ساري عرابي
بعد نكبة العام 1948 بدأت هوية الفلسطيني المقاتل بالتبلور في قطاع غزة، منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، ثم بالتزامن مع العدوان الثلاثي على مصر، وبمواكبة ودعم وإسناد من الطلاب الفلسطينيين في القاهرة، الذين أخذتهم تجربة الثورة الجزائرية واعتقدوا بإمكان استنساخها في فلسطين. بيد أن النشاط العسكري الأول في قطاع غزة؛ لم يتحول إلى حالة مقاومة جدية وفاعلة إلا بعد هزيمة النظام العربي في حرب حزيران 1967، وانطلاقا من الأردن لا من فلسطين. وبينما كان قطاع غزة يخضع لنظم متعسفة فرضتها عليه الإدارة المصرية، وقد عرف الاحتلال للمرة الأولى في العام 1956 وقبل الضفة بأكثر من عشر سنوات، فإن الضفة الغربية كانت ملحقة بالأردن ويتمتع سكانها بحقوق مواطنة كاملة، وهو ما جعل قضية الهوية الوطنية أكثر إلحاحا في قطاع غزة الذي بدأت تتبلور فيه محاولات المقاومة الأولى.
عشر سنوات احتاجت المقاومة الفلسطينية حتى تتغير موازين القوى والظروف الموضوعية ويسمح النظام العربي لهذه المقاومة بالتنفس، وهي سنوات احتاجتها المقاومة لتجاوز العامل الذاتي أيضا والذي تمثل بـ”ظروف الشك الجماهيري واللامبالاة الانهزامية التي خلقتها في الفلسطينيين سنوات طويلة من التشرد وخيبة الأمل”. إلا أن هذه المقاومة أضحت مقاومة لاجئين، بما يذكر بمقولة ماوتسي تونغ حينما قال لوفد فلسطيني زاره في العام 1964: “إذا تمكنتم من تفجير ثورة والاستمرار بها فإني سأكون سعيدا لدراسة قوانين جديدة لحرب شعب في ظروف لا تنطبق عليها قواعد حرب الشعب التقليدية”. فالفلسطينيون في فلسطين المحتلة عام 1948 أقلية بين أغلبية يهودية كاسحة، بينما انحشر بقية الفلسطينيين في منطقتين صغيرتين تخضعان لإدارتين عربيتين، ترفضان تحمل تبعات المقاومة، وقد تمكن العدو بعد هزيمة العام 1967 واحتلاله للضفة وغزة، من تدمير نموذج “البحر الذي تسبح فيه السمكة الفدائية”، أي سكان الضفة وغزة الذين يشكلون حاضنة للبؤر القتالية المرشحة للتحول إلى مناطق شبه محررة تزيل بالتدريج الوجود الصهيوني من الطرق الرئيسية في البلدات والمدن. على الأقل هكذا كانت تتصور “فتح”، ولكن العدو تمكن في العام 1968 من تدمير هذا النموذج، لتسقط نظرية “حرب الشعب” أو النموذج الجزائري فلسطينيا، ضمن الظروف الموضوعية التي كانت قائمة حينها.
غير أن المقاومة في قطاع غزة كانت أحسن حالا مع تجربة المقاومة التي تصدرتها قوات المقاومة الشعبية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبرزت فيها مجموعات محمد الأسود الذي عرف باسم جيفارا غزة، وبلغت أوجها في العام 1970، إلا أن العدو تمكن من التفرغ لها والقضاء عليها بعد خروج الثورة الفلسطينية من آخر معاقلها في الأردن في العام 1971، في ضربة مزدوجة هذه المرة لكلا النموذجين اللذين كانا أكثر إلهاما للفلسطينيين في ذلك الوقت: الجزائري، والفيتنامي.
ومنذ ذلك التاريخ، وحتى بعد انتقال الثورة الفلسطينية إلى لبنان، لم تتحول المقاومة إلى حالة شعبية داخلية، إلا في انتفاضة كانون أول 1987، أي بعد ثلاثين عاما من المحاولات الأولى، وبعدما شاع مصطلح “الأسرلة” للتعبير عن القلق من مظاهر التطبيع الشعبي مع الوجود الصهيوني، وبعد فترات مد وجزر، وبأثر من جملة من العوامل كان من أبرزها خروج الثورة الفلسطينية من لبنان، وسلسلة محاولات عسكرية متراكمة بعضها عرف بـ”الدوريات”، أي تلك المجموعات القادمة من خلف الحدود، وبعضها ارتكز على محاولات من الداخل، بالإضافة إلى وجود حركة وطنية وطلابية فاعلة داخل الضفة وغزة، وبدء انخراط الحركة الإسلامية بالعمل الوطني الجماهيري أو المسلح.
انتهت الانتفاضة الأولى، باتفاق أوسلو (1993) ودخول السلطة الفلسطينية غزة وعدد من مدن الضفة بالتدريج، مع فارق جوهري احتفظ فيه العدو بالقسم الأكبر من الضفة تحت سيطرته بما مكنه من تقطيع الضفة واستنزاف قوى المقاومة فيها بقدرته المباشرة على الاعتقال، وبهذا أصبح هناك مانع لأول مرة يحجز الجماهير عن العدو وهو وجود السلطة الفلسطينية، التي انتهجت سياسات استهدفت بنى المقاومة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، ولإخضاع الشعب لبرنامج يرتكز إلى عدد من العناصر الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية لتمرير ما سمته فتح بـ “المشروع الوطني”، وهو الأمر الذي أدى إلى انهيار الحالة النضالية الجماهيرية، وافتقاد حركات المقاومة لقدراتها ودخولها في مرحلة من الحيرة والانهيارات المتتابعة، لا سيما في قطاع غزة الذي بدت فيه حركات المقاومة أكثر ميلا للكف عن العمل العسكري والدخول في السلطة الفلسطينية، بالرغم من تمكن حركتي حماس والجهاد الإسلامي من تنفيذ عدد من العمليات، واحتفاظ حماس في الضفة الغربية ببنيتها العسكرية حتى العام 1998.
لم ينقذ المجتمع الفلسطيني ويعيده إلى موقع المواجهة المباشرة مع العدو، وينقذ فصائل المقاومة ويعيد لها عافيتها إلا انتفاضة الأقصى (28 أيلول 2000)، والتي ساعد في انفجارها وتمددها ثم تحولها إلى ظاهرة عسكرية سياسة عرفات التي فسحت المجال للمظاهرات، ثم ضعف السلطة الكبير على خلفية تمدد الانتفاضة واتساعها وانخراط قطاعات من فتح وأجهزة السلطة فيها.
انتهت انتفاضة الأقصى بصورتين مختلفتين في كل من الضفة وغزة، فبينما يعتبر العدو الضفة مركز الصراع وأرضه الحقيقية ومحل الادعاءات التاريخية وعمقه من جهة البوابة الشرقية والأكثر تداخلا مع كيانه، فإنه أعاد اجتياح مناطق (أ) في حملة السور الواقي التي بدأت في آذار 2002، ليتمكن على مدار ثلاث سنوات من تفكيك بنى المقاومة والتي لم تكن تزيد في أصلها عن مجموعات سرية محدودة كما هو الحال تاريخيا بسبب الوجود الاحتلالي المباشر الذي يحول دون تشكيل جسم ميليشياوي قادر على استيعاب الضربات، بينما استكمل العدو انسحابه من غزة في آب 2005، لتتمكن المقاومة هناك من الاستمرار في جسم ميليشياوي أصبح يقترب بمرور الوقت من بنى الجيوش النظامية، وهو الأمر الذي حمى المقاومة لاحقا من الاستهداف الداخلي، ثم حماها من الاستهداف الخارجي بوجود جسد مقاوم كبير قادر على استيعاب الضربات المتمثلة غالبا في التوغلات والاغتيالات والحروب.
مع الانقسام الفلسطيني، تعزز المشهد بوجود سلطة فلسطينية في الضفة الغربية أسست في استهدافها للمقاومة وحركة حماس على ما انتهت إليه عملية “السور الواقي”، مستغلة هذه المرة أحداث الانقسام التي دفع ثمنها أنصار “حماس” في الضفة الغربية وعلى نحو غير مسبوق، ولا حتى في سنوات أوسلو التي سبقت الانتفاضة الثانية، بينما كانت بنية المقاومة الكبيرة والواسعة التي أقامتها حماس في القطاع كافية لحماية المقاومة، ولإدارة حكومة مقاومة فسحت المجال لفصائل المقاومة من تعظيم قدراتها وخوض عدد من المواجهات كلفت سكان قطاع غزة كثيرا، في وقت لم تكن فيه المقاومة في الضفة هذه المرة قادرة على مشاركتهم المعركة، أو قادرة على القيام بواجباتها بصرف النظر عن الحال في قطاع غزة.
وعلى هذا الأفق التاريخي ينبني كلام آخر قادم إن شاء الله.