بالرغم من عدم اقتناع معظم الجمهور اللبناني بأن الانتخابات النيابية التي أجريت في 15 مايو/أيار الماضي ستحدث تغييراً جوهرياً في الوضع الصعب في لبنان – كما يظهر في نسبة التصويت المنخفضة (41% مقابل 49% في انتخابات 2018) – تعكس النتائج الرياح الجديدة التي تهب في البلاد حيث تشير النتائج إلى تراجع معسكر “حزب الله” الذي فقد الأغلبية البرلمانية التي كان يتمتع بها منذ 2018.
ويضم البرلمان الحالي 60 عضوا فقط (من أصل 128) من معسكر “حزب الله” مقارنة بـ 71 نائباً في البرلمان السابق. ويعد أحد الأسباب الرئيسية وراء تراجع معسكر “حزب الله” هو الضربة التي تلقاها شركاؤه من الحزبين المسيحي والدرزي.
وكان الخاسر الأكبر شريكه المسيحي منذ عام 2006 “التيار الوطني الحر” الذي أسسه الرئيس ميشال عون ويقوده حاليًا صهره جبران باسيل الذي يتطلع بشغف إلى منصب الرئيس. وفقد هذا الحزب مكانته كأكبر حزب مسيحي (حصل على 18 مقعدًا فقط) لصالح حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع (21 مقعدًا).
وتراجع “حزب المردة”، حزب سليمان فرنجية المسيحي وهو عضو آخر في معسكر “حزب الله” من 6 مقاعد في 2018 إلى مقعدين فقط، في حين أن الحزب الدرزي بزعامة طلال أرسلان والمتحالف مع “حزب الله” ليس ممثلاً في البرلمان الحالي.
وهناك تغيير مهم آخر يتمثل في انتخاب حوالي 13 مرشحًا مستقلاً يمثلون أحزابًا جديدة صغيرة تأسست في أعقاب الاحتجاجات التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2019. وفي الوقت الحالي لا يرتبط هؤلاء بأي معسكر. وتشمل أجندتهم الدعوة إلى تغيير الطبقة القيادية وإجراء إصلاحات اجتماعية واقتصادية. وفي هذه المرحلة، من الصعب تقييم الاتجاهات التصويتية للنواب المستقلين بشأن القضايا الداخلية أو الخارجية.
• مصادر : مشاورات بين حزب الله وحماس والجهاد لمناقشة تفاصيل الحرب القادمة
وعلى أي حال، فإن إضعاف “حزب الله” وصعود جعجع، العدو اللدود لحسن نصر الله، لم يؤد إلى تكتل نيابي كبير يمكن أن يكون له تأثير مادي على القرارات التي يعارضها “حزب الله” وأنصاره و/أو النخبة الحاكمة، أو للترويج للإصلاحات التي يحتاجها لبنان بشدة والتي هي شرط لتجديد المساعدة الغربية. في الواقع، احتفظ العديد من أعضاء القيادة الفاسدة السابقة بمناصبهم.
علاوة على ذلك، تركت مقاطعة الانتخابات من قبل حزب “المستقبل” الذي يتزعمه الحريري فراغاً قيادياً في المعسكر السني. وهكذا، يواجه “حزب الله” وشركاؤه معسكرًا منقسمًا يضم عدة أحزاب مخضرمة وأحزاب جديدة مجزأة، وليس من الواضح ما إذا كان جعجع، الذي وصفه “حزب الله” بأنه متعاون مع إسرائيل، سيتمكن من توحيدهم حول أجندة مشتركة.
وكان الاختبار الأول لتوازن القوى الجديد في البرلمان هو انتخاب رئيس البرلمان ونائبه. ونجح “حزب الله” في الانتخابات التي جرت في 31 مايو/أيار من انتخاب نبيه بري، زعيم حركة أمل الشريك الشيعي لـ”حزب الله”، رئيساً للبرلمان للمرة السابعة. وانتخب ممثل آخر عن هذا المعسكر، وهو إلياس بو صعب من التيار الوطني الحر، نائبا لرئيس المجلس.
ومع ذلك، فقد تم انتخاب كليهما بأغلبية صغيرة جدًا من 65 عضوًا (بفضل دعم حزب جنبلاط الدرزي، الذي تجنب الانضمام إلى أي من المعسكرين، وليس من الواضح كيف سيصوت في المستقبل)، بينما في 2018 حصل “بري” على أغلبية 98 صوتًا. وهكذا، بالرغم من ضعف شركاء “حزب الله”، تعكس التركيبة السياسية الجديدة في البرلمان احتفاظ الحزب بنفوذه حتى لو لم تكن الديناميكيات سهلة.
ولاحقا، سيضطر “حزب الله” إلى إيجاد طرق للحفاظ على مكانته وإحباط القرارات التي تتعارض مع مصالحه وذلك من خلال بناء تحالفات جديدة. أما بالنسبة للقضايا الجوهرية، بما في ذلك المطالب بنزع سلاح الحزب، فيبدو أن “حزب الله” لن يتردد في استخدام القوة.
• إسرائيل: نحن نستعد للاستفزازات من قبل حزب الله حول منصة حقل التنقيب كاريش
وفي 18 مايو/أيار، في أول إشارة علنية له إلى نتائج الانتخابات، حاول نصر الله إظهار نهج رجل الدولة بالقول إنه بالرغم من أن “حزب الله” حقق نصرًا كبيرًا فإن الأزمة الاقتصادية الشديدة تتطلب تحركًا مشتركًا من قبل جميع المعسكرات. وبهذه الروح، دعا الحزب إلى حكومة تعكس عملية توافقية واسعة.
ويتعارض ذلك مع مطالب جعجع الذي يرفض وجود “حزب الله” في أي حكومة يتم تشكيلها. ويدعي جعجع أن هناك أغلبية في البرلمان الجديد لتغيير السياسات في القضايا الأساسية بما في ذلك السيادة اللبنانية وسلاح القوات غير الحكومية.
في موازاة ذلك، يواصل “حزب الله” جهوده لترسيخ صورته كفاعل وطني مسؤول هدفه الأساسي هو تحسين الوضع الداخلي في لبنان مع الحفاظ على سيادة البلاد ومواردها. ويستخدم الحزب في هذا الصدد “البطاقة الإسرائيلية”. وكان هذا ملحوظًا بشكل خاص في إشارات الحزب الأخيرة إلى الخلاف بين إسرائيل ولبنان حول الحدود البحرية.
وتحظى قضية الحدود البحرية بإجماع في النظام السياسي اللبناني. وقد عادت القضية إلى الواجهة بعد وصول منصة تنقيب إسرائيلية عن الغاز إلى حقل كاريش في 5 يونيو/حزيران الجاري، والتي من المقرر أن تبدأ إنتاج الغاز من الحقل في الربع الثالث من عام 2022.
وفي خطاب 9 يونيو/حزيران الجاري، هاجم نصر الله إسرائيل وأعلن أن الحزب قادر على منع إنتاج الغاز من حقل كاريش. ووصف إنتاج الغاز بالعدوان الإسرائيلي وسرقة لموارد لبنان الاقتصادية. وهكذا يستغل نصرالله الأزمة الحالية لتعزيز الرواية المألوفة للتنظيم، وهي أنه يستخدم أسلحته لمصالح لبنان الوطنية، وبالتالي يبرر مرة أخرى تصميمه على عدم الانصياع لمطالب خصومه بنزع سلاحه.
وتتركز الجهود في هذه المرحلة على تشكيل حكومة جديدة. ومع ذلك فإن السوابق التاريخية تشير إلى أن هذه المهمة لن يتم إنجازها في المستقبل القريب. وبعد مرور شهر على الانتخابات، لا يوجد حتى الآن أي مؤشر على اتفاق حول تشكيل الحكومة أو هوية رئيس الوزراء السني (كما يقتضي الدستور اللبناني). ومن المرجح عدم إنجاز هذه المهمة قبل أكتوبر/تشرين الأول، عندما ينتخب البرلمان رئيساً جديداً للبلاد.
وحتى لو تم تشكيل حكومة في الأشهر المقبلة، فإن السيناريوهين الرئيسيين لا يعدان بحكومة فاعلة يمكن أن تنقذ لبنان من أزماته الاقتصادية الحادة. وفي حال تشكيل حكومة توافقية واسعة على النحو الذي يروج له “حزب الله” ومعسكره، فإن هذه الحكومة ستكون مشلولة مثل سابقاتها ولن تكون قادرة على تعزيز الإصلاحات اللازمة لأي تحسين في الوضع.
وفي السيناريو الآخر، فإن أي حكومة تتشكل دون “حزب الله”، وهو سيناريو غير مرجح للغاية، سيتم عرقلتها من قبل “حزب الله” سواء عبر التحركات السياسية أو استخدام القوة أو عن طريق تسخين الحدود مع إسرائيل.
وبالنسبة لإسرائيل، ساعد انخراط “حزب الله” إلى حد كبير في الشؤون الداخلية في السنوات الأخيرة في كبح نشاطه العسكري ضد إسرائيل. ومع ذلك فإن على إسرائيل الاستعداد لاحتمال التصعيد في ضوء خطاب نصر الله الصارم بشأن قضية إنتاج الغاز من حقل كاريش.
وتتزايد احتمالات الصدام العسكري بين إسرائيل و”حزب الله” بشأن هذه القضية مع تزايد ضغط السياسة الداخلية على “حزب الله”.