رامي منصور يكتب: حيرة بوتين

رامي منصور يكتب: حيرة بوتين
فلاديمير بوتين

الكاتب: رامي منصور

لا يلعب فلاديمير بوتين الروليت الروسيّة. لا يبدو مغامرًا في بحثه عن استعادة أمجاد روسيا القيصريّة والسوفياتيّة. ثبت أنّ حساباته عقلانيّة؛ الربح والخسارة، نقاط القوّة ونقاط الضّعف، والمدى القصير والطويل. ووصفه بـ”القيصر الروسيّ” لم يغيّر من هذه الحقيقة. ليس زعيمًا شرق أوسطيٍّ لا يفرّق بين مصالح أمن بلده القوميّ وبين مصالحه الشخصيّة. ربما يدرِك أكثر من غيره أن بلده ليس مهيّئًا بعد، ليشكِّل قطبًا في عالم متعدّد الأقطاب، على المستوى الاقتصاديّ تحديدًا، لكنه يرى وإلى جانبه الصين، أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة تنكفئ عالميًّا، ويرى أنها لم تعُد شرطيّ العالم كما في القرن العشرين، أو لم تعُد الشرطيّ الوحيد فيه على الأقل.

رغم ذلك، لدى بوتين ما يخسره إذا ما قرّر مهاجمة أوكرانيا. لقد بنى مجده طيلة عقديْن كزعيم روسيّ يحظى بشعبيّة مرتفِعة. نجح بفرض الاستقرار في روسيا، اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا، وصنع حضورًا إقليميًّا لروسيا في أكثر من مكان في العالم، في آسيا والشرق الأوسط. وما يقلق الروسيّ ليس أوكرانيا، بل الأوضاع الاقتصاديّة ومستوى المعيشة والفساد المنتشِر. يقول الخبراء والمحلّلون إن اجتياح أوكرانيا سيرتدّ اقتصاديًّا بشكل سلبيّ على الاقتصاد الروسيّ الذي يواجه تداعيات جائحة كورونا. لن توفّر أوكرانيا أماكن عمَل للروس. بل إنّ الخبراء يحذّرون من أن الروس سيواجهون حرب ميليشيات دامية في أوكرانيا.

لا يلعب بوتين الروليت الروسيّة. يقول إن الحديث عن الحرب هو “هستيريا” من صناعة أميركيّة. وزير خارجيّته سيرغي لافروف ينفي أيّ نوايا حربيّة عدوانيّة روسيّة. يتساءل الخبراء والمحللون: هل تسعى أميركا لاستدراج روسيا وتوريطها في حرب، ومن ثم فرض عقوبات شديدة عليها؟ يقول محلّل في إسرائيل إن الأميركيين سبقوا بوتين هذه المرّة في الحرب النفسيّة. يسرّبون يوميًّا معلومات استخباراتيّة، من أجل بَلْبَلة أصحاب القرار في موسكو وعلى رأسهم بوتين. يحاولون خَلخلة التوازن لدى صنّاع القرار الروس، وإضعاف الثقة بالنفس لدى الضبّاط الروس، بأنّ أوراقهم وخططهم مكشوفة.

لا يحتاج بوتين إلى قوّات عسكريّة كبيرة لخلخلة الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ في كييف، وفرض نظام يكون نصيرًا لموسكو. لدى روسيا قدرات إلكترونيّة متقدّمة لِشلّ منشآت حيويّة وتعطيل الحياة في أوكرانيا، كما لديها أتباع في مناطق مختلفة يوالون موسكو ولغتهم روسيّة، فاستبدال القيادة الأوكرانيّة الحاليّة المناوئة لموسكو والمتّجهة غربًا، لا يحتاج لجحافل من “الجيش الأحمر” ولا غارات جويّة مكثّفة. يقول الأوكرانيون إن بوتين قام بمناورة عسكريّة شبيهة ونشر قوات كبيرة على الحدود مع أوكرانيا في أيار/ مايو من العام الماضي (2021)، ولم يُثِر الذعر لدى الغرب وأميركا. لماذا يجري الآن الحديث عن حرب؟

♦ الرئيس بوتين يصادق على تشكيل نظام دفاع جوي موحد بين روسيا وطاجيكستان

الغرب ليس بريئًا بالمرة في هذا التصعيد، إذ إنه يدفع بصواريخ وقوّات حلف الناتو باتجاه روسيا، بعد أن نَشَرَها في رومانيا وبولندا، ويسعى لتوسيعها إلى جورجيا وأوكرانيا. بنظر موسكو، إنه يتطاول على بيئتها الإستراتيجيّة والثقافيّة والحضاريّة قبل الأمنيّة. حضارة عريقة مثل روسيا تشعر بشكل مزمن بأنّها مستهدَفة طوال الوقت من الغرب.

لكن لا تتوقّف مشكلة بوتين مع أوكرانيا عند هذا الحدّ؛ فالغرب -وتحديدًا أوروبا- يدفع بالاقتصاد الأوكرانيّ ليندمج بالاتحاد الأوروبيّ، فيما تقوم الولايات المتحدة بدعم وتمويل مؤسسات تعمل على دَمَقْرَطَة الحُكْم والمؤسسات في كييف، لتصبح ديمقراطيّة ليبراليّة. في نظر بوتين هذا تمادٍ غربيّ من شأنه أن ينعكس على روسيا سلبًا؛ أوّلا لناحية العمليّة الديمقراطيّة في اختيار قادة كييف، وهو المعادي لِقيَم الليبراليّة ولا يريدها في بلده؛ وثانيًا، لناحية تطوُّر الاقتصاد الأوكرانيّ بدعم الاتحاد الأوروبيّ، ليس لكونه اقتصادًا غربيًّا حرًّا، بل لكونه مُحرِجًا لبوتين إذا ما قارَن المواطن الروسيّ مستوى معيشته بالأوكرانيّ، إذا ما تحقّقت خِطَط الغربيين.

إذن، يرى بوتين أن الولايات المتحدة تحاول تهديد بلده من خلال الناتو ونشره في البيئة الإستراتيجيّة المحيطة بروسيا، وثانيًا نَقْل التجربة الغربيّة اقتصاديًّا وسياسيًّا – ديمقراطيًّا إلى شرقيّ أوروبا. لذا، إنّ مُعضلة بوتين ليست سهلة: إذا ما سار خَلْف طموحاته بصناعة مجده الشخصيّ كزعيم روسيّ تاريخيّ من جهة، وقرّر إعلان الحرب على أوكرانيا، ففي ذلك مخاطرة بإنجازاته الداخليّة. ومن جهة ثانية، إذا ما قرّر “النزول عن الشجرة” والتوصُّل لتسوية مع الأميركيين حول أوكرانيا، فإنّ ذلك من شأنه أن يضرب مصداقيّته ومصداقيّة تحرّكاته وتهديداته مستَقبَلا، في الداخل والخارج.

ماذا يدور في خلد بوتين؟ ليس نشر الشيوعيّة ولا الاشتراكيّة، ولا دعم حركات التحرّر الوطنيّ في العالم الثالث. يرى بوتين أنّ ما يفعله خطوة دفاعيّة، صراع مع الأميركيين على النفوذ في منطقة كانت قبل ثلاثة عقود، الباحة الخلفيّة لموسكو، وربما يراها فرصة تاريخيّة ليس لولادة عالَم متعدِّد الأقطاب فحسب، بل فرصة لمحاربة القِيَم الليبراليّة كذلك، فالغرب بالنسبة إليه، ليس الناتو فقط، بل الديمقراطيّة والليبراليّة التي يروِّج الغرب لها في شرقيّ أوروبا. لا يمثّل الأميركيّون هذه القيَم، فقَدْ داسوها حيثما حلّوا خارج بلدهم، تمامًا مثل أنّ بوتين ليس عضوًا في “محوَر المُمَانعة” في المنطقة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن