اقتصادي: المساكن والأراضي في غزة تعتبر الأغلى بالعالم وتوقعات بالانخفاض

غزة

بقلم : أمين أبو عيشة – أستاذ الاقتصاد والمحلل المالي

الفقاعة هي ظاهرة عقارية اقتصادية تحدث دورياً في كل اقتصاد ، ومن خلال دراستي للسلاسل الزمنية لحجم وأنماط الطلب والعرض في السوق العقاري الغزي وجدت أن قطاع غزة مر بعدد من الفقاعات العقارية وبمعدل فقاعة واحدة كل عشرة أعوام تقرياً خلال الخمسون عاماً الماضية ، وبشكل عام فإن الدورة الاقتصادية والعقارية كجزء منها تمر بأربع مراحل كما هو معروف لعلماء الفقه المالي ، هي : الركود، الانتعاش، التوسع، ثم العرض المتسارع.

وتحدث الفقاعة في قمة العرض المتسارع ، والحقيقة الاقتصادية تثبت أنّ أسعار الأراضي والمساكن في فلسطين وقطاع غزة كجزء منها يعتبر من أعلى الأسعار على مستوى العالم ، إنْ لم تكن الأغلى على الإطلاق وقد اثبت ذلك عن طريق المؤشرات الاقتصادية المعتبرة دولياً في تقييم أسعار المساكن ، لعل من أهمّها مضاعف أسعار المساكن إلى الدخل المتاح للفرد ،  حيث يبيّن عدد السنوات التي يتطلبها الفرد لتملّك مسكنه وفق مستوى الأسعار السائدة مقارنةً بمستوى دخله وذلك دون اللجوء إلى الاقتراض وهو في الحالة الفلسطينية 40عاماً بالمتوسط ،

وأنا هنا ليس في طور تفسير وتأويل ذلك بشكل مفصل ولكن لتقريب الصورة للمواطن العادي فقد اشتري احد معارفي وهو حامل للجنسية الألمانية منزلاً في مدينة ايسن وهو مكون من دورين وبأرقي الأماكن بمبلغ لا يتجاوز 100000 يورو أي ما يعادل ( 96000 دينار أردني ) لو كان هذا البيت بغزة وبنفس المنطقة لكان سعره يتعدي  الـــــ 500000 دينار أردني ، رغم ارتفاع الدخل في ألمانيا مقارنة مع غزة ،  ولتوضيح حجم الفقاعة العقارية سنسلم جدلاً بأن الأسعار الراهنة للأراضي في قطاع غزة والتي تعتبر قياساً على متوسط دخل الأفراد ، مرتفعة جداً.

أقول لنسلّم بأنّها لن تتراجع ، بل ستستمر في الارتفاع وفقاً لتوقعات ملاك العقار والمتاجرين بثرواتهم الهائلة فيه ، ولنتجاهل مؤقتاً أنْ ليس لهذا الارتفاع سقفٌ يقف عنده – الأسئلة الآن :

هل خدم هذا السيناريو “الجميل” بالنسبة لتجار العقار الاقتصاد الوطني ؟ وهل حقق هذا الوضع للاقتصاد الوطني وللمواطن أي قيمة مضافة حقيقية طوال الأعوام الماضية وذلك من جرّاء ارتفاع متوسط قيمة المتر المربع بأكثر من 300 في المائة ؟ أمْ أنّ هوامش الأرباح انحصرتْ فقط في جيوب ملاكه محدودي العدد؟ هل شارك الاستثمار التنظيمي في العقارات في استفحال وتعمق الأزمة ؟ وهل كان هذا الاستثمار استثماراً اقتصاديا أم أنه كان مجرد استثماراً مالياً ليس إلا ؟ ، هل خدم هذا الاستثمار التنمية والنمو ؟

وإذا كانتْ الإجابة عن السؤال الأخير السابق ترجّح تفاقم الآثار السلبية وعلوها على حساب الآثار الإيجابية ، فما تلك الآثار السلبية ؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن يصل تهديدها وخطرها ، على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والأمنيّة ؟ ومن جانبٍ آخر، هل العوامل التي استندتْ إليها تلك الارتفاعات القياسية ، عوامل اقتصادية بحتة ؟ أمْ أنّ هناك عوامل أخرى لعبتْ دوراً أكبر خلْف تلك الارتفاعات ، كالاحتكار أو شحّ فرص الاستثمار الحقيقية ، وغيرها من الأسئلة التي يتجاوز مجرّد سرْدها مساحة هذا المقال ، لا شكّ أننا سنستمع إلى إجابات متباينة تماماً عن تلك الأسئلة ، تختلف حسب “المصلحة” أو “الضرر” وفقاً لحالة صاحب الإجابة ، فلا يمكن أن تتفق إجابة الملاك و التجار والمستثمرين في القطاع العقاري مع إجابة المتقصين والباحثين والمفتشين عن مجرّد تملّكِ قطعة أرض أو مسكن! وسنجد لدى كل طرفٍ من الطرفين “سلّةٍ” وسلسلة من الحجج المؤيدة أو المعارضة دون شك ، لا تمتُّ بينهما أي صلةٍ .

لقد استغرق منّا الجدل والنقاش حول ذلك الأمر أكثر من سبعة أعوامٍ مضتْ ، جاءتْ النتيجة لمصلحة تجار العقار بفوزٍ كاسح ، مقابل هزيمةٍ ساحقة للاقتصاد الوطني والمجتمع الغزي على حدٍّ سواء! وهنا أقول هل ستستمر السيطرة المطلقة للطرف الأول طويلاً، أمْ ستبدأ كفّة الاقتصاد والمجتمع في تذوّق حلاوة الفوز لأوّل مرة ؟ لقد أوصلنا هذا الوضع حقيقة إلى عدم قدرة المواطن الغزي على تملك مسكنة الخاص .

وهنا أؤكد مجدداً بشهادة هدفها حماية مقدرات البلاد والعباد أن استمرار هذا الوضع يحمل في جعبته شروراً مستطيلة ، مما يقتضي منا جميعاً التعامل مع هذه التشوهات والمخاطر الجسيمة بحزم وجدية ، وأنْ نعود جميعاً إلى المربع الأول لهذه الأزمة الحقيقية ، التي أصبحتْ واحدةً من أخطر الأزمات المهددة للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني ، هذا المربع المتمثل في “احتكار الأراضي” ولا سواه ، لنواجهه بالحلول المثلى، وألا يستمر تجاهل هذا المربع من حزمة الحلول المقترحة ، وإدراك أنّ نتيجة تجاهل هذا “المربع” لم تفضِ إلا إلى مزيدٍ من تفاقم الأزمة.

وإهدار مئات الملايين من الدولارات دون أيّ حلٍ يُذكر ، فبدلاً من أن توجه هذه الأموال لإعادة التشغيل وتقليل معدلات البطالة وزيادة معدلات النمو والإنتاجية والتنمية ورسم خارطة اقتصاد الدولة وجهت هذه الأموال نحو قبلتها العقارية فكانت النتيجة .. صفر اليدين ، هكذا تبدو الصورة ضبابية ، وستظل ضبابيةً يدفع ثمنها الباهظ جداً الاقتصاد والمجتمع .

في المقابل لا يجني ربح ذلك الثمن إلا شريحةً ضيقة من المجتمع ؟ حقيقة نحن أمام خيارين ليس إلا فإما الارتفاع أو الهبوط  ؟ إنْ حدث الاحتمال الأول ، ( ثورية السعر ) فإننا سنكون على مواعيد جديدة من أشكال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الأكثر خطورةٍ مما نحن عليه الآن ، ولا يُعلم حينها أبداً هل سيكون بالإمكان احتواء آثارها الأخطر أمْ لا ؟ وكم ستكون تكلفة تفاقمها وحلولها في المستقبل ؟

أمّا إن حدث الاحتمال الثاني، ( دببيه السعر)  فلا شكّ أنها ستكون بمثابة الضربة القاصمة لظهر هذه الأزمة “المفتعلة “، ومما يبدو أنّها هي الأقرب ـــ بمشيئة الله ـــ قياساً على ما بدأنا نشهده من زيادةٍ لعروض البيع في مدينة غزة ، في مواقع كنّا نسير بجانب “صمتها المهيب” فارغةً إلا من فضائها الواسع ، فلقد تبدّلتْ عناوين اللوحات عليها من “أرض خاصة ليست للبيع ” إلى “الأرض للبيع”، ما يُشير إلى أنّ انخفاض الأسعار أصبح وشيكاً جداً، وكما يبدو أنّه ما تأكّدتْ حقيقته لدى ملاك تلك الأراضي الشاسعة بإمكانية هبوط أسعارها ، إلا ما جاءتْ الساعة التي تغيرت فيها عناوين اللوحات المعلقة على أراضيهم المنيعة… فصبرٌ جميل أيها المواطن الباحث عن سكن ، وإنّي معك من الصابرين ولا تكن من المغفلين المشترين .

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن