2014 يسجل أرقاما عالية للانتحار في فلسطين

انتحار

تحقيق – فادي الحسني: صدمت أسرة الطالبة الجامعية مرام (اسم مستعار) حين اقتحمت غرفتها فوجدتها غائبة عن الوعي، وحولها حاوية عقاقير فارغة، تحمل دلالة على ابتلاع جزء كبير منها، الأمر الذي دفع بالأسرة لاستدعاء الاسعاف ونقلها من الفور الى المستشفى.

بعد تدخل الطواقم الطبية في مشفى الشفاء وسط مدينة غزة، تبين أن الفتاة التي عرفت بتفوقها الاكاديمي كانت قد حاولت الانتحار بابتلاع عقاقير متعددة، ولكن تحقيق الجهات الأمنية المعنية كشف أن الدافع وراء محاولة وضع حد للحياة هو عدم توفر الرسوم الجامعية.

أمام هذه الحالة عشرات أخريات من ذكور واناث، اقدمت على نفس الجريمة، غالبية مقترفيها في عمر الشباب، تباينت دوافعهم، غير أن التحقيق كشف عن أن معظم الحالات كانت تعاني من حالة نفسية سيئة قادت إلى الاقدام على الانتحار، وهو أمر ينذر بكارثة حقيقية على المستوى الإنساني.

وتشير المعطيات إلى أن نسب محاولات الانتحار آخذة في الازدياد بالأراضي الفلسطينية، لكن نسبة الانتحار تبدو مرتفعة بشكل ملحوظ بالضفة الغربية عنه في قطاع غزة.

ازدياد وتراجع

وتشير الإحصاءات الحكومية إلى انتحار (27 مواطنا) مع نهاية عام 2014 بالضفة، فيما سجل العام 2013 انتحار (19 مواطنا)، على عكس الحالة في غزة (12منتحرا) والتي تراجعت مقارنة بالعام السابق بنسبة ثلاثة حالات.

وأشارت تقارير صادرة عن الدوائر الحكومية في رام الله إلى أن محاولات الإقدام على الانتحار تراوحت بين 2 إلى 4 يوميا، فيما كانت النسبة بغزة أقل قليلا، وقد أفادت احصاءات صادرة عن المباحث الطبية في القطاع أن نحو 350 محاولة انتحار تمت في غزة خلال العام المنصرم 2014، بمعدل محاولة واحدة يوميا. وهذا ربما عائد للتعداد السكاني بين الضفة (4 ملايين نسمة) وغزة (مليون و800 ألف نسمة).

واللافت أن محاولات الانتحار، مرتفعة عند جنس الإناث في كل من الضفة وغزة، ويرجع المختصون هذا إلى الرغبة في التخلص من الذات على خلفية الشرف، ومحاولة غالبيتهن لفت الانتباه اليهن.

وإذا كانت الفتاة مرام وهي طالبة في كلية الحقوق بغزة، قد وصلت مرحلة اليأس وحاولت تجاوز محنة العجز عن توفير الرسوم الجامعية بالتخلص من الحياة كما تفيد اسرتها، فلم يكن هناك مبرر لأن يقدم الشاب سامر أبو كتب (29 عاما)، على التخلص من الحياة، وفق ما ذكره والده أنور.

وقال والد الشاب سامر، في افادته لجهات التحقيق إنه وجد ابنه في الثالث عشر من مارس الماضي منتحرا في بيت مهجور، في قرية عقربا جنوب شرقي مدينة نابلس، معبرا عن صدمته لتصرف ابنه الذي قال انه يعيش في كنف اسرة تتوفر لها مقومات الحياة الكريمة.

ولأن وزارة الصحة بقطاع غزة رفضت التعقيب على الموضوع، على اعتبار ان الأمر جنائي بحت وغير متاح الحديث فيه إلا عبر الجهات الأمنية، تحدث المقدم محمد المعصوابي مسؤول المباحث الطبية بشيء من الشدة، على ضوء تطور حجم “محاولات الانتحار”، لكن على صعيد “حالات الانتحار” التي وقعت خلال العام المنصرم أشار إلى أن النسبة في تراجع مقارنة بالعام الذي سبقه حيث بلغت (12 حالة)، فيما كانت نسبة العام 2013 (15 حالة).

وبحثا في الاسباب الكامنة وراء قضية الانتحار، أوضح المعصوابي في لقاء جمعنا به داخل مكتبه بمجمع الشفاء الطبي، أنها متعددة ومتباينة لكن معظم الحالات تشترك في مؤثر واحد هو “التفكك الاسري”، مبينا أن تحقيقات المباحث الطبية كشفت عن ان الدوافع وراء اقدام 12 شخصا على الانتحار العام المنصرم، كانت تتعلق بـ”الخلافات العائلية، “ومحاولة الاهالي التضييق على الاناث خاصة وتقييد حريتهن”.

تحليل

عندما اخضعنا الحالات التي جرى توثيقها لدى الجهات الأمنية، للتحليل الاحصائي، اكتشفنا أن نسبة الانتحار بين الاناث كانت الأعلى، اذ بلغت 56%، فيما كانت نسبة الذكور 44%.

واذا تناولنا الظاهرة بشيء من التفصيل في قطاع غزة على وجه الخصوص، نجد أن توزيع محاولات الانتحار على مستوى المحافظات الخمس، يظهر أن محافظة غزة هي الأعلى نسبة (40%)، تليها المحافظة الشمالية بنسبة (20%)، بينما الوسطى (18%)، وخانيونس (15%)، وجاءت محافظة رفح في المرتبة الخامسة (7%).

لكن المباحث الطبية على لسان المعصوابي، أكدت أن نحو 80% من محاولات الانتحار كان الهدف منها “لفت الانتباه”، وهو أمر متعلق بالحالة النفسية السيئة نتيجة قلة اهتمام الأهل بالشخص فيحاول الاخير جذب التعاطف معه عبر الاقدام على محاولة الانتحار، كما قال. بينما رأى أن 20% من المحاولات يكون الدافع وراءها حقيقي ورغبة شديدة في التخلص من الحياة.

وليس من السهل ان يتحدث أحد عن تجربة محاولة الانتحار خصوصا من الفتيات اللواتي تتحفظ الجهات الامنية على اسمائهن وينبذهن المجتمع المعروف بعاداته وتقاليده التي تميل الى التشدد، لذلك كان البحث مؤرقا. وقد انتهى بنا المطاف عند قصة الشاب احمد (اسم مستعار) من سكان المحافظة الشمالية بغزة والذي تناول جرعة من سم الفئران محاولا التخلص من الحياة، لولا ان اسرته اسعفته فورا قبل فوات الأوان.

يشير الشاب احمد صاحب القوام الطويل، إلى أن رسوبه في الثانوية العامة كان دافعا رئيسيا وراء اقدامه على الانتحار، خاصة انه فقد بوصلة المستقبل، كما قال.

الشاب نفسه الذي أخضع لاحقا- بتوصية من وزارة الصحة -للعلاج النفسي، أكد أن تعطل والده عن العمل كان يدفعه إلى التفكير وبشدة في الحصول على معدل عالٍ يؤهله لدراسة تخصص يمكنه من العمل، ومن ثم المساعدة في الانفاق على الاسرة.

غير ان الشاب الذي لم يجتز مرحلة المراهقة، نفى أن يكون المال الدافع الاساسي وراء اقدامه على الانتحار، بقدر ما أن الامر كان متعلقا بضبابية المستقبل، وضياع الهوية والافتقاد الى اصدقاء حميمين يشدون من ازره ويعززون ثقته بنفسه، وهو أمر يلتقي مع رأي الاخصائي النفسي اسماعيل ابو ركاب، الذي كان أعد دراسة عن الانتحار في العام 2011، اكد فيها أن الانتحار ارتبط بالانعزال.

وقال أبو ركاب إن أغلب حالات الانتحار ليس لديها أصدقاء، وتعاني من الاكتئاب”، معتبرا الاغتراب النفسي من مسببات الانتحار، وأن الشخص الذي يعاني من مشكلات نفسية لديه فهم خاطئ عن الوضع.

هل يرتبط بالوراثة؟

وفي الوقت الذي ذهبت فيه بعض الدراسات العالمية إلى ربط الانتحار بالعامل الوراثي، رفض جميل الطهراوي وهو محاضر في علم النفس بالجامعة الاسلامية بغزة، التسليم بهذه الدراسات، قائلا “إن فكرة الانتحار ليست لها علاقة بالموروث الجيني، لأن الله لا يعاقب على شيء لا يستطيع الإنسان التحكم به”.

واستشهد الطهراوي بما قاله عالمي النفس “فرويد و دروكايم” إن الانتحار عدوان على الذات، ومرتبط بالعوامل الاجتماعية والتقليد، إضافة إلى الانتقام ومحاولة التخلص من الماضي.

واجمع الاخصائيان ابو ركاب والطهراوي على أن الدين الإسلامي خير واقٍ لعلاج الأمراض النفسية، وان الظروف المادية للمجتمعات ليست هي السبب الحقيقي وراء الانتحار.

واستمرارا في البحث للوقوف على دوافع أخرى غير التي تطرق إليها الاخصائيون، فإن مديرة دائرة حماية الأسرة في الشرطة الفلسطينية بالضفة الغربية المقدم وفاء معمر، لفتت في ورشة عمل نظمها جهاز الشرطة في الثاني والعشرين من ديسمبر الماضي، إلى حكاية فتاة في محافظة الخليل، (جنوب الضفة)، سجلت على أنها قضت انتحاراً، لكن تبين بعد التحقيق، وبروز أدلة جديدة، واستخراج جثتها بالتنسيق مع النيابة العامة أنها قضت بالتعذيب على يد والدها وشقيقها ابن السابعة عشرة، الذي ألصقت به التهمة، لينال حكماً مخففاً كونه قاصراً.

ولهذا قال العقيد محمود صلاح الدين مدير ادارة التخطيط والبحوث بشرطة الضفة-في ذات الورشة- إن من الصعوبة بمكان الخروج بإحصائيات دقيقة فيما يتعلق بمحاولات الانتحار، خصوصا أن بعضها يحصل داخل إطار العائلة، لا يتم تقديم شكوى رسمية للشرطة فيها، فضلا عن أن بعض العائلات تلجأ إلى المشافي غير الحكومية ولا يتم تسجيل الحالات لدى الشرطة.

وعليه شدد صلاح الدين على ضرورة العمل على إدراج المشافي الخاصة في اتفاقيتهم مع وزارة الصحة ليصبح التبليغ إلزامياً عن حالات الانتحار أو محاولاته.

الشباب والتفكك الأسري

ويتقاطع الرسم البياني الذي اعددناه للفئات العمرية التي اقدمت على الانتحار في غزة، والتي تركزت في سن المراهقة والشباب، مع دراسة اعدتها الشرطة في الضفة العام الماضي 2014، أكدت أن المراهقين هم الأكثر إقداماً على وضع حد لحياتهم، وأن التفكك الأسري والفشل في الدراسة والاكتئاب والمشاكل العاطفية، من بين الأسباب الرئيسية.

وحينما قال مساعد مدير عام الشرطة بالضفة للبحث الجنائي العميد عبد الجبار برقان، إن وسيلة “الشنق” أداة الانتحار الاكثر انتشارا بين الذكور، أكد المعصوابي مسؤول المباحث الطبية في غزة أن “العقاقير” أداة  الانتحار الأولى.

علما أن الاثنين (برقان والمعصوابي)، أكدا أن نسبة محاولات الانتحار في فلسطين، اقل بالمقارنة مع المنطقة، لافتين الى أنه وعلى الرغم من الإجراءات التي تتخذها الشرطة والجهات ذات العلاقة، فإنه يبقى من المستحيل الوصول إلى مجتمع مثالي.

أمام هذا الواقع، قدم الباحث في قضايا الانتحار، امجد السائح، تساؤلاً وحاول الاجابة عليه، يتعلق بتأخر ظهور ظاهرة الانتحار في المجتمع الفلسطيني، مقارنة بالمجتمعات الأخرى، وأرجع ذلك إلى عدة أسباب أبرزها: سياسة الانفتاح الإعلامي والثقافي “غير المضوبط” الذي يعيشه الفلسطينيون والتأثر بالآخرين.

وبين السائح أن المشكلات الأُسرية الكثيرة التي أصبح الفلسطينيون يعانونها مثل التفكك الأُسري، وانتشار بعض الظواهر الاجتماعية السلبية، انتجت جريمة الانتحار، موضحا أن التأثر الشديد لدى صغار السن ومحدودي الثقافة بما تبثه القنوات الفضائية من أفكار تحث بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الانتحار.

ويعتبر قانون العقوبات لسنة 1936 محاولة الانتحار جنحة، لكنه لا يعاقب من يقدم عليه، فيما اعتبر التحريض والمساعدة على الانتحار جريمة يعاقب عليها. وهذه مسألة تعد مثار اهتمام واستغراب لأنه لا يمكن أن تضع حداً لهذه الظاهرة وفق ما جاءت به الأحكام الآنفة.

مع العلم أن المقدم المعصوابي (غزة) أشار إلى أن المباحث الطبية تتعقب جريمة الانتحار وتحاول الامساك بخيوطها كاملة، لمعرفة ما اذا كانت هناك اطراف محرضة عليها أم لا، وذكر أنه في جميع الحالات (محاولات الانتحار) و(الانتحار) يجري استدعاء الأهل ويتعرضون للمساءلة القانونية، للوقوف على الاسباب والدوافع وراء الحادثة مع ضرورة الحفاظ على تطويقها، انسجاما مع العادات والتقاليد المتعلقة بسمعة العائلات.

حق حرام

وبينما يثور جدل قانوني على المستوى العربي، حول ان كان وضع الانسان حدا لحياته يعتبر حقا من حقوق الانسان ام لا؛ تقطع الشريعة الاسلامية الطريق على القوانين الوضعية باعتبار “الانتحار”، حرام شرعا.

ويقول استاذ الشريعة والقانون بالجامعة الاسلامية بغزة ماهر السوسي، إن حكم الانتحار في الإسلام حرام، مستشهدا بالآية القرآنية ” وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ”.

واستعرض السوسي أساليب التربية الدينية للحد من الانتحار (معنوية، ومادية)، مبينا أن من بين المعنويات، ضرورة ادراك الهدف من الخلق، وتعريف الإنسان بمصيره في الآخرة، فضلا عن التخويف من اليأس والقنوط، وربط الرزق بيد الله.

أما فيما يخص الجانب المادي، فعرج على أن الاسلام حدد عقوبة للقتل ومنها عقوبة قتل النفس، كما حث على الحفاظ على الحياة، ووفر كل السبل للمساعدة على ذلك.

وبذلك يتضح أن هناك تقصير واضح لدى مختلف الاطراف، بدءا بالأسرة التي لم تلتزم بمبادئ التنشئة السليمة للأفراد وليس انتهاء بالمربين في المؤسسات التعليمية ودور العبادة، فضلا عن القصور القانوني الذي لا يعد رادعا كافيا لظاهرة من هذا النوع، وعليه فإن الجميع في موضع مسؤولية لوضع حد للانتحار، قبل أن يستفحل في المجتمع الفلسطيني ويقلب موازينه.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن