يشهد لبنان تطورات مثيرة للاهتمام مع استعداد البلاد لاستحقاقين انتخابيين هذا العام، وسط تقارير تفيد بأن الجولة الخامسة من المحادثات السعودية الإيرانية في بغداد، أواخر أبريل/نيسان، كانت “إيجابية”، وأن الوفدين قد ينقلان قريبا مناقشاتهما من المستوى الأمني إلى المستوى الدبلوماسي. ويعني ذلك أن أي تغييرات تشهدها بيروت في الأشهر المقبلة ستكون نتيجة للديناميكيات الإقليمية في المقام الأول.
وشهد الموقف السعودي تجاه لبنان تحولا كبيرا منذ عودة السفراء الخليجيين إلى بيروت الشهر الماضي. وفي 11 أبريل/نيسان، أقام السفير السعودي “وليد بخاري” إفطارا لشخصيات سياسية لبنانية بارزة، من بينها رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، ورئيسان سابقان للوزراء هما فؤاد السنيورة وتمّام سلام، ورئيسان سابقان للدولة هما أمين الجميل وميشال سليمان.
كما حضر العديد من المبعوثين الأجانب، بمن فيهم سفيرا الولايات المتحدة وفرنسا، اللذين عملا بجد في الماضي لإعادة إشراك المملكة في الشؤون اللبنانية.
وكانت هناك رسالتان في الإفطار وفي وصول البخاري نفسه إلى لبنان، إحداهما عامة للغاية والأخرى أكثر خصوصية.
وشدد “البخاري” علنا على عودة السعوديين، وأنه ما زال لديهم نفوذ سياسي كبير لدى اللبنانيين. وتزامن ذلك مع توقيع بروتوكول فرنسي – سعودي لتزويد لبنان بمساعدات إنسانية تتراوح بين 30 و70 مليون دولار.
ومن المرجح أن يتلقى حزب الله هذه الرسالة بقلق كبير. وبعد انتخاب ميشال عون رئيسا عام 2016، استغل الحزب نهج عدم التدخل الذي تبناه السعوديون تجاه لبنان لملء الفراغ وأصبح القطب المهيمن الذي تدور حوله الدولة داخليا وفي شؤون المنطقة.
وكانت الرسالة الأكثر خصوصية موجهة إلى المجتمع السني على وجه الخصوص؛ فمن خلال دعوة جميع رؤساء الوزراء السُنة السابقين إلى إفطاره في 11 أبريل/نيسان بعد يوم من استضافة إفطار آخر للمفتي الأكبر عبد اللطيف دريان، كان البخاري يشير إلى أن العلاقات السعودية مع المجتمع لا تزال قوية، بل أقوى مما كانت عليه عندما قدم رئيس الوزراء السابق سعد الحريري نفسه كمحاور لبناني رئيسي مع الرياض.
• إنسايد أرابيا: استقالة قرداحي تفشل في إزالة الخلاف بين السعودية ولبنان
ويشير استقبال البخاري لاحقا للنائب البرلماني فؤاد مخزومي (معارض لـ”الحريري”) أن النهج السعودي تجاه المجتمع السني يبدو الآن أشمل من ذي قبل، حيث تريد المملكة علاقات مع جميع السنة، بغض النظر عن انتماءاتهم، مما يعني أن الحلفاء السنة لسوريا و”حزب الله” قد يجدون يدا ممدودة من الرياض إذا أرادوا. ومن شأن ذلك أن يعيد المملكة إلى الأعوام التي سبقت تولي رفيق الحريري رئاسة الوزراء عام 1992، عندما لم يوجه السعوديون نفوذهم في لبنان من خلال سياسي لبناني واحد.
وبعد اغتيال الحريري عام 2005، عينت السعودية نجله سعد ممثلا رئيسيا لها في لبنان. ومع ذلك، أدت علاقاته المثيرة للجدل مع ولي العهد محمد بن سلمان إلى تحول جذري في التفكير السعودي، وأصبح وجود الحريري عقبة أمام أي تحرك سعودي.
ويبدو أن انسحاب الحريري من السياسة، في يناير/كانون الثاني الماضي، حل هذه المشكلة، وأعاد تنشيط نهج المملكة الأكثر توسعا في لبنان.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يعني أن السعوديين، ومعهم دول الخليج الأخرى وكذلك مصر والأردن، ربما توصلوا إلى فكرة أنه لا ينبغي التخلي عن لبنان باعتباره بؤرة النفوذ الإيراني الرئيسية. فمع عزل لبنان نتيجة العلاقات مع طهران، قدمت هذه الدول فرصة لإيران لترسيخ نفوذها كمهيمن وحيد. وحاليا، أدرك الأمريكيون والفرنسيون أن التخلي عن لبنان في زمن الانهيار الاقتصادي سيؤدي إلى مثل هذه النتيجة.
ومن المفارقات، أن أزمة لبنان كانت أيضا السبب الرئيسي وراء تخفيف قبضة إيران و”حزب الله”، حيث سمحت بتدخل خارجي من جهات عديدة. وبعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020، تدخلت فرنسا بقوة لمحاولة إيجاد حل للشلل السياسي في البلاد.
في الوقت نفسه، مع تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وعدم رغبة الطبقة السياسية في فعل أي شيء للتخفيف من حدة الأمور، أصبح التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي أمرا ضروريا بغض النظر عما قاله “حزب الله”.
وسارعت الولايات المتحدة وفرنسا والدول العربية، فضلا عن المنظمات المالية الدولية، للمساعدة في معالجة الكارثة حتى لا تتمكن إيران و”حزب الله” من وقف هذا الزخم.
• ماكرون: السعودية اعتقلت الحريري لعدة أسابيع ولولا تدخلنا لاندلعت حرب في لبنان
ومن السابق لأوانه تحديد التأثيرات المحتملة على الحياة السياسية. ولا يزال من غير الواضح إذا كان السعوديون على استعداد لتمويل القوائم الانتخابية لخصوم “حزب الله” في انتخابات 15 مايو/أيار، حتى لو افترض الكثيرون أن القوات اللبنانية ستستفيد من السخاء السعودي.
ومع ذلك، سيكون السعوديون بمثابة جهة إسناد على الأقل للسنة الذين يريدون دعما إقليميا من دول الخليج. ولن يكون الهدف السعودي هو اللعب على الخط الفاصل القديم بين 8 و14 مارس/آذار، ولكن حشد مجموعة من المرشحين حول فكرة الحفاظ على علاقات لبنان القوية مع العالم العربي الذي يغلب عليه السنّة ومنع “حزب الله” من تقويضها.
ويمكن أن يجلب ذلك العديد من الجهات السياسية الفاعلة في تجمع فضفاض، بما في ذلك قائد القوات اللبنانية سمير جعجع والزعيم الدرزي وليد جنبلاط وجميع رؤساء الوزراء السُنة السابقين، وأعضاء كتلة تيار المستقبل، وكذلك سياسيين من أمثال فيصل كرامي وحسن مراد وأسامة سعد وفؤاد المخزومي ووئام وهاب وغيرهم.
ولا يعني هذا أن هذه المجموعة غير المتبلورة ستمثل تحالفا، لكنها قد تتوحد حول اتفاق للرد على جهود “حزب الله” لعزل لبنان عن محيطه العربي. وقد يُجبَر ذلك “حزب الله” على قبول أن الدول العربية، بما في ذلك سوريا، يجب أن يكون لها رأي فيما يحدث في لبنان.
وقد يظهر هذا الاصطفاف كأغلبية في البرلمان المقبل؛ لذلك قد يكون من غير المنطقي تقسيم البرلمان بين المؤيدين لـ”حزب الله” والمعارضين له في العديد من القضايا ذات الأهمية الإقليمية.
ومن المنطقي أن ينفصل السنة الذين تربطهم علاقات طيبة مع “حزب الله” عن الحزب في بعض الأمور الإقليمية، وأن يعارضوا القرارات التي قد تنفر الدول العربية أو تضر بمصالحها.
وقد تجد هذه القوى السياسية أيضا أرضية مشتركة لضمان قبول رؤساء الوزراء المستقبليين للزعماء العرب، وأن تضم الحكومات عدد كافٍ من الوزراء القريبين من العواصم العربية لطمأنتها. لكن كيف يمكن أن يحدث هذا في الانتخابات الرئاسية؟.
إذا طبقنا نفس المنطق، فقد يعني ذلك أن بإمكان الحلفاء المحليين للدول العربية محاولة بناء إجماع حول مرشحين معينين ورفض أولئك الذين يرفضهم الرعاة العرب. وقد تكون هذه أخبارا سيئة لـ “جبران باسيل”، الذي يحظى بكره على نطاق واسع في العواصم العربية لصلته بأجندة “حزب الله”.
ولهذه “التعددية الإقليمية” الفعالة في السياسة اللبنانية جوانب جيدة وسيئة. وقد يؤدي الحد من الهيمنة الإيرانية وإجبار “حزب الله” على مراعاة مصالح الرعاة الإقليميين لنظرائه السياسيين السنة إلى نظام أكثر توازنا، لكن الجانب السلبي هو أن الخصومات الإقليمية قد تشل المشهد السياسي الداخلي.
ولا يمكن إخراج إيران، ويبدو أن الدول العربية تعترف بذلك، لكن أيضا لا يمكن فصل لبنان عن محيطه العربي. وإذا تم التوصل إلى تسوية مؤقتة، قد تتمكّن بيروت من أن تجد استقرارا أكبر مما تشهده منذ فترة طويلة.
مايكل يونج – كارنيجي