هكذا وقع مخيم اليرموك في يّد النصرة والنظام وشيوخ المصالحة

وكالات /الوطن اليوم 

قد يبدو بيان المكتب الإغاثي في مخيم اليرموك الصادر أمس عادياً جداً ولا يحمل أي دلالات عسكرية أو سياسية. إلا أن بعض التمعن في فقراته، سيكشف كم وصل المشهد في المخيم إلى نقطة لم تكن متوقعة على الإطلاق، إذ تخفي سطور البيان تحالفا بين متناقضات كبيرة على المخيم، وليس من أجله، سببها المساعدات الغذائية، وهدفها ترسيخ سلطة الأمر الواقع، سلطة جبهة النصرة، مع القضاء التام على آخر هوية فلسطينية لمخيم يسمى ‘عاصمة الشتات’.

سبق البيان اجتماع وقع على اتفاق نتج عنه، المكتب الإغاثي في المخيم، وكتائب المصالحة في ببيلا وبيت سحم ويلدا. هؤلاء حملوا الأقلام، لكن من وقع حقاً هما النظام السوري من جهة، و جبهة النصرة من جهة أخرى.

إلى الخلف

حتى العشرين من نيسان/ أبريل، استمرت البيانات والتصريحات الرنانة التي تعد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)  بالقصاص والرد العسكري، وأخبار عن نوايا استرداد المخيم، وحملات عسكرية ستقوم خلال ساعات، والنظام سيجمع المتطوعين، والفصائل ستقاتل، ومنظمة التحرير ستوافق على عمل عسكري، وكتائب جنوب دمشق أعلنت الحرب من أجل اليرموك، وقامت غرف العمليات العسكرية في الشمال والشرق من أجل المخيم، ودقت طبول الحرب، واستنفر الجنود. باستثناء اشتباكات في شارع الزين جنوباً، ومناوشات في ساحة الريجة شمالاً، ومثلها في شارع المدراس شرقاً، لم تقم أي معركة، أو التحام. فشل ‘جيش الإنقاذ’ حتى في التشكل، ورسمت خطوط التماس بشكل نهائي في المخيم منذ دخول تنظيم داعش، وتم الأمر.

تقاسمت جبهة النصرة مع تنظيم ‘داعش’ السيطرة على شوارع المخيم، من الشمال ثانوية اليرموك وساحة الريجة، ومن الجنوب حي الزين والمنطقة المحاذية ليلدا والحجر الأسود. تقريباً لا اشتباكات سوى تلك التي توصف بمحاولات تسلل من التنظيم تصدها كتائب مختلفة، كتلك التي وقعت في أول أيام الشهر الجاري في حي الزين وصدها لواء الإسلام، فيما أحرق تنظيم داعش أراضي زراعية بين حي الزين، معقل التنظيم ذاته، ويلدا حيث يرابط لواء الإسلام، من دون أي اشتباكات تذكر.

الأكناف، المخذولون المتخاذلون

حتى منتصف نيسان/ أبريل، كان لا يزال عناصر ومقاتلو أكناف بيت المقدس يقاتلون في المخيم وحدهم، من دون أي دعم سياسي أو عسكري أو حتى إعلامي. بقي المقاتلون الفلسطينيون في التشكيل العسكري الفلسطيني الأخير، ثابتين في مساحة ضيقة من مخيم اليرموك، وأعلنت حركة المقاومة الإسلامية  (حماس)  أن لا علاقة لها بهم، وأعلنوا هم الموقف ذاته.

وطلب داعش، عبر النصرة في مفاوضات غير مباشرة، رؤوس قيادات الأكناف تحت سكاكينها، وطلب النظام صلحاً معهم بعد سنوات من الصراع.

رفضت الأكناف الطلبين من الجهتين، وصمد المقاتلون، وأصدر أبو همام بيانات صوتية ومكتوبة يعدُ بتحرير اليرموك، وبعودة الأهالي، وانتظر المخيم.

اليوم، لا أكناف في المخيم. في يلدا عشرات من المقاتلين بلا أي دعم أو مساندة، وقيادات من ذات الكتائب وصلت تركيا ورمت البنادق، وقسم آخر وقع أوراق الصلح مع النظام، وأتم إجراءات ‘تسوية الوضع’ وفق المصطلح الرسمي الذي يستخدمه النظام للتائبين عن قتاله. وانتهت الحالة العسكرية الفلسطينية في مخيم اليرموك بشكل تام، بعد سنوات كانت فيها أكناف بيت المقدس تمثل المقاتل الفلسطيني الوطني الوحيد الذي يرفع بندقية من أجل المخيم وبلا أجندة خارجية.

النصرة خطة محكمة من أجل ‘الكرتونة’

لم تُسهل جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة دخول تنظيم داعش’ للمخيم في الأول من نيسان/ أبريل فحسب، بل ساعدته على تثبيت مواقعه، فقاتلت إلى جانبه وسلمته أسماء الناشطين الإغاثيين والإعلاميين والمدنيين والسياسيين فيه.

وقبل ذلك، كانت قد اتهمت بتنفذ عمليات اغتيال أو بالتستر على علميات من ذات النوع بحق أربعة عشر قائداً وإعلامياً وسياسياً في مخيم اليرموك، فتركتهم إما لداعش أو للنظام السوري. وبرحيل هؤلاء فقد المخيم قامات وطنية كان يحتاجها للحفاظ على روحه المستقلة، الحالة النادرة في كل سوريا، القرار الذي لا يتبع إلا لحاجة المدني المحاصر.

كانت النصرة قد وافقت على الاتفاق الأولي الذي كان سيصبح رسمياً في الثالث من نسيان. اتفاق تحييد المخيم كان ينص على استمرار دخول المساعدات من جهة يلدا، وعلى عودة عدد كبير من سكان اليرموك إليه. ولم يكن النظام بموجب ذات الاتفاق سيدخل المخيم لا عسكرياً ولا سياسياً، وستقل سطوة الحصار على السكان، لكن النصرة رأت في الاتفاق نهاية حتمية لوجودها في اليرموك في ثلاث نقاط:

1- بعودة المدنيين إلى المخيم فإن كتائب أكناف بين المقدس التي لم تكن رفعت سلاحاً بوجه النصرة بعد ستظهر كبطلة في عيون السكان المحليين، وسيزداد تعدادها مع مدنيين قد يلتحقون بالفصيل المقاتل؛

2- في حال استمرار توزع المساعدات من النقطة الجديدة، أي يلدا، فلا حصة أبداً للنصرة التي لا تتمتع حتى ذلك التاريخ بأي وجود عسكري قريب من النقطة، وستبقى محصورة بين ما يعرف بكتائب المصالحة في يلدا وببيلا والأكناف في المخيم وداعش في الحجر الأسود؛

3- لم تظهر أي نية حتي الثلاثين من آذار لتعطيل الاتفاق لدى أي من الأطراف المعتادة على ذلك مثل النظام أو ميليشياته، وحتى علمية اغتيال أبو صهيب يحيى حوارني، التي نفذتها النصرة في ذلك اليوم، لم تؤثر على سير الاتفاق فكن لا بد من تعطيله.

دخل تنظيم الدولة من الجنوب من مناطق سيطرة النصرة التي سرعان ما قاتلت معه، وانتهى الأمر بسيطرة عسكرية شبه كاملة على مخيم اليرموك، وبقي أمامها الآن، أي النصرة، تنظيم الأمور في اليرموك الذي بات أرضاً ممهدة لا مقاومة فيها.

كلنا نصرة ‘صدر وأفهم علناً’

أصدر المكتب الأغاثي في مخيم اليرموك ‘2 حزيران 2015’ بياناً حصر فيه توزيع المساعدات على الفلسطينيين في المخيم وخارجه، يلدا وبيت سحم وببيلا، بنفسه فقط، ومنع التوزيع إلا بموجب بطاقة صادرة عنه، مسمياً المستودعات التي تتم منها عملية التوزيع، وجميعها تتبع للشيخ صالح الخطيب، شيخ المصالحة الوطنية في يلدا.

وختم البيان محذراً أي منظمة من تجاوز قراره بعبارة غامضة: ‘أي مخالفة للشروط السابقة من قبل أي مؤسسة إغاثية سيتم وقف التعامل معها، ولن يتم توزيع أي مواد غذائية عن طريقنا، وسيتم رفع الأمر للجهات الراعية لاتخاذ التدابير اللازمة’. فما المعنى من البيان؟

بعد أن اجتاح تنظيم الدولة المخيم، توقفت جميع المؤسسات الإغاثية عن العمل ضمن المخيم، فيما غادر جميع الناشطين في هذه المؤسسات مع إعلاميين إلى مناطق مجاورة خلال عشرين يوماً، وبدأت السيطرة السياسية والإغاثية للنصرة تترسخ شيئاً فشيئاً، فأعيد تشكيل عدة مكاتب داخل اليرموك، منه المكتب الإغاثي صاحب البيان، الذي كان يرأسه باسل أيوب المقرب من جبهة النصرة، وذلك بعد اغتيال أبو العبد عريشة، فيما تعمل منظمة بيسان التي يترأسها أبو أحمد هواري، وهو عضو المكتب السياسي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والذي يسمى في جنوب دمشق بـ ‘أبو أحمد نصرة’ نظراً لقربه الكبير من الجبهة، إذ تربطه علاقة وطيدة بأحد أمراء النصرة في جنوب دمشق، وتدور حوله شبهات فساد وسرقة منذ الأسبوع الأول من عام 2013، حين دخلت كميات من الخميرة إلى المخيم ثم اختفت، وكان تسملها هواري باسم الهئية الوطنية لإغاثة الشعب الفلسطيني.

نشطت ‘بيسان’ بعدما دخل تنظيم الدولة، وبعد ثلاث سنوات لم تكن ذات المؤسسة مع الجبهة الديمقراطية قد فعلت أي شيء على الصعيد الإنساني في المخيم.

منذ بداية هذا الشهر، حزيران 2015، قامت النصرة بمصادرة كافة الآليات التي كانت تستخدمها المؤسسات الإغاثية في اليرموك، وقررت تأجيرها لمن يرغب، معلنة بذلك السيطرة على أي عمل خدماتي أو إغاثي داخل المخيم، ومؤمنة مصدر تمويل جديد لها، وذلك بموجب قرار من أميرها في المخيم أبو علي الصعيدي، الذي كان حتى عام 2012 يتعاطى الحشيش ويشرب الخمر علناً في المخيم، ليصبح بعدها في لواء أسود التوحيد الذي انتهى وجوده بهزيمة عسكرية في السبينة، فأسر من قبل النصرة بعد أن تسلمت الأخيرة مناطق في جنوب دمشق، وبدلاً من أن تقيم عليه ما تسميه بالحدّ، قبلت منه التوبة بعد أن بايعها، وبات أميرها، ولأن تنظيم القاعدة يعمل بطريقة لا مركزية تاركاً لعناصره إدارة شؤونهم في مناطقهم فلا دليل مادي اليوم على انتماء أبو علي ومقاتليه للنصرة من عدمه، سوى ما يقول هو وما يرفع من رايات.

الشيخان

في البيان المفاجئ قال المكتب الإغاثي الموالي بشكل كامل لجبهة النصرة، إنه تم الاتفاق ضمن اجتماع ضم الهلال الأحمر السوري، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطيين ‘الأونروا’، والمكتب الإغاثي والشيخ صالح الخطيب من يلدا، والشيخ أنس الطويل من ببيلا، على أن الطويل هو المسؤول الوحيد عن استلام المساعدات، المقرب من لواء شام رسول، فيما يتولى الخطيب عملية توزيعها انطلاقاً من مستودعاته في يلدا وفق ما يراه مناسباً، ووفق البطاقات التي يصدرها المكتب الإغاثي.

عملياً التقى المتخاصمان الرئيسان في جنوب دمشق، النصرة من خلال المكتب الإغاثي، والنظام من خلال شيوخ المصالحة في يلدا وببيلا، ووقعا ورقة تقاسم ‘الكرتون’ وطريقها ومن يأكل منها.

بعد الاتفاق، غاب تماماً الحديث عن عودة المدنيين إلى المخيم، سواء الذين غادروه في نيسان 2015، أو في كانون الأول 2012، في تحول كبير، لم يعد المكتب الإغاثي أو جبهة النصرة يرفعا الصوت بذلك.

الأونروا، منظمة الصمت

بموجب كل ما سبق، توافق وكالة غوث وتشغيل الاجئين الفلسطينين الأونروا على إشراف الشيخ صالح الخطيب على ما تقدمه من مساعدات غذائية لسكان اليرموك، الوكالة التي لا تزال تمتنع عن إدخال كوادرها أو فتح مراكز لها حتى في يلدا وببيلا وبيت سحم، ترى في الخطيب أقصر الطريق لرفع تقاريرها الدورية عن نشاطها من أجل الفلسطيني، فللخطيب كل الصلاحية في التوزيع والرقابة والخزن وتوزيع الحصص، فيما كانت قد صمتت حتى اللحظة تجاه انتهاكات الخطيب بحق المستحقين التي كان منها الاعتداء بالضرب على سيدتين فلسطينيتين أمام واحد من مستودعاته في الأسبوع الثالث من الشهر الماضي ‘ضرب رجال الخطيب إحدى النساء بعصى، فيما شتموا أخريات’، ولم تعلق الوكالة على مكان تخزين المساعدات المقدمة منها والتي بعضها يوضع في مكتب الخطيب.

ولا تزال حملة المساعدات التي أدخلتها ذات الوكالة إلى يلدا واستلمها الخطيب في الرابع عشر من نيسان مجهولة المصير، فلم توزع ولم تظهر، وتقرر الوكالة اليوم الاستمرار رسيماً بالعمل معه، مع أنها تملك الحق في الحصول على موافقة الحكومة السورية كي تدخل ما تشاء من مساعدات إلى المستحقين، إلا أنها تفضل المضي في العمل مع الخطيب.

على خطى الأونروا في التعامل مع الخطيب، تفعل منظمة التحرير الفلسطينية، التي مررت مساعداتها عن طريق ذات الرجل، علماً أن إمكانية وصول المنظمة إلى الحكومة السورية أكثر يسراً بعدما اجتمع وفدها في دمشق مع رئيس مكتب الأمن القومي على مملوك ونائب وزير الخارجية فيصل المقداد، ووزيرة الشؤون الاجتماعية كندة الشماط.

اللامخيم

نجحت جميع الأطراف المتصارعة في المخيم وحوله، من تجريد اليرموك من هويته الخاصة، فالنظام يعتقل ويقصف ويحاصر، والنصرة تغتال وتمهد لداعش وتسيطر، كتائب المصالحة تسيطر على اللقمة والوقود والماء، الناشطون فروا أو أقصوا أو صفوا ونفوا، وكان من قبل أن منظمة تحرير وسلطة وفصائل، على رأسها حماس والقيادة العامة، عبثت واستغلت وخطبت فيه ثم هربت، وكان أن قال معارض سوري عن أرضه أنها سورية، ليعود مقاتل اسلامي ليصف ذات الأرض بالإسلامية، فلا مكان فيه لفلسطين وقضيتها، ونجح أمراء الحرب في السكنى في عاصمة الشتات، وحول المخيم إلى سوق يُتاجر فيها بين أشد المتخاصمين عسكرياً، بالرغيف والدم والوطن.

المصدر/ عرب 48

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن