هل يستطيع العالم أن يعيش من دون الصين؟

هل يستطيع العالم أن يعيش من دون الصين؟

فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم عندما قال إنه لا يستبعد مطلقاً أن يقطع كل علاقات أمريكا مع الصين بعد اتهامها بانتشار فيروس كورونا في العالم. وهذه هي المرة الأولى التي يصل فيها ترامب إلى هذا الحد من التهديد والوعيد. لكن السؤال الذي يتبادر للذهن بعد هذه الهجمة الغربية على الصين: هل يستطيع الغرب خصوصاً والعالم عموماً أن يعيش من دون الصين فعلاً؟

ألم تتحول الصين إلى مصنع العالم بامتياز؟ هل هناك بيت في العالم ليس فيه سلعة مصنوعة في الصين؟ ألم يقل مسؤول صيني كبير قبل سنوات إن الصين غزت كل منزل في الدنيا؟

لو أن الرئيس الأمريكي قرأ قبل أن أطلق تهديده الأخير كتاب الصحافية الأمريكية سارة بونجورني (365 يوماً دون صنع في الصين: هل يمكننا حقا العيش من دون السّلع الصينية؟) لما كان قد فكر مطلقاً بإطلاق تهديده، فما بالك أن ينفذه. وللعلم فإن الكاتبة توصلت إلى نتائج مذهلة عام 2005 فما بالك الآن حيث باتت الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد أمريكا ويمكن أن تتجاوزها خلال سنوات فقط. هل انتهت العولمة كما قال ترامب بعد انتشار كورونا، أم لم يعد باستطاعة العالم أن يتقوقع مرة أخرى بعد أن غدا متشابكاً إلى غير رجعة كما يكشف الكتاب.

لقد قررت سارة بونجورني مقاطعة المنتجات الصينية سنة كاملة اعتباراً من الأول من كانون الثاني/يناير عام 2005. وقد بدت المقاطعة بالنسبة لها أمراً يسيراً كما يقول موقع أراغيغ؛ فكل ما عليها فعله هو الاحتفاظ بالأشياء الصينية التي تملكها، التوقف عن جلب المزيد منها، تفحَّص الملصقات، تجنب المنتجات الصينية والبحث عن بديل صُنع في دولة أخرى.

كانت سارة متحمسة لمشاركة قرارها وخطتها مع عائلتها وأصدقائها، واستطاعت خلال الأيام القليلة التالية إثارة موضوع المقاطعة في كل مكانٍ ذهبت إليه تقريباً؛ للتفاخر أولاً ولإقناعهم والحصول على مساندتهم ثانياً. ولكنها لم تتمكن من الحصول على موافقة الجميع؛ خاصة أصحاب المحلات التجارية الذين لم يفهموا أو يتقبلوا سبب إرجاعها الدائم لمنتجاتهم، أمّا بالنسبة للأشخاص المقربين منها فقد كان الأمر شاقاً عليهم أيضاً خاصة في فترة الأعياد، لأنهم لم يعرفوا نوع الهدايا التي عليهم جلبها.

هذه المواقف المُحرجة والمُقلقة جعلت سارة بونجورني تكتشف بأنّ قرار مقاطعة السّلع الصينية أصعب وأعمق مما تخيلت، ففي الواقع يبدو بأنه لا يوجد رفٌّ في متجرٍ في مأمن من قبضة الصين. هذا في عام 2005 فما بالك الآن، وخاصة بعد كورونا التي فضحت ضعف الغرب قبل الشرق.

تُنتج الصين كل شيء يمكنك التفكير فيه؛ وتستحوذ على القطاع الصناعي في الولايات المتحدة الأمريكية أو ربما في العالم كله. فهي أكبر مُنتِج في العالم للأجهزة الإلكترونية وأجهزة التلفزيون ومُشغلات الأقراص الرقمية والهواتف الخلوية، والأدوات المنزلية والمكتبية والأحذية والملابس والإكسسوارات، قطع البلاستيك والمصابيح والمعدات الرياضية. كما تُصّنع ما يقرب من 95٪ من جميع ألعاب الفيديو و100٪ من ألعاب الأطفال كالدُّمى والحيوانات المحشوَّة والشاحنات والدراجات ومجسمات الأبطال الخارقين وغيرها، وهي المسؤولة عن الزينة لكل أعيادنا الشخصية والوطنية والدينية.

الصين أكبر مُنتِج في العالم للأجهزة الإلكترونية وأجهزة التلفزيون ومُشغلات الأقراص الرقمية والهواتف الخلوية، والأدوات المنزلية والمكتبية والأحذية والملابس والإكسسوارات، قطع البلاستيك والمصابيح والمعدات الرياضية

وبالإضافة إلى المنتجات الصينية التي تحتل أرفُف المتاجر الصغيرة والكبيرة في كل مكان؛ هناك أيضاً ما يعرف بالسّلع المُختلطة وهي السّلع التي تحتوي على مكوّنات أساسية مصنوعة في الصين ولكنها مُجمعة في مكان آخر. ببساطة، لا يمكننا أبدًا تجنب الصين أو التخلص منها لأنها تصنع كل شيء.

لقد أقلقت هذه الحقيقة سارة بونجورني ودفعتها للتساؤل إلى أين سيتوجه الصينيون بعد ذلك؛ إلى إنتاج السيارات؟ تصنيع الطائرات؟ ما الذي سيتركونه لبقيتنا؟ ماذا لو استيقظنا في صباح أحد الأيام بخزانة مليئة بملابس ذات علامات تجارية صينية شهيرة ورخيصة و100 زوج من الأحذية الصينية ولكن دون عمل، ولا مستقبل، ولا آفاق مستقبلية؟

إن الأساس الكامل للاقتصاد الأمريكي هو أشخاص يشترون حفنةً من الأشياء، والصين سهلت ذلك بالنسبة إليهم بجعلها أرخص؛ فالناس يشترون بِنهمٍ كل شيءٍ تصنعه الصين. إنّ صورة الصين كماردٍ اقتصاديٍّ ضخم يُحكم قبصته على العالم حقيقة لا يمكن إنكارها؛ فهي بلد كبير جغرافياً، ديموغرافياً، سياسياً، عسكرياً واقتصادياً. وقد أدَّى تدفُّق الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد في فترة التسعينيات إلى موجة نموٍّ هائلة في الاقتصاد، وبحلول نهاية عام 2006 كانت الصين تمتلك واحداً من أكبر خمسة اقتصاداتٍ في العالم لتقفز بعد 14 عاماً ثاني أقوى اقتصاد بعد سيدة العالم أمريكا والأهم من ذلك أكبر المستهلكين للطاقة. فكروا فقط ماذا يمكن أن يحدث للنفط العربي فيما لو توقفت الصين عن استهلاك النفط.

لقد باتت الصين تتحكم بكل مستهلك في العالم، والمستهلك الأمريكي مثلاً لا يستطيع مقاومة ما تبيعه الصين لأنه رخيص للغاية، ولكن في يومٍ من الأيام -كما ورد على لسان أحد أصدقاء سارة ـ سوف تملُّ الصين من بيع الأشياء بسعرٍ زهيد، وحينها ستنهار الولايات المتحدة لأنها نقلت جميع مصانعها هناك.

في نهاية الطريق ـ وهو عنوان الفصل الأخير من الكتاب ـ اعترفت سارة بونجورني؛ بأنّ العيش في عالم لا تتوفر فيه السّلع الصينية أمرٌ صعبٌ وشاقٌ جداً. فالبديل مُكلّف ونادر، والخيارات قليلة ومحدودة وغير متنوعة. وهذا ما جعل عملية الشراء صعبة ومُرهقة. لقد كانت مقاطعة سارة بونجورني للمنتجات الصينية انفصالاً تجريبياً؛ لم يكن الهدف منه الفوز على الصين، بل كان كما قالت «محاولة تحديد مكاننا في العالم، ومكان الصين في عالمنا».

لقد كشف الوضع الراهن في ظل جائحة كورونا أن العالم بأكمله لا يستطيع العيش من دون الصين، فهي مصنع العالم، ونقطة الأصل لسلاسل التوريد، وهي بعدد شعبها تشكل قوة عظمى في الطلب العالمي. وبدل أن يهدد الغرب وملحقاته الصين يجب أن يعلم أنه كمن يطلق النار على قدميه. كم كان الكاتب الأمريكي توماس فريدمان بليغاً عندما قال: «كيف لأمريكا أن تقاطع الصين إذا كان العلم الأمريكي الذي يرفرف فوق البيت الأبيض مصنوع في الصين؟».

د. فيصل القاسم

كاتب واعلامي سوري

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن