عربة ترامب وحصانه

بقلم الكاتب

الكاتب : عاصم عبد الخالق

المثل الإنجليزي القائل «لا تضع العربة أمام الحصان» جزء من التراث الثقافي للإنسانية بصرف النظر عن منشئه. وهو الرد الناطق بالحكمة الذي يشهرونه في وجه من يريد تجاهل الترتيب المنطقي والعقلاني للتصرفات والقرارات، ومن دون هذا الترتيب لن تتحقق النتيجة المرجوة.

كثيرون ومنهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يقتنعون وربما لا يستوعبون هذا الدرس على بساطته، وتصطدم قراراتهم وتصرفاتهم بالمغزى الذي ترمي إليه تلك الحكمة. سنكتفي هنا بثلاثة أمثلة وضع فيها ترامب عربته أمام الحصان حيث جاء ترتيب قراراته عكسياً، ومن ثم لم يحقق مراده.

النموذج الأول وهو الأحدث يتعلق بمبادرته الأخيرة المفاجئة بالدعوة إلى فتح حوار مباشر مع إيران. وبصرف النظر عن جديته أو فرص نجاح مثل هذا الحوار بين العدوين اللدودين أو انعقاده من الأصل، فإن هذا الاقتراح يأتي بعد شهور قليلة من قرار ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران. منطق الأمور كان يقضي أن يبادر ترامب باقتراح الحوار أولاً ثم يلجأ إلى إلغاء الاتفاق كخطوة مترتبة على فشل الحوار، أو رفض إيران المشاركة فيه.

كان بوسع ترامب مثلاً أن يساوم إيران على التزامه بالاتفاق، بأن يطرح صيغة «الحوار أو الإلغاء» أي يكون الحوار ورقة ضغط عليها. أما طرح الاقتراح الآن فيبدو غريباً وغير مفهوم لأنه لا معنى للبحث عن اتفاق جديد بينما تم إلغاء اتفاق قائم حتى ولو لم يكن جيداً.

النموذج الثاني لقرارات ترامب ذات التوقيتات العكسية هو قراره الشهير والبغيض بالاعتراف ب القدس عاصمة ل«إسرائيل» ونقل سفارة بلاده إليها. اتخذ الرئيس هذا القرار في ذروة حديثه عما يسمى ب«صفقة القرن» لتسوية القضية الفلسطينية، والتي لم يعلن رسمياً عن تفاصيلها بعد.

الترتيب البديهي هنا كان إعلان مبادرة التسوية أولاً، ثم بعد ذلك تقرير موقف بلاده من قضية القدس وهو بالطبع يعلم حساسيتها الشديدة للجانب العربي والفلسطيني. تصرف ترامب على هذا النحو لم يفقده البقية الباقية من مصداقية الولايات المتحدة لدى الفلسطينيين فحسب ولكن وهو الأهم سمم الأجواء السياسية التي كان يجب أن يهيئها لإنجاح أي مبادرة سلام. ثم ما معنى التفاوض على تسوية وقد حددت واشنطن بالفعل معالمها أو بمعنى أدق أفرغتها من مضمونها، لأنه لا تسوية من دون القدس. بمعنى أكثر وضوحاً لقد نسف ترامب مبادرته بنفسه قبل أن يعلنها.

المثال الثالث في عرضنا للعبة الترتيبات المقلوبة التي يهواها ترامب يتعلق بالحرب التجارية التي أشعلها مع حلفائه الأوروبيين جراء فرض رسوم جمركية على صادراتهم من الحديد والألمنيوم إلى الأسواق الأمريكية. بعد أسابيع قلقة من هذا القرار الذي هز دعائم التحالف التاريخي بين الجارين على جانبي الأطلسي أعلن ترامب أنه يريد الوصول مع الاتحاد الأوروبي إلى مرحلة التعريفات الجمركية المعدومة وهو أمر يدعو للدهشة، لأنه إذا كان هذا هو هدفه فلماذا يسبقه بفرض رسوم جمركية لا سابق لها! ألم يكن من الأصوب بل البديهي والمنطقي أن يبادر أولاً ببحث إمكانية الوصول إلى هذه المرحلة ثم يلجأ إلى فرض الرسوم إذا فشلت مساعيه. لقد جعل ترامب الموقف صعباً عليه وعلى الآخرين مرة أخرى بالقفز فوق المراحل ثم العودة إلى نقطة الصفر مرة أخرى.

هكذا دائماً يصر ترامب على أن يبدأ الخطوة الثانية قبل أن يقطع الأولى، وهو في هذا لا يكتفي بوضع العربة أمام الحصان فقط بل يكبلهما معاً إلى الحد الذي يجعل فيه تصحيح الوضع أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.

نقلاً عن الخليج الاماراتية

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن