من أبرز سمات القرن الجديد ولوج مصطلحات سياسية ومفردات لغوية تتناسب طرداً مع طبيعة العولمة المتغوّلة على كل مناحي الحياة الإنسانية وليس نتاج إثراءات فكرية أو علمية بل هي في حقيقة الأمر تحمل ذات المعنى الجوهري للأشياء ، كما ارادت دوائر القرار المتنفذة في الولايات المتحدة الأمريكية التي صنعتها ثم روّجتها إضفاء قالب العصرنة عليها كي يكون وقعها السكيولوجي أخّف وطأة على المتلقـّي الذي ترسخت في ذاكرته مفاهيم منبوذة من مخلفات الإستعمار القديم وحقبة الحرب الباردة تولـّد ردود فعل سلبية لدى سماعها، لهذا دأبت منذ ذلك الحين بشكلٍ مدروس على تسمية الحقائق بغير مسمياتها فاعتبرت على سبيل المثال أن الحرب على العراق وايران احتواء مزدوج حسب نظرية “مارتن أنديك المكلـّف الأن بالإشراف على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية” حيث أعلن عن تبنّي إدارته سياسة استراتيجية جديدة مطلع تسعينات القرن الماضي أبان حكم الرئيس كلينتون بطريقتين مختلفتين الأول من خلال العدوان المباشر والثاني مايعرف بسياسة “الترغيب والترهيب” تطورالخطاب بعد أحداث سبتمبر حيث تم تصنيف بعض الدول هي العراق وإيران وكوريا الشمالية “بمحور الشـّر” الذي يهدّد السلام العالمي لسعيهما امتلاك أسلحة التدمير الشامل حسب وصفها ، أما نشر الفوضى وإضعاف ركائز الدولة القومية للمنطقة العربية وخلق بؤر توتر مذهبية وطائفية بغية رسم خريطة جديدة للأقليم بما يسهّل السيطرة على ثرواتها ومقدراتها وجعل اسرائيل القوة الضاربة الوحيدة أطلقت عليها “الفوضى الخلاقـّة”وضمن سلسلة “التجديد الأوبامي”انتهجت الإدارة الأمريكية مؤخراً ثقافة القوة الناعمة تجاه العديد من الأزمات الدولية الراهنة.
لم يقتصر الأمر على الإدارة الأمريكية وحدها بل سار على خطاها الحليف الإستراتيجي رئيس حكومة المستوطنين”نتنياهو” الذي تفتقت ذهنيتة حول الإستيطانالإستعماري بالإعلان المخادع عن ضرورة تجميد عطاءات بناء أكثر من عشرين ألف وحدة استيطانية في محيط القدس وما تبقـّى من أراضي الضفة الفلسطينية بالطريقة الفجـّة والغطرسة المعهودة ماأحرج إدارة الراعي الأمريكي للمفاوضات العقيمة الجارية ، وتقديم الوفد الفلسطيني المفاوض استقالته من هذه العملية التي تمنح الوقت والغطاء اللازمين لتنفيذ مخططات الإحتلال الرامية إلى تغيير المعالم الديمغرافية والجغرافية للأراضي المحتلة وفرض سباسة الأمر الواقع خلف المعازل والجدران وتقطيع الأوصال، ومن ناحية أخرى الدفع بإمكانية تراجع الإتحادالإوروبي عن تطبيق القرار المتعلق بمقاطعة منتجات المستوطنات المقامة على الأراضي التي تم احتلالها بعدوان الخامس من حزيران اعتباراً من مطلع العام المقبل بعد ظهور أصوات بعض النواب الموالين لأسرائيل داخل البرلمان الأوروبي المطالبين بإعادة النظر بالخطوة الأوروبية المرتقبة تحت ذرائع مختلفة ، التي اعتبرت خطوة بالإتجاه الصحيح ينبغي البناء عليها .
سلطات الإحتلال المنهمكة بتعطيل الاتفاق الوشيك بين دول الخمس زائد واحد وإيران ، حول الملف النووي الإيراني باعتبارها أولوية تمس أمن إسرائيل كما تدعي تتقدم على ماعداها بما فيها المفاوضات ، رأت أسلوب الحداثة الأمريكي الإلتفافي منقذاً لها واستعاضت عن الطريقة القديمة بما أسمته “الإستيطان الذكي” الصامت وفي تبرير فلسفتها لهذا الإجراء الشكلي إدعت أن الإستيطان سيستمر بطريقة هادئة من غير صخب حتى لايثير غضب المجتمع الدولي ويؤدي إلى عزلة اسرائيل ، أي أنه لم يتوقـّف ولو ليومٍ واحد مهما كانت الأسباب الأمر الذي تجلـّى بوضوح خلال التصريحات اليومية لوزراء الحكومة الإستيطانية المتطرفة عن استحالة قيام دولةٍ فلسطينية مستقلةٍ بين النهر والبحر فضلاً عن الإنتهاكات الصارخة للمقدسات التي تستباح من قبل غلاة المتطرفين لإحياء خرافة الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى بدعم كامل وحماية تامة من جيش الإحتلال ، بالتزامن مع الإجراءات العنصرية واستهداف الممتلكات وهدم المنازل وطرد سكانها الى العراء بوتائر لم يسبق لها مثيل وكذا استمرارالعدوان والقتل الممنهج للناشطين والإعتقالات اليومية والحصار الجائرعلى الشعب الفلسطيني .
لعل ماينبغي النظر اليه بخطورة بالغة ردود الأفعال الباهتة من قبل المجتمع الدولي أزاء السلوك العدواني الإسرائيلي إذ كررت الإدارة الأمريكية موقفها المعهود القائل بأن الإستيطان بمجمله غير شرعي ولم تحرك ساكنا على المستوى العملي بل أنها ستقف بالمرصاد لأي جهد نحو مجلس الأمن الدولي من شأنه استصدار قرار يدين إسرائيل كما فعلت بالسابق، أما الموقف الأوروبي فلم يرتق إلى المستوى المطلوب عدا بعض التصريحات التي تعتبر سياسة بناء المستوطنات عقبة في طريق السلام وإسداء النصائح بضرورة تقديم طرفي الصراع تنازلات ووقف الإجراءات الأحادية الجانب من أجل السلام وبناء الثقة المتبادلة، أي المساواة بين الضحية والجلاد الأمر الذي يشجّع سلطات الإحتلال على المضي قدماً بتنفيذ مخططاتها الإستعمارية لعلمها المسبق بأنها معفاة من تطبيق القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية بفعل الحماية والرعاية الأمريكية لها، لابد أيضاً من الإشارة إلى عوامل العجز المفرط الذي ينتاب الحال العربي المنكفيء نحو معالجات أزماته الداخلية وما تشهده من متغيرات تتأرجح بين الطموح للإستقرار والتفاعلات غير الواضحة المعالم وبالتالي يصعب التنبؤ أو التعويل على هذه الدول للإلتفات إلى القضايا القومية في مقدمتها القضية المركزية للأمة العربية لما لها من أبعاد تمس مباشرةً مصالح ومستقبل العرب، وبالتالي سيستمر هذا الإستنزاف إلى وقت طويل إن تمكنت من تلبية رغبات شعوبها في الحرية والديمقراطية المنشودة.
ان النظر من زاوية المشهد العام على المستوى الفلسطيني الداخلي لا تسرصديق أو تغيض عدو حيث لازالت انعكاسات الإنقسام تلقي بضلالها على الصعيد السياسي والإقتصاديوالإجتماعي يخشى من تكريسه وعدم إمكانية الرجوع عنه حتى لو توفرّت الإرادة بذلك، كما لا تلوح في الأفق بوادر انفراج قريب لهذا الوضع الشاذ عن المسار التاريخي للقضية الوطنية الفلسطينية يمكنّها من استعادة ألقها الذي تستحّق من اهتمام عربي ودولي باعتبارها مفتاح السلم والحرب في المنطقة ، الأمر الذي يجعل الأطماع الإحتلالية مفتوحة على مصراعيها لنهب الأراضي وبناء الإستيطانالإستعماري في كل مكان طالما أضحى الجميع رهينة الوعود التي تدور في حلقة المصالح الأمريكية والإسرائيلية الإستراتيجية وبالتالي لابد من الخروج من نفق المفاوضات غير المجدية وعدم الإكتفاء بخطوات تكتيكية من قبيل تقديم الوفد الفلسطيني استقالته قيد الدراسة من المفاوضات يفهمها الإحتلال قبل غيره بأنها خطوة غير جادّة لأن الموضوع لايقتصر على نوعية الأشخاص إنما السياسات التي ينبغي أن تكون محصلة إجماع وطني تستند إلى الإرادة الشعبية وتجميع الطاقات في مواجهة أعتى وأخر استعمار عرفه التاريخ المعاصر، لقد حان الوقت للمراجعة الوطنية الداخلية واستثمار عوامل القوة الكامنة لدى شعبنا قبل فوات الأوان ….