من حيث لم يحتسبوا

أحسب أن الاحتلال لم يتوقع حتى في أبشع كوابيسه أن يأتي يوم تتصاعد فيه المواجهات في شوارع القدس، ومدن الداخل الفلسطيني (أراضي الـ48) على النحو الذي ما زال قائماً منذ جريمة حرق الفتى الشهيد محمد أبو خضير على يد مستوطنين في القدس.

هذا المشهد يُعيد للأذهان مواجهات الضفة وغزة عشية الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة)، إذ كان امتداد المواجهات صاعقاً للعقلية الصهيونية، وحجم استعداد الشارع مفاجئاً، وكذا سرعة انضمام أعداد متزايدة من الشباب إلى دائرة الفعل، الفارق هذه المرة أن حدّة المواجهات كانت عالية، وأنها بدأت عنيفة منذ يومها الأول، وتركّزت في تلك المناطق التي اطمأن الاحتلال إلى تذويب هويتها، وشغلها عن همّ الاحتلال، وتحييدها عن واقع الضفة وغزة، فحين كان يجتاح الضفة أو يقصف غزة في السنوات الفائتة لم تكن ردّة فعل تلك المناطق في الأغلب تتجاوز التضامن العادي المحدود الوقت والمدى، لكنها الآن تبدو في قلب الحدث بل صانعه الأبرز، ومحرّكه الأساسي.

ولو قدّر لهذه الهبة أن تستمر وتتصاعد لتتخذ شكل الانتفاضة اليومية؛ لحقّ أن نسمّيها (انتفاضة القدس)؛ لأن شعلتها تنامت في ربوع المدينة وضواحيها، مع أن شرارة التغيير كانت في الخليل، ألا وهي عملية أسر المستوطنين الثلاثة التي نفذت نتيجة لإضراب الأسرى، وتعنّت الاحتلال تجاه مطالبهم، فهذه العملية صاغت رؤى جديدة لدى جيل الشباب، وأحدثت نهضة كبيرة لمعنوياته، ولإيمانه بجدوى الفعل، لكن الضفة لم تكن قادرة على إنضاج سريع لحدث بوزن الهبة الشعبية الممتدة؛ لظروفها المعروفة، حيث قلّة نقاط التماس مع الاحتلال في كثير من مدنها من جهة، ودور أجهزة السلطة المعطّل لأي حراك شعبي فضلاً عن المسلّح، من جهة أخرى.

حتى الآن ما زال الوقت مبكّراً على التكهن بمآلات الهبة الحالية التي نراها تمتدّ إلى مناطق الضفة أيضًا، بالتوازي مع اشتعال جبهة غزة، لكنّ تصاعدها وحضور الفعل في جميع ساحات فلسطين التاريخية يحملان دلالات هامة بشأن مآلات هذه الجولة في حال استمرارها أو تطوّرها، ففلسطين اليوم تنزف من كل مفاصلها، وليس هناك استفراد بجبهة أو ساحة دون أخرى، أي أن الهمّ يلف فلسطين كلها.

وهذا الشمول أعاد القضية إلى أصلها وجوهرها المتمثل بوجود الاحتلال، وضرورة مواجهته، وأهال التراب على جميع أوهام التعايش والسلام والصلح مع الغاصبين، إذ لو كان هناك أفق لهذا الخيار لما انتفض أهل الداخل الفلسطيني والقدس، ولكان حرصهم على مكتسباتهم الحياتية في ظل الاحتلال مُقدّماً على استعدادهم للانتفاض في سبيل التغيير.

إن أهالي الداخل الفلسطيني يمثّلون اليوم الرصيد الوطني الإستراتيجي للقضية الفلسطينية، ثم لمشروع التحرير، فهم على تماس مباشر مع الاحتلال، ما يعني أن إمكانات عطائهم في الجولة النضالية القادمة أو الحالية ستكون عالية، ولن تلبث أن تتجلى إنجازات تصبّ في مصلحة مسيرة المقاومة، فقد طال ليل الاحتلال على فلسطين، ولابدّ أن ينفتح آخر باب للصباح، طال الزمن أم قصر.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن