أحمد مصطفى يكتب: حرب النفوذ

أحمد مصطفى يكتب: حرب النفوذ
الأمريكان والأوروبيون

أحمد مصطفى: كاتب صحفي

ليس الصراع الدائر حاليا بشأن أوكرانيا صراعا تقليديا، بمعنى أن ما يتحسب له الأمريكان والأوروبيون من غزو روسي محتمل لجارته الأوروبية الشرقية سيؤدي إلى احتلال وتوسع.

فروسيا أكبر دول العالم مساحة، ولا يعتقد أن موسكو تريد إضافة مساحة أخرى، بسكانها ومشاكلها، لدائرة حكمها بما يثقل كاهلها سياسيا واقتصاديا.

كما أن المخاوف الروسية من تهديد أمنها القومي نتيجة توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) بضم أوكرانيا قد تكون مبالغ فيها. فبحلف الناتو وبدونه تحتاج أوروبا للقوة العسكرية الأميركية، وبالتالي فوجودها في أوروبا وقربها من الحدود الروسية لا يحتاج عضوية أوكرانيا في الناتو. ثم إن الحلف حسب ميثاقه “دفاعي” فقط، للحماية.

إنما هو صراع نفوذ بالأساس، سواء وقعت الحرب بالشكل الذي يتم تصويره والتخويف منه أو لم تقع. فهناك إدارة أميركية جديدة وضعت أولوية استراتيجية لها في السياسة الخارجية تتمثل في تعزيز “تحالف ديمقراطي غربي” لمواجهة صعود نفوذ الصين وروسيا.

ليس لأن هذا النفوذ يهدد بالضرورة مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، ولكن لأن بناء التحالفات القوية وتعزيز القدرات الذاتية يتطلب “عدوا” ما. حتى لو لم يكن ذلك العدو بالخطر الذي يتم تصويره.

لم تبدأ حرب النفوذ تلك بحشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية هذا العام، وإنما تعود إلى نهاية العقد الأول من القرن الحالي وتحديدا مع ما سميت “الثورات الملونة” في دول أوروبا الشرقية والوسطى. ومثلها مثل الاحتجاجات في بعض دول منطقتنا مطلع العقد الماضي، كانت الخلخلة الاجتماعية/السياسية في تلك الدول فرصة للقوى الإقليمية والدولية للبحث عن فرص نفوذ في ذلك المناخ المضطرب.

كانت ما سميت “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا أفرزت حكما “غربيا” تماما يزعج روسيا. وذلك في وقت أصبحت فيه روسيا في وضع تأسي على التحول الهائل الذي شهدته منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى بداية هذا القرن من انهيار الاتحاد السوفييتي واستقلال الدول القومية التي كان يضمها ثم شبه الانهيار للقوة الروسية في فترة ما بعد حكم الرئيس ميخائيل غورباتشوف. وترى القيادة الروسية الحالية للرئيس فلاديمير بوتين أن من حق روسيا استعادة قوتها التي شجع الغرب قوى محلية على اضعافها.

أما أميركا والغرب، فلا تريد أن تتوقف عملية التحول في مناطق صراع النفوذ خلال الحرب الباردة، وتحديدا أوروبا الوسطى والشرقية. فالانتقاص من ذلك التحول سيقلل من أهمية أن الغرب كسب الحرب الباردة. في الوقت نفسه تخشى الولايات المتحدة أن يؤدي تصعيد الصراع مع روسيا إلى الدفع – على عكس ما يرغب الغرب – باتجاه تعزيز تحالف روسي/صيني قوي يشكل تهديدا للمصالح الأميركية والأوروبية.

كان ذلك التوازن في الموقف الأميركي والغربي هو الحاكم في رد الفعل على التدخل الروسي في أوكرانيا عام 2014 الذي أدى إلى انفصال شبه جزيرة القرم واحتمال ضمها رسميا إلى روسيا. ورغم العقوبات التي فرضت على موسكو منذ ذلك الحين، إلا أنها لم تكف لردع روسيا عن الاستمرار في حرب النفوذ. بالضبط كما أن العقوبات الغربية والدولية على إيران لم تردعها عن التدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها وإثارة عدم الاستقرار الإقليمي.

وسواء اندلعت الحرب أو عملت روسيا على “تغيير النظام” في أوكرانيا بطريقة أخرى، وأيا كان رد الفعل الأميركي والغربي، فإن حرب النفوذ تلك لن تنتهي قريبا. ويفتح ذلك بابا لآخرين في العالم للعمل على تعزيز مصالحهم وربما الاستفادة من ذلك الصراع دون التورط المباشر فيه أو حتى اتخاذ مواقف قوية بالوقوف مع هذا الطرف أو ذاك. وربما ينطبق ذلك أكثر ما يكون على الصين وقوى آسيوية أخرى.

فالصين حتى الآن هي المستفيد الأكبر من ذلك الصراع بشأن أوكرانيا وحرب النفوذ بين روسيا والغرب في أوروبا. قد تبدو تلك الاستفادة اقتصادية بالأساس، ففي زيارة الرئيس الروسي لموسكو مع افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية تم التوقيع على اتفاقات ضخمة بين موسكو وبكين أهمها في قطاع الطاقة. لتستفيد الصين من حاجة روسيا لإيجاد بدائل لصادراتها من النفط والغاز فتحصل على عقود لسنوات قادمة توفر لها الطاقة اللازمة لاستمرار نموها الاقتصادي. وإذا كان ذلك يوفر لموسكو المليارات من عائد الصادرات فإنه يوفر لبكين فرصة لتقليل اعتمادها على واردات الطاقة من مصادر مضطربة مثل إيران وغيرها.

لكن الاستفادة الصينية ليست اقتصادية فحسب، بل هي استفادة استراتيجية مهمة تتجاوز حتى تعزيز تحالف روسي/صيني في مواجهة الغرب. ففي ظل تركيز واشنطن وحلفائها على مواجهة روسيا تتاح لبكين مساحة معقولة للاستمرار في خططها لبناء تحالفات مع دول ومناطق في مقدمتها الدول العربية والقارة الأفريقية إضافة طبعا إلى جنوب شرق آسيا. تلك المساحة مهمة للصين لأنها فرصة تتفادى فيها التصدي الأميركي لمحاولاتها تعزيز نفوذها خارج حدودها.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن