع يقوم به عدو أو غريم بأعمال السحر)، وغيرها من الأمراض كلها من أعمال الجان الشريرة.

وقد بلغ الاعتقاد في مسؤولية الجان عن كل ما يصيب البشر من الأمراض الى حد تسمية المغاربة لأمراض معينة بأسماء الجان، الذين يعتقدون في مسؤولية مخلوقات الخفاء عن اصابتهم بها.

ففي دراسة قديمة كتبها الباحث الفرنسي «لاوست» حول بعض «الأسماء» البربرية للغول والغولة»، عثرنا على اشارة عابرة مفادها أن كلمة «بوزلوم» التي يطلقها المغاربة ـ عادة ـ على أمراض الروماتيزم,,, وخصوصا منها النوع المعروف، كانت في الأصل تسمية أطلقتها بعض القبائل البربريةSCIATIQUE تحت اسم طبياًّ المغربية كبني مكيلد وزمور، على ما اعتقدت في أنه الجني الذي يصيب البشر بذلك المرض,

وتستعمل العامة للتحرز من أذى الجان أحجبة أو مواد واقية أخرى كالملح، «الذي لا يحبه الجان»، كما يعتقد, ويعلق أو يحمل في تلافيف الثياب، أو يوضع قليل منه تحت وسادة النوم, كما يستعمل أي شيء مصنوع من الحديد (لاعتقاد الناس أن الجان لا يحب الحديد، أو يخشاه!).

ولذلك نرى الناس يسارعون كلما سقط مصاب بالصرع في الطريق العام، الى وضع حاملة مفاتيح بين أصابع يده، اعتقادا منهم أن المصروع مصاب بمس من الجان، وأن كل ما هو مصنوع من الحديد يطرد الجان!

رؤية الجان وتسخيره!

في زعم السحرة أنه تمكن رؤية الجان تحت شروط خاصة.

ويقول الفقهاء الذين يقومون بعمليات «صرع» الجان، انهم يرون صورة الجني على وجه المريض «المسكون به»، حينما يشددون الخناق عليه.

ومن أطراف ما قرأنا في الكتب الصفراء ما أورده السيوطي في كتاب (الرحمة )، وهو من أكثر كتب السحر رواجا بالمغرب، حيث يقدم من ضمن وصفاته الغريبة واحدة يقول انها تسمح برؤية الجان (كذا!).

واذ نذكرها هنا، فمن أجل الكشف عن أساليب الدجل والخرافة، ولا ننصح القارئ بتجريبها,فمن شأن ذلك أن يجعله يفقد بصره، ربما، بدل رؤية الجان!

يقول السيوطي: «,,,من أراد أن ينظر الجان ويعرف مكانهم، فليكتحل بمرارة سنور (قط) أسود ومرارة دجاجة سوداء، (لنلاحظ هنا مرة أخرى القيمة السحرية للّون الأسود) يخلطهم جميعا ويكتحل بهم (يضعه على عينيه كالكحل)، فانه يرى الجان ويخبروه بما يريد,,,».

وصفة قديمة

وهناك وصفة أخرى كانت تمارس بالمغرب، حسب ما ذكر «ادموند دوتيه»، وتتضمن طقوسا سحرية لا تقل غرابة عن السابقة, وبحسبها فانه من أجل «دعوة الجان» ينبغي القيام بوصفة سحرية تفصيلها كما يلي:

تم احضار الحناء والملح وسميد القمح من عند سبع نساء (نلاحظ مرة أخرى القدرة السحرية للرقم سبعة) ولدن لأول مرة، ولم يسبق لكل واحدة منهن الزواج سوى من زوج واحد, تخلط هذه العناصر جميعاً وتعطر بــ «الجاوي» الذي تم احراقه في «مهراز» (مدق) ويحمل الخليط المحصل عليه من العملية الى الحمام والى المجزرة وسوق الحبوب وبالقرب من عيون الماء والآبار وعند تقاطع الطرقات، والى كل الأماكن الأخرى التي يطرقها الجان.

ويرمي في كل مكان شيء من هذا الخليط، مع تلاوة دعاء خاص لاستحضار الجان ودعوته الى حضور موعد في مكان وزمان يتم تحديد هما له.

وفي المساء، يجلس الساحر (أو الساحرة) مع الزبون لانتظار حضور الجني المدعو, فيحل في أحد أركان المنزل عند الموعد ويظهر, ويمكن أن يَطلُب منه الداعي ما يشاء.

خـلـق الجان الـحـامـي

ومن العادات القديمة التي اشتهرت في المغرب والتي لا تزال تمارس على نحو واسع حتى اليوم؛ أن يقدم شخص قربانا عند بداية أو نهاية الأشغال لتشييد منزله أو بناية مقاولته.

ويؤكل لحم القربان، الذي يكون اما خروفاً أو دجاجاً بحسب الامكانيات المالية، من طرف صاحب البيت وعمال البناء، بعد طهيه.

ويُعتقد أن الجان تتغذى بدماء القربان التي سالت في المجاري, وبهذا المعنى يكون القربان وجبة يشترك في تناولها الانس والجن, وفي تقاليد المغاربة أن مشاركة أحد في تناول الطعام تعني خلق أواصر مودة وتقارب معه, ومنه نفهم ـ ربما ـ أن «قربان البناء» هذا انما يهدف الى خلق مودة بين صاحب البيت والجن الذي سيسكنه.

وقد ذهب الكثير من علماء الاثنوغرافيا الى أن هذا النوع من القرابين انما يروم خلق جني، من روح القربان التي أُزهقت بعد الذبح حتى يتكلف بحماية البيت المبني,فيصبح البناء – بحسب هذا التصور- «مسكونا» من طرف جني يحميه!

ومن العادات الأخرى الشائعة، أن يقدم الداخل الجديد على بيت بهدف الاقامة به، بعض الهدايا توددا للجن الذي يسكنه, وتندرج هذه الطقوس ضمن ما يعرف عندنا بـ «طلب التسليم» أي اظهار الخضوع للقوى الخفية التي «تسكن المكان» (بتسكين الميم والنون).

وتختلف قيمة ونوع القربان المقدم في هذه الحالة اختلافا كبيرا بحسب الوضع الاجتماعي للمقيم الجديد وبحسب المناطق, فقد يذبح كبشا أو دجاجا، ليريق دمه في المجاري أو يفرغ فيها كيس ملح صغير أو مواد غذائية سائلة أخرى، تفرغ في نفس المكان كالزيت أو الحليب وغيرها,,.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن