موقع سوريا من رقصة التانغو بين تركيا وروسيا بسبب حرب أوكرانيا

موقع سوريا من رقصة التانغو بين تركيا وروسيا بسبب حرب أوكرانيا
موقع سوريا من رقصة التانغو بين تركيا وروسيا بسبب حرب أوكرانيا

في استفادة من علاقاتها الوثيقة مع كلا طرفي الصراع في أوكرانيا، انتهزت تركيا الفرصة لتسليط الضوء على أهميتها الاستراتيجية. وسلطت المحادثات الروسية الأوكرانية الأخيرة في إسطنبول الضوء على دور تركيا كوسيط. كما كانت محادثات السلام في منتدى أنطاليا للدبلوماسية فرصة لأنقرة التي تكافح من أجل كسر العزلة الدولية.

وفي قمة “الناتو” الأخيرة في 24 مارس/آذار، حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الظهور بمظهر صانع السلام، مشيرا إلى أن الجانبين توصلا إلى توافق في الآراء بشأن العديد من القضايا الرئيسية؛ لكن نفي أوكرانيا السريع أشار إلى تحديات أمام الحكومة التركية.

ومع ذلك، أصبحت تركيا في موقف صعب بسبب الحرب في أوكرانيا. ومن ناحية، جاءت الحرب في وقت كانت تركيا تجري فيه تعديلات علي سياساتها الخارجية لتهدئة التوترات. ومن خلال زيارات رفيعة المستوى لقادة دول الخليج العربية ورئيس إسرائيل، أرسلت الحكومة التركية رسائل واضحة إلى واشنطن حول توجهها الجديد.

ومن ناحية أخرى، ترى تركيا أن روسيا طرف لا غنى عنه في عدة قضايا، بما في ذلك الحرب السورية المعقدة؛ حيث يعتمد أمن منطقة إدلب المدعومة من تركيا وكذلك العمليات العسكرية التركية ضد الجماعات الكردية اعتمادا كبيرا على قرارات موسكو السياسية. وبينما يبدو أن حرب أوكرانيا في طريقها لتتحول إلى صراع عسكري طويل ومأزوم، فإن التوازن التركي بين واشنطن وموسكو يواجه المزيد من التحديات.

وقد تصرفت تركيا حتى الآن ببراعة، ونجحت في إدارة التوقعات بين المسؤولين الأمريكيين والروس. وبتصنيف الغزو الروسي لأوكرانيا على أنه حرب، طبقت أنقرة اتفاقية مونترو لعام 1936 لإغلاق مضيق البوسفور أمام السفن الحربية، مما أدى فعليا إلى عرقلة أي مرور محتمل للأساطيل الروسية.

ومع ذلك، كان هذا العمل مجرد إجراء رمزي أكثر منه دعما عمليا لأوكرانيا، نظرا لأن السفن الروسية كانت قد انتشرت بالفعل قبل الإعلان. وتمنح الاتفاقية تركيا حق منع سفن الدول المتحاربة فقط، لكن أنقرة قررت تطبيق القاعدة على جميع السفن، بما في ذلك سفن “الناتو”. كما تجلت استراتيجية التوازن التركية في قراراتها؛ فبينما انضمت الحكومة التركية إلى إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم تغلق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية، مما جعلها استثناء بين دول “الناتو”.

وفي حين حظيت الطائرات التركية بدون طيار بالثناء الأكبر من قبل السلطات الأوكرانية، لم تنضم تركيا إلى العقوبات المالية والتجارية العالمية المفروضة على نظام “بوتين” ورجاله حول العالم. وبدلا من ذلك، اختارت أنقرة انتقاد العقوبات ووصفتها بأنها تأتي بنتائج عكسية.

ووضعت الحرب في أوكرانيا العلاقات الأمريكية الروسية على مسار جديد، وخلقت تداعيات أوسع في سوريا وخارجها، وأثرت على عملية التوازن التركية. وكما قال بعض المحللين، فإن تكثيف جهود واشنطن لعزل موسكو يقوض سياستها الحالية تجاه سوريا، التي تعتمد فيها إلى حد كبير على تعاون روسيا وحسن نيتها. وأدت العلاقات المتوترة بالفعل إلى تهديدات روسية بمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى شمال غرب سوريا عبر معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.

التهديدات الروسية لتركيا في سوريا

ولا تنبع نقاط ضعف تركيا تجاه روسيا فقط من التبعية الاقتصادية في قطاعات مثل السياحة وتدفق الغاز الطبيعي، بل تتشكل أيضا عبر المخاوف الأمنية فيما يتعلق بالوضع في سوريا. وفي الأعوام القليلة الماضية، أصبحت جميع العمليات العسكرية التركية هناك ممكنة بموافقة روسيا. وساعد رفض الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد على التعاون التركي الروسي بالرغم من كونهما على طرفي نقيض من الحرب في سوريا.

ومع ذلك، لم يكن هذا التعاون سلسا، فقد قتلت الصواريخ الروسية عشرات الجنود الأتراك في عام 2020، وهي أكبر خسارة في الأرواح للجيش التركي على أراضي أجنبية منذ غزو قبرص عام 1974. وفي المقابل، دمرت تركيا مدفعية النظام السوري وأوضحت أن موجة الهجرة المحتملة من منطقة إدلب هي خط أحمر لأنقرة.

وترى تركيا تهديدين رئيسيين في الحرب السورية حاليا. الأول هو الدولة المحتملة للأكراد والتي قد تضفي الشرعية على حزب العمال الكردستاني. ثانيا، فقدان التوازن الدقيق عبر الحدود التركية بسبب تقدم النظام السوري في إدلب مما قد يؤدي إلى موجة أخرى من اللاجئين.

وبالنسبة للتهديد الأول، تعتبر أنقرة موسكو حليفا. أما بالنسبة للتهديد الثاني، تصبح روسيا خصما بالتأكيد. ولا تزال روسيا تتمتع بالهيمنة في منطقة إدلب إذا أرادت مهاجمتها، بينما تظل القواعد العسكرية التركية ونحو 20 ألف جندي عرضة لهجمات مفاجئة.

وبالنظر إلى هذه الخلفية، ليس من قبيل المصادفة أن رد روسيا على الطائرات المسيرة التركية في أوكرانيا جاء في سوريا؛ حيث جددت موسكو تهديداتها بقطع المساعدات الإنسانية عبر الحدود التركية مما قد يكون له عواقب وخيمة على أكثر من 4 ملايين مدني في إدلب وقد يؤدي إلى موجات هجرة جديدة إلى البلدات الحدودية التركية.

كما أرسل تحالف موسكو – دمشق إشارات عسكرية. ومؤخرا قصفت القوات السورية عربة عسكرية تركية مما أدى إلى إصابة عدد من الجنود. وطالما لم تظهر الولايات المتحدة سياسة جديدة في سوريا، فمن المحتمل أن تستغل روسيا نقاط ضعف تركيا هناك. وستظل ديناميكيات الحرب السورية مهمة في تشكيل مستقبل إمداد تركيا لأوكرانيا بالطائرات بدون طيار.

ومن المهم أن نتذكر أن طائرات “بيرقدار” التركية لم تدخل لعبة الشطرنج بين تركيا وروسيا في وقت حديث؛ فقد بدأ التصدير إلى أوكرانيا عام 2017، ثم نشرت أنقرة لاحقا “بيرقدار” بشكل استراتيجي في الصراع الليبي ضد الجماعات المتحالفة مع روسيا. ويعني ذلك أن الطائرات المسيرة التركية شكلت مسار الحرب الليبية، كما عملت كقوة موازنة للنفوذ الروسي في سوريا.

تغيير اللعبة في سوريا

وقد تؤدي محاولات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتوحيد أعضاء “الناتو” ضد روسيا إلى تغيير المعادلة الأمريكية الروسية في سوريا. وبالنسبة لدمشق، فإن العقوبات الاقتصادية الشديدة على موسكو تعد تطورا خطيرا ومهددا. ومن ناحية أخرى، فإن الاستعداد المتزايد لبعض الدول العربية لقبول عودة نظام الأسد إلى الحظيرة العربية يثير الآمال لدى دمشق.

وسوف يتشكل جانب حاسم من الترتيبات الجديدة عبر القرارات الأمريكية بشأن العقوبات ضد نظام الأسد بما في ذلك “قانون قيصر” الذي يحظر على الكيانات الأجنبية القيام بأي استثمارات رسمية في المناطق التي يسيطر عليها النظام. ومع ظهور أزمة القمح بسبب الحرب في أوكرانيا، سيصبح موقف دمشق أكثر ضعفا، وقد تستخدم واشنطن ذلك في إطار استراتيجية العصا والجزرة في سوريا.

وفي حال صياغة استراتيجية أمريكية جديدة تجاه سوريا، قد يكون هناك تعاون متزايد مع أنقرة. وفي التصويت المقبل في الأمم المتحدة في يوليو/تموز 2022 لتجديد إمدادات “باب الهوى” الإنسانية إلى إدلب، من المتوقع أن تستخدم روسيا حق النقض ضد آلية الأمم المتحدة. وبالتالي، فإن هناك أزمة إنسانية تلوح في الأفق و لا تقتصر على مناطق سيطرة النظام.

وهناك 7 ملايين سوري يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها تركيا وكذلك مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” التي تدعمها الولايات المتحدة. وقد يعني الافتقار إلى التعاون الروسي أنه يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إيجاد حل مستدام من أجل وقف موجة أخرى من اللاجئين إلى تركيا وفي النهاية إلى أوروبا.

وبالنظر إلى الأزمة الإنسانية المحتملة في إدلب، من المرجح أن تشكل تفضيلات واشنطن ردود الفعل التركية. وإذا استمرت الولايات المتحدة في السماح للهيمنة الروسية الحالية بتشكيل الحقائق على الأرض، فستواجه تركيا عبء الأزمة الإنسانية وحدها، الأمر الذي سيجبرها على الأرجح على تقديم تنازلات لروسيا، بما في ذلك على الجبهة الأوكرانية، وربما تهدد الاتحاد الأوروبي بموجة جديدة من اللاجئين.

وقبل عامين عندما قتل جنود أتراك في إدلب بالصواريخ الروسية، أمر أردوغان بفتح البوابات التركية إلى أوروبا أمام اللاجئين واتهم قادة الاتحاد الأوروبي بالتنصل من وعودهم. وإدراكا منه للمشاعر القومية التركية في الداخل، أكد أردوغان أن بلاده لا تستطيع “التعامل مع موجة جديدة من اللاجئين” من سوريا.

وبالنظر ألى أزمة اللاجئين الأوكرانيين التي تعد أكبر أزمة هجرة داخلية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، قد تتسبب تهديدات تركيا في عرقلة جهود إدارة بايدن لتوحيد الدول الأوروبية ككتلة واحدة ضد العدوان الروسي.

لذلك يتوقع قادة الاتحاد الأوروبي تحركا جادا من واشنطن للتعامل مع الأزمة الإنسانية في إدلب. وإذا اختارت الولايات المتحدة مساعدة تركيا في حماية السكان المدنيين في إدلب وضمان تشغيل ممرات المساعدات الإنسانية، فسيتم احتواء نفوذ روسيا على تركيا. ويصبح السؤال هو هل يمكن التوفيق بين العلاقات الأمريكية التركية بعد سلسلة الأزمات في السنوات الأخيرة.

صفقة جديدة بين واشنطن وأنقرة

جددت الأزمة الأوكرانية بعض وجهات النظر في واشنطن والتي تسلط الضوء على أهمية تركيا الجيوستراتيجية. وإدراكا منها للحظة المناسبة، كررت الحكومة التركية رغبتها في الحصول على طائرات “إف-16” ومعدات تحديث للطائرات الحربية الحالية. كما طلب أردوغان مساعدة بايدن في رفع جميع العقوبات “غير العادلة” على صناعة الدفاع التركية.

وفي محاكاة لأسلوب أردوغان في المفاوضات، طرح المسؤولون الأمريكيون فكرة مستحيلة على نظرائهم الأتراك تتعلق باستحواذ تركيا على منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400”. واقترحوا أن تقوم تركيا بنقل المنظومة إلى أوكرانيا للمساعدة في مقاومة الهجمات الروسية، في مقابل حصول تركيا على طاذرات “إف-35” وأنظمة “باتريوت” الدفاعية.

ولم يكن من المستغرب أن يكون رد الحكومة التركية هو اقتراح فكرة أخرى مستحيلة، أي الحصول على طائرات “إف-35” وبطاريات باتريوت “بدون شروط مسبقة”. وضغطت أنقرة أيضا على دول “الناتو” الأخرى لرفع حظر الأسلحة الذي قد يلحق أضرارا بالغة بصناعة الدفاع التركية.

وبسبب عملياتها العسكرية في سوريا، واجهت تركيا حظرا كاملا على الأسلحة من قبل السويد والنرويج وفنلندا وهولندا وإسبانيا وجمهورية التشيك، وحظرا جزئيا من قبل كندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

وفي حين أن الحرب المطولة في أوكرانيا قد تزيد من القيمة الجيوستراتيجية لتركيا، ستواجه أنقرة تحديات كبيرة للحفاظ على توازنها بين حلفائها في “الناتو” وروسيا. وسيجعل الصراع المطول جهود الوساطة التركية غير منطقية، مما يدحض ادعاء أنقرة بقيمتها الاستثنائية للعب داخل وخارج “الناتو”.

علاوة على ذلك، فإن استمرار الصراع سوف يسلط الضوء على قرارات تركيا الاقتصادية التي تضر بالجبهة المتحدة للغرب. وإذا أصبح نظام العقوبات ضد روسيا معيارا دوليا، فستكون محاولات تركيا لجذب الاستثمارات الروسية قيد التدقيق.

ونمت الشكوك الغربية بعد التصريحات التركية الرسمية التي تدعو “الأوليغارشية الروسية” للاستثمار في تركيا. وردا على تساؤلات حول ما إذا كانت دائرة “بوتين” المقربة قد تستفيد من السياسات التركية، لم تخفِ أنقرة طموحها في استغلال الحدث. وتشمل المخاوف المتزايدة في الغرب إعادة تقديم بعض الشركات الروسية في ثوب كيانات تركية بالإضافة إلى مخططات أخرى لتجاوز العقوبات على النظام المصرفي.

وإذا أصبحت تركيا نقطة جذب للأموال الروسية السوداء، فإن محاولة حكومة أردوغان اغتنام الفرصة الحالية لإصلاح العلاقات مع واشنطن قد تتضرر إلى الأبد. وكانت ردود أفعال الكونجرس الأمريكي على تعاملات تركيا السابقة مع إيران وفنزويلا قوية، ولن يتم التسامح مع محاولة أخرى لخرق العقوبات من قبل الحكومة التركية. ومن المرجح أن تتضرر صورة تركيا الدولية أيضا من هذه السياسة.

ومنذ بداية حرب أوكرانيا، نجحت أنقرة في السير على حبل مشدود، ومع ذلك فإن النجاح الحالي لا يضمن إعادة بناء الثقة المدمرة بين واشنطن وأنقرة حتى الآن.

مصطفى غوربوز – (المركز العربي واشنطن دي سي)

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن