إنهم يعذبون مرضى السرطان..!

أكرم عطا الله

الكاتب / أكرم عطا الله

أي دولة تلك التي يستنفر أمنها وينقب في ملف رجل بالعقد السابع من عمره مريض بالسرطان؟ إنه بحاجة للمرور من أراضيها، فقط، وليس أكثر. وأي أمن هذا الذي يشعر بالذعر من رجل بهذا العمر وبهذا المرض حتى يرفض للمرة الثانية إعطاءه التصريح ومنع مروره وتركه ليموت هنا في غزة، التي شاء قدرها وعبث أبنائها في أن يغلق معبرها الوحيد المطل على العالم ليعيدونا تحت رحمة إسرائيل وتصاريحها.
أي دولة تلك التي تدعي بغرابة على أنها جزء من العالم المتحضر، بل وتصر على أن لديها فائضاً من الإنسانية، ما يمكن أن يشكل مدرسة للمحيط العربي، ولكن بتفاصيلها اليومية كدولة احتلال، فإن العذاب اليومي الذي يتلقاه الفلسطينيون يكشف عن زيف هذا التحضر، حين يصطف آلاف المرضى الذين يئنون من شدة المرض في طوابير بانتظار السماح لهم بالعبور للمستشفيات الفلسطينية في الضفة، وفيما هم بحاجة إلى نقل عاجل، يمارس الإسرائيلي ساديته، ضارباً كل القيم الإنسانية ببسطار جندي يصر على أن يبقى على رقابنا، رافضاً السماح لهم.
هناك عشرات، بل مئات من الحالات التي تسمع عنها، لكن أن ترى أحدهم وتصغي لأنينه فهذا وحده كفيل بأن يعيدك إلى مربع الصراع الأول، وأن يعيد تأصيل طبيعة العلاقة مع الاحتلال، الذي لا يمنعنا فقط من الاستقلال، بل يصر على التحكم بتفاصيل حياتنا اليومية، ولا يتوقف عن إصدار أحكام الموت اليومية مرة بالصاروخ، ومرة بالرصاصة، ومرات بالسرطان وأمراض الكلى؛ عندما يمنعنا حتى من تلقي العلاج.
فتحي شاهين، صديق في منتصف الستينيات من عمره،  اكتشفنا أن السرطان اقتحم صدره منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ولأن غزة التي أخرجت نفسها من الحياة ولا تزال تصر على السقوط في العدم، بعد صدام أبنائها وصراعهم على السلطة، تخلو من أي إمكانيات لعلاج هذا المرض، وكما يحدث لكل الحالات المشابهة يتم تحويل المريض إلى مستشفيات القدس أو نابلس، وهي مستشفيات فلسطينية، وليس من حق أي دولة، بما فيها إسرائيل، منع فلسطيني من العلاج في مستشفى فلسطيني.
للمرة الثانية، يرد الإسرائيلي بالرفض، بعد أن تم الحجز مرتين، وهذا يتكرر مع المئات من الحالات المرضية.. كيف؟ ولماذا؟ وإلى متى يمكن أن نحتمل هذا التعذيب لآبائنا وأصدقائنا الذين يموتون أمامنا ونحن في ذروة العجز من فعل أي شيء؟ وهل من حق الإسرائيلي أن يمنع مريضاً من المرور على الحواجز؟ وكيف تقبل السلطة ذلك دون إثارة المسألة أو حتى تقديم شكوى في المؤسسات الدولية أو طلب لجنة تحقيق في قضية إنسانية لا بد وأن تدان فيها إسرائيل؟ فأي سبب أمني يهدد إسرائيل من هؤلاء المرضى وبهذه الأعمار؟
يبدو أن الأمر لا يتعلق بالأمن بقدر ما يتعلق بتصفية حساب التاريخ مع المرضى، خصوصاً جيل الحرس القديم الذي رافق الثورة ومعاركها. وها هو يقع في المصيدة الإسرائيلية دون رحمة، فالصديق شاهين، الذي التحق بالثورة منذ نهاية ستينيات القرن الماضي وصولاً لحرب بيروت، حتى عاد مع بداية تأسيس السلطة ليعمل في وزارة الشئون الاجتماعية مسؤولاً عن ملف الشهداء والجرحى، وبعد سيطرة حركة “حماس” على قطاع غزة عين رئيساً لمؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن تسلمها من السيدة انتصار الوزير “أم جهاد”.
لقد أديرت تلك المؤسسة بكفاءة عالية في أصعب الظروف بعد الانقسام، بل وقدم فتحي شاهين نموذجاً مميزاً عن كل المؤسسات الفلسطينية، وهو الرجل الذي قاد مؤسسة كانت  موازنتها السنوية تبلغ 25 مليون دولار، خرج منها نظيفاً إلى الحد الذي يضطر أحياناً للاستدانة من الأصدقاء من أجل إكمال تعليم ابنه، ومع كل هذه الخدمات يجلس وحيداً في منزله بانتظار رحمة الإسرائيلي ودون أدنى اهتمام من منظمة التحرير التي أدار واحدة من أهم مؤسساتها في لحظة حرجة.
لقد وفرت لي لحظة مرض أحد الأصدقاء فرصة للاطلاع على ما يجري في هذا الملف، وكيف يتعامل الإسرائيلي منزوعاً من إنسانية تسقط كل ادعاءاته، وكنت أتابع تعامل السلطة ووزارة الشؤون المدنية وتفاصيل تحركها لطلب التصريح، حيث  تقوم بإرسال الطلبات وانتظار الرد مجردة من أي قوة في التعاطي مع إسرائيل. كلما كنت أسأل حتى اللحظة الأخيرة أسمع أن “الرد لم يصل بعد”.
وإذا كنا نقبل مرغمين بالتنسيق الأمني فهذا مقابل التنسيق المدني، ولكن عندما تنكل بنا إسرائيل إلى هذا الحد علينا استخدام ممكنات قوتنا وهي بالحد الأدنى الاحتجاج من خلال رفض التصاريح وإغلاق البوابة. أما أن يترك الخيار للإسرائيلي في أن ينتقي ويختار كما يريد ويعاقب من يريد فهذا لا يجوز ولا نقبل به كشعب. هذه المسألة بحاجة إلى إثارة وإلى وضع حد لمسلسل العذاب الطويل، فلماذا لا نقدم شكوى للأمم المتحدة أو حتى نطلب تدخلها في الملفات الطبية لأن لا شيء مقنع بالخوف من مرضى السرطان المثقلون بالألم وهم بالكاد يتمكنون من السير بصعوبة.
لا نقبل بأن تكون السلطة الفلسطينية مجرد ناقل للرسائل أو وسيطاً بين الفلسطيني والإسرائيلي. دور السلطة ينبغي أن يكون دوراً أبوياً مسؤولاً عن كل طفل فلسطيني. مسؤولية مستعدة للنضال من أجل كل فلسطيني. فكما رفضت استلام تصاريح قبل فترة بالضفة الغربية في موقف احتجاجي على تجاوزها، يفترض بها أن تتخذ مواقف أكثر صرامة حين يتعلق الأمر بهؤلاء المرضى.

[email protected]

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن