العرب في إسرائيل بين نارين

جواد بولس
جواد بولس

الكاتب: جواد بولس

تتوالى الأخبار علينا كزخات الماء في غابات المطر؛ فما أن انتهت القوائم من مقابلة رئيس الدولة، حتى انشغلنا بخروج حزب التجمع عن موقف حلفائه في القائمة المشتركة، وامتناعه عن ترشيح غانتس لتركيب الحكومة المقبلة. دارت النقاشات وتباينت الآراء، فحذّر البعض من إرساء سابقة ستجيز لكل حزب أن يخرج في المستقبل عن إجماع رفاقه، ما سيضعف الوحدة ويضعضع متانتها، وذهب آخرون إلى أن الخطوة كانت محكمة وتمّت بالتنسيق مع حزب كاحول- لافان، ثم أعلنت لجنة الانتخابات العامة النتائج النهائية، فربح حزب الليكود مقعدًا على حساب حزب يهدوات هتوراه.

وفي المقابل بموازاة ذلك كلّه لم تنقطع أخبار سقوط القتلى في قرانا، حتى وصل عددهم إلى ثمانية في أربعة أيام فقط. إننا نعيش في عالمين؛ تبني شاشات التلفزيون والحواسيب أوّلهما بينما نواجه الثاني في جميع لحظات حياتنا وفي كل خطوة نخطوها. لم تنتبه جمانة حينما كانت تفتش مع صديقتها على زاوية آمنة في أحد المقاهي الشهيرة في المركز التجاري الكبير، للرجل الذي كان يجلس إلى الطاولة المجاورة وراءهما. سمعهما تتحدثان بالعربية فقام عن كرسيه واقترب كثيرًا وسألها بلهجة عدائية «هل أنت مع القائمة المشتركة؟». كان رجلًا في الخمسينيات من عمره يلبس بنطالًا قصيرًا لونه أزرق مخططًا بالأبيض وفوقه سترة بلون صدأ النحاس؛ لاحظت، عندما رفع يده في وجهها، أن ساعده مطوّق بساعة رياضية لون حزامها أصفر، وقريبًا منها كان خنصره يختنق بخاتم بارز يشبه خواتم سماسرة القمار والرهانات الكبار.

«هل يزعجك انني مع القائمة المشتركة؟» سألته جمانة. لم يدعها تكمل جملتها وراح يصرخ في وجهها ويشتمها ويطالبها بأن تترك إسرائيل وتعود إلى غزة؛ «عودي إلى هناك على جمل فأنتم لا يليق بكم إلا الجمال». كان شرسًا ومخيفًا وحين استقام ودفع صدره إلى الأمام، بدا لها لون وجهه كالنبيذ الرديء الذي يميل إلى حمرة قانية تخفي سمرة هي لون وجنتيه الشرقيتين الأصلي. بدأت جمانة وصديقتها تتحركان نحو باب المقهى وهو يلحق بهما. ربما كان في عقده السادس، شعره أبيض خفيف يغطي جانبي رأسه وعيناه مدورتان كعيني ذئب جائع. «إذهب أنت من حيث جئت» أجابته بثقة صاحب البيت. غضب حتى صار كلامه أكثر حدة. نظرت جمانة نحو امرأة سألتها عما يحدث فحاول أن يضربها من الخلف ولكن صديقتها مدّت ذراعها وصدته. أنهت جمانة قصتها الموجعة، حين كانت الشاشات تنشر خبرًا عاجلًا عن تكليف رئيس الدولة ريفلن لنتنياهو بتركيب الحكومة.

لم يكن الخبر أمرًا مفاجئًا أو قرارًا غريبًا؛ فبعد أن تبيّن أن الناخبين الإسرائيليين لم يحسموا خياراتهم بشكل قاطع، وبعد أن اتضح أن صناديق الاقتراع أنتجت واقعًا سياسيًا معقدًا وملتبسًا، وبعد أن استرجع نتنياهو هوامش واسعة تساعده على المناورة وتتيح له فرصًا لاستعادة مكانته، كالرجل القوي القادر على قيادة معسكر اليمين العنصري والفاشي، بعد كل ذلك فقد صار محتملًا أن نفيق لنجد أنفسنا، نحن المواطنين العرب، واقفين في محطة القطار السريع نفسها التي كنا على رصيفها قبل السابع عشر من سبتمبر/أيلول الجاري. بدأنا نناقش تداعيات الخبر وفي الجو شعور من الخيية أو ربما الخوف؛ لقد أحسست، هكذا قلت لأصدقائنا، ساعة أعلن الفرقاء عن بناء القائمة المشتركة من جديد، أن جميع من سعى في سبيل إنجاح المهمة كان مدفوعا بوازع من ضميره الوطني وبشعوره /خوفه من فداحة الهزيمة الكبرى التي كان سيمنى بها مجتمعنا، لو خضنا الانتخابات ونحن على حالة التشرذم التي كانت سائدة، وفي أجواء الاقتتال الفصائلي التي خاضتها معسكرات حزبية هرمة، وجنود كانوا يبيتون على حافة اليأس والتيه. فهل سيذهب كل ذلك سدى؟

لم يخفِ نتنياهو وحلفاؤه، في السنوات الأخيرة، شروطهم المستفزة لقبولنا كمواطنين في الدولة؛ ولم يتركوا لأي عاقل منا أي فسحة للوقوع في الخطأ أو للمغامرة بنزق؛ ففِرق الموت، التي أنعشها تحريضه وتحريض حلفائه، أنجزت رحلات صيدها جهارة، ولاحقت فرائسها في الشوارع، وفي الحدائق العامة وفي الشطآن، وفي المراكز التجارية؛ ولم توفر، على الجبهات الأخرى، كتائب الأمر بالطاعة وفرض الولاء جهدًا في محاصرتنا في الكنيست وفي الوزارات وفي المحاكم و»قراقيشها» .

كان المناخ السياسي مقلقًا وخطيرًا وبسببه اختارت الأحزاب والحركات السياسية أن تتبنى نهجًا نضاليًا وحدويًا، فاصطفوا جماعةً وراء شعار الحملة الانتخابية الأبرز والأهم وهو، «إسقاط نتنياهو ومعسكره والتصدي لنهجهم»، مؤثرين السير في طريق ضيق يجمعهم بدل أن يتمترسوا آحادا في خنادق الوهم الوسيعة، أو التحليق على أجنحة رعودهم المهيضة. أجمعنا على أن ما أحرزته القائمة المشتركة يعد إنجازًا ، خاصة إذا تخيلنا بدائله وتأثيرها على مستقبلنا. تحاول بعض الجماعات التي قاطعت الانتخابات أو بعض الناقدين والمحللين تحميل القائمة المشتركة المسؤولية عن نتائجها، وفي هذا تجنٍّ وتنكر للمكاسب التي تحققت، حتى لو اعتبرناها متواضعة؛ ويهاجم البعض المشتركة متهكمًا على وحدتها الهشة، أو شامتًا أو مزايدًا على موقفها بعد الانتخابات. أما المؤسف أنهم يفعلون ذلك وهم واقفون على الضفة، ويصفقون للسيل رغم انه يجرف نبتهم ويهد قبابهم؛ فنحن لم نسمع من جميع من تفّه تجربة المشتركة الأخيرة، كيف عساهم أن يسعفونا، إذا تمكن الجراد الفاشي واستوطن على رقبة الدولة، وما إذا جاءت جحافله لتستتوبنا، نحن العرب، أو لتأمرنا بطاعتهم أو بدفع الجزية للدولة اليهودية، إما عن رضا، وإما ونحن صاغرون؛ أو إذا رفضنا، كيف سنقاتلهم وبأي وسائل؟ لم يقل أحد أن إسقاط نتنياهو ونهجه قد يفضي إلى دحر اليمين الإسرائيلي أو اختفائه، ولم يدّع طرف بأن حزب «كاحول- لافان» ورئيسه غانتس هم زهرات من مشاتل اليسار.
كان واجبنا ولم يزل أن نتصدى للطرف الأسوأ وأن نحاول صد الأخطر؛ ومن لا يرى في معسكر نتنياهو انه أخطر الخطرين، فهو إما غاف أو حالم ينظر للواقع بعين من زجاج أو من سراب، ومن يستخفّ بما يُعدّونه لنا فليقرأ كيف نجحت كتائب الموت السوداء، في بناء أمجادها في برلين من جماجم ناس حالمة، ومن نوايا أناس قامروا على طيبة غيب شيمتُه الغدر. لم تكن القضية بالنسبة لنا ولن تكون أي اليمينين حليفنا؛ فأمامنا كل الجهات عدم، والواقع كالسيف مشهر، إما في حلوقنا أو في أيادينا؛ ولا خلاص لنا ولا خُلاصات إلا في تعاليم الندى للعطش أو في رقص الديوك، أو في العشق على طريق النحل والصدى. كان إغواء الصلاة في الشرق مذ سحرت عشتار صدر الفجر وأرقصت مزامير داوود خواصر العذارى، ومذ أغشت عصا موسى عيون المدى.

الأحلام جميلة لكنها لن تحصل بلا نوم، والنوم في مواقعنا عسير بدون هدأة البال والاستقرار؛ والأشجار تموت واقفة لكنها أبرك وأفيد وهي خضراء ماوية؛ فلا وقت لدينا للمزايدات ولا لليأس؛ ومن يرى الفاشية غيمة عابرة، فليقنع ويكتف بلعنها من شرفته ولينتظر حبر القمر؛ ومن يراها نزوة عربيد ثمل، فليحاول إغراقها بالبصاق أو فليدع عليها بالبرص. نحن بين نارين، نار أعدائنا ونارنا، وستكون نجاتنا ممكنة إذا أطعنا عقولنا وتخلينا عن مداعبة القدر.

اتصل مئات الأصدقاء، يهودًا وعربًا، بجمانة وبنا ليعبروا عن تضامنهم وعن شجبهم للاعتداء عليها وعلى صديقتها. بعضهم حثنا على تقديم شكوى لدى الشرطة مع أن معظمهم أكدوا أنها لن تفيد. كان مريحًا أن نشعر بوجود الأصدقاء والحلفاء بين ركام الحطام، وجميلًا أن نسمع إنهم يحبوننا وإنهم يشعرون مثلنا كضحايا يجب أن تنتفض إزاء فكي وحش لاحق جمانة في المقهى، لا لأنها عربية فحسب، بل ولأنها صوتت للقائمة المشتركة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن