الصين والجانب الصحيح من التاريخ

د. محمد السعيد إدريس
د. محمد السعيد إدريس

الكاتب: د. محمد السعيد إدريس

في الوقت الذى أخذ فيه الكثيرون يتساءلون، ولو حتى همساً، عن حقيقة الموقف الصيني من الصراع المتفجر الآن في أوكرانيا الذي أخذت معالمه تتكشف الواحدة تلو الأخرى، وبالذات من منظور الصراع الأمريكي – الأطلسي ضد روسيا، جاء تعليق وزير الخارجية الصيني وانغ يي مربكاً عندما أعلن أن بلاده «تقف على الجانب الصحيح من التاريخ» بشأن الأزمة الأوكرانية.

ما هو الجانب الصحيح من التاريخ في هذه الأزمة من منظور الإدراك الاستراتيجي الصيني؟ هكذا يتساءل البعض: هل هو ما ورد في تعليق الزعيم الصيني تشي جين بيغ قبل ثلاثة أسابيع من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب قمتهما المشتركة في بكين (4/2/2022) على هامش حضورهما الحفل الافتتاحي للألعاب الأولمبية الشتوية، أم ما يلاحظ في الآونة الأخيرة، وبالتحديد بعد تجاوز المدى الزمني للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا حاجز الأسابيع الثلاثة دون حسم عسكري واضح تكون له دلائل سياسية مهمة، من اهتمامات صينية بمحاولة إظهار قدر ما من الحياد في الأزمة، وإبداء الحرص على القيام بجهود وساطة للوصول إلى «مفاوضات سلام»؟

في قمة بكين المشار إليها تعهد تشي وبوتين، بأن صداقة بلديهما «لا حدود لها»، كما أعلن الزعيم الصيني أنه لن يكون هناك «تذبذب» في شراكتهما، وأكد الطرفان في بيان مشترك أن علاقتهما الجديدة تفوق أي تحالف سياسي أو عسكري في زمن الحرب الباردة، وأن «الصداقة بين البلدين ليس لها حدود، ولا حظر فيها على التعاون في أي مجال». الأهم من ذلك أن البيان تضمن «رفضاً صريحاً للرؤية الأمريكية والغربية للعالم، ولنية محتملة لبناء تحالف عسكري بين روسيا والصين». والتأكيد على «عزم الصين وروسيا العمل معاً ضد الولايات المتحدة لبناء نظام دولي جديد يقوم على أساس رؤيتهما الخاصة لحقوق الإنسان والديمقراطية».

استرجاع هذه النصوص بعد بدء روسيا عمليتها العسكرية أثار تساؤلات حول مدى علم الصين بهذه العملية. صحيفة «نيويورك تايمز» تساءلت: «هل فاجأ التدخل الروسي في أوكرانيا النخبة الحاكمة في الصين أم أنهم كانوا على علم»، وهذا بدوره يعيدنا إلى السؤال الخاص بتصريح وزير الخارجية الصيني أن بلاده «تقف على الجانب الصحيح من التاريخ» من أن الصين عدلت موقفها بعد مرور ثلاثة أسابيع من بدء العملية العسكرية دون تحقيق النجاحات المأمولة وبعد فداحة التداعيات للصراع الدائر بكافة أبعاده، سواء الحرب على الأرض الأوكرانية، أو الحرب الاقتصادية الأمريكية- الأطلسية ضد روسيا وتداعياتها الدولية التي امتدت إلى الصين من واقع علاقاتها التجارية مع أوروبا ومع الولايات المتحدة، ومن واقع الأزمة المتفجرة الآن في سوق موارد الطاقة من نفط وغاز.

إعلان الصين عن استعدادها للتوسط بين روسيا وأوكرانيا و«لعب دور بناء لدفع مفاوضات سلام بين الطرفين» جاء قبل تحذير الرئيس الأمريكي جو بايدن لنظيره الصيني في اتصالهما الذي دام نحو ساعتين من «عواقب ستواجهها الصين في حال ساعدت روسيا على حربها على أوكرانيا» حسبما أعلن البيت الأبيض، ما يعني أن الموقف الصيني نابع من إدراك وتحليل لمجريات الأزمة وتداعياتها، وليس استجابة لتهديدات الرئيس الأمريكي بأن «بكين ستواجه عواقب»، ليس فقط من جانب الولايات المتحدة، لكن أيضاً من العالم كله، إذا قدمت دعماً لروسيا في حربها.

فعلى الرغم من أهمية هذا التحذير الأمريكي، فإن الموقف الصيني الجديد الأكثر ميلاً نحو الوساطة له مرتكزاته الاستراتيجية الصينية وبالتحديد المصالح الوطنية الصينية من ناحية ومحورية التحالف الصيني – الروسي من ناحية أخرى، إلى جانب الإدراك الواعي لخلفيات الصراع الدائر في أوكرانيا من ناحيتين، أولهما أنه بالتحديد صراع أمريكي – أطلسي ضد روسيا لاستنزافها وإرغامها على النزول عن تطلعها للمنافسة على الزعامة الدولية، تمهيداً لمحاصرتها وعزلها كي تتفرغ واشنطن للصراع ضد الصين منفردة، أي بعد الإجهاز على الحليف الروسي للصين. ثانيهما، أنه صراع غير مباشر ضد الصين لردعها عن التفكير يوماً في استرداد تايوان، وعدم تكرار التجربة الروسية في أوكرانيا.

بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن بكين لن تسمح بهزيمة روسيا لأن ذلك يعد خطراً على الطموح الصيني- الروسي المشترك للانتقال إلى نظام عالمي جديد بديلاً لنظام الأحادية القطبية الأمريكي. تدرك الصين أنها لن تستطيع وحدها تحقيق هذا الهدف دون الشريك الروسي، من هنا جاء البيان الذي نشرته وزارة الخارجية الصينية متضمناً قول وزير الخارجية الصيني وانج يي إن «الصين لن تقبل أبداً أي إكراه أو ضغط خارجي، وتعارض أية اتهامات لا أساس لها أو مريبة ضدها»، في تعليق على تحذيرات الرئيس الأمريكي في اتصاله مع الرئيس الصيني الذي لم يعلق، وقتها على تلك التحذيرات، لكنه طالب بإنهاء الحرب في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن، ودعا حلف الأطلسي إلى إجراء حوار مع موسكو، لكنه لم يلق بأي لوم على روسيا، وربما يكون هذا هو جوهر ما يعنيه وزير الخارجية الصيني ب «الجانب الصحيح من التاريخ».

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن