حصان فلسطين الجديد

زياد خداش

بقلم: زياد خداش

هكذا صار بوسعي أن أقولَ إني وجيلي منعنا الدبابة الصهيونية التي اجتاحت مدن بلادنا من الاقتراب من نصوصنا إلا بالمقدار الدقيق الذي نسمح به ليخدمَ فنيتها، صارت نصوصُنا هي الدبابة وصارت دبابات العدو في مرمى قذائفنا. طبعاً لم يحدث كل هذا بسهولة، عانينا نحن جيلَ التسعينيات، من إغراءات الضعف أمام كراهية الدبابة، في نصوصنا، كان ممتعاً أن نكرهها كتابة، وكان مقدساً أن نكرهها خارج الكتابة، المصيبة كانت أن ننقل كراهيتنا لها بكامل حمولاتها الساخنة إلى كتاباتنا، كانت الدبابةُ تنتصر علينا مرتين، مرة حين تغزونا في عقر بيتنا، ومرة أُخرى حين تغزو نصوصنا فتحيلها خطاباتِ ثأر وبيانات ثورة، وفي حربنا مع الدبابة التي تقتحم بيوتنا، أحرقنا الدبابةَ من خلال حرق النص وبعثرة رماده، فأحلناها إلى هياكل فارغة من الكرتون غير المقوى، وهذا ما حدث، فبعد أن كان الفلسطيني في كتاباتنا أسيراً وسيماً في سجون الاحتلال، يفكر في الخروج ليواصل نضاله، صار من المحتمل أن يكون رجلاً يائساً، زهق من الحروب، وحلم في إشبيلية مستقراً لبقايا مساحات جسده التي لم تنسها الرصاصاتُ كما هو متوقع، بل أجّلت ثقبها، وصار يمكن أن يكون وجه الفلسطيني مليئاً بحَب الشباب، لا بل

معان الشباب، وربما يصبح تاجراً جشعاً، وصار من الطبيعي أن نرى في يديه آثار دم، ليس بفعل رصاصة جندي محتل، بل لاقترافه حادثَ اغتصاب بشع خارجَ سور مدرسة، ولم يكن صعباً اكتشافُ أن المرأة الفلسطينية يمكن أن تكون كباقي نساء الأرض.

أما لغة النص السردي فكانت حصاناً مسناً، بحوافرَ باردة، محدودب الظهر، ركض كثيراً في ذات المساحة، على ظهره أكياسٌ كبيرة من الحجارة والرسائل البريدية والرصاص، كنا نراقب صهيلَه المتحشرج الأخير وهو يتقيأ نهايته الحزينة.

انبثق في فضاء فلسطين حصان جديد، بحوافرَ مجنونة عطشى الى أرض جديدة، لم تتخل نصوصُنا عن فلسطين كما سنُتهم فيما بعد من قبل المدافعين عن صهيل الزمن القديم، عكس ذلك هو الصحيح، صار لفلسطين صوتٌ جديد، أكثر خفوتاً وأقل ألماً، فبعد أن كانت تُقتل مرتين، مرةً برصاص لغة النص الركيك، ومرةً برصاص المحتلين، صارت تُقتل برصاص المحتلين فقط.

ولن يفوتني هنا أن أذكر، أن عودة العشرات من مثقفي فلسطين في المنافي بعد اوسلو، كان لها أثر كبير على حياتنا الثقافية وبنية حياتنا اليومية وكتاباتنا، كنا محبوسين في سجن أدب سميناه من فرط وحشتنا الثقافية (الأدب المحلي)، فتدفق حشدٌ من ادباء المنفى من مدن المنفى الواسعة، على أرض رام الله الصغيرة، هكذا كان حين عاد يحيى يخلف ومريد البرغوثي واحمد دحبور وغسان زقطان ووليد ابو بكر ورشاد ابو شاور وزكريا محمد وخالد درويش ومحمود ابو الهيجاء وحسن البطل وليانة بدر وفيصل قرقطي، وحسني رضوان، وآخرون كثيرون.

على حدود اوسلو وُلدت، على حدود اوسلو وُئدت، كأني حلمت يوماً حلماً، أو كتبتُ نصاً، لم أعد أتذكر، ولا أظن أني رأيت رؤيا، كل ما حدث أني رأيت سبع بنادقَ تنحني لي في الحُلم، وتنبت منها سبعُ كلمات، فهل تلد البندقية كلمةً، البندقية تقتل الكلمة، لذا اخترتُ القلم، اخترت القلم لأني فهمت الرؤيا، العالم لم يعد يحتاج لنبي يخزن له القمح، العالم يحتاج لأديب يبعث نقاء اللغة، صدّقت حلمي، فصرت كاتباً شقياً وبائساً.

هذه شهادة في الشقاء والبؤس، لكنه بؤس الكاتب وشقاؤه.

*جزء من شهادتي في ندوة نص فلسطين الجديد، ضمن فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن