دحلان والمشهد السياسي القادم

د. أحمد يوسف
د. أحمد يوسف

د. أحمد يوسف

نتفق أو نختلف حول النائب محمد دحلان كشخصية (مثيرة للجدل)، فإن هذا لن يغير من جوهر الأمر شيئاً، حيث إن القضية التي يعرفها كل فلسطيني أن من تسبب في شيطنة دحلان هو ذلك الخلاف الذي وقع بينه وبين الرئيس أبو مازن، أما قبل ذلك فالكل كان يتقرب إليه ويخطب وده!!
فلم يكن الخلاف ابتداءً حول الرؤية السياسية واستراتيجية التعامل مع المحتل وآليات العمل والتحرك، بل كان بين عقلية تريد اخضاع الكل، فلا يناقشها الحساب أو يتحدى سلطتها المطلقة أحد!!
إن مشكلة دحلان أنه شخص عنيد وجريء ومحاور جيد، وقادر على إحراج خصمه، حتى وإن كان منتسباً لنفس فصيله.
إن خلاف الرئيس (أبو مازن) مع دحلان هو اليوم ما تتحدد عليه مفاصل العلاقة بين فتح الرئيس وفتح دحلان!! فالأول يمتلك صلاحيات مطلقة وقدرات عقابية عالية، تجعل الغالبية تخشاه وتتردد في مراجعته، ولا تجرؤ حتى على التدخل لإصلاح ذات البين بينه وبين دحلان، حيث أغلق الرئيس جميع الأبواب والنوافذ، باعتبار أن دحلان هو السياسي الوحيد الذي تأتي من جهة بابه الريح، بما يعنيه ذلك من تهديد لزعامته من ناحية، وتبديد لفرص الطامعين في خلافته من قيادات الضفة الغربية من جهة ثانية.
لذلك، أقول لكل من يحاول استمراء تسويق القراءة السلبية عن دحلان، ولا يريد أن يغفر للرجل ممارسات كانت تنسجم حينها مع توجهات ما تمَّ الاتفاق عليه في أوسلو، في حين أن التنسيق الأمني الذي رفضه المجلس المركزي في أكثر من اجتماع له ما يزال هو ديدن السياسية الفلسطينية الرسمية، ورجالاته هم علامات أمنية مسجلة، ومع ذلك فهم يسرحون ويمرحون بأثواب وطنية مزركشة، ويلتقيهم الكل بحفاوة وترحاب!!
في الحقيقة، إن من يمتهنون لغة التحريض على الرجل والتشهير به، هم في الوقت نفسه من يدافعون عن غيره ممن تخرج ممارساتهم اليوم عن السياقات والتفاهمات الوطنية!!
بالطبع، ليس هناك من تفسير لمثل هذه التناقضات في السلوك والممارسة إلا أنهم يعملون فقط على خدمة مصالحهم الشخصية، من حيث إن هذه الكتابات تجني لهم منفعة أو كسباً مادياً من هنا أو هناك، ولكنها بالتأكيد تضر بالقضية الفلسطينية.
أنا من جهتي لا أحب التشهير بأحد، ولا أملك جواباً قاطعاً أعطيه لهذا الطرف أو ذاك حول فلان أو علَّان، فأنا لا أملك مشرط الجراح إذا ما سألني أحد: “هل شققت على قلبه؟”، وإذا تركنا المجال مفتوحاً للاجتهاد في اطلاق الاتهامات فلن ينجو أحد، وستغدو كل قياداتنا الفلسطينية “عميلة” لهذه الجهة أو تلك، ولا أعتقد أن في ذلك صوابية رأي أو حكمة موقف؛ لأن المشهد الفلسطيني سيبدو حينئذ وكأنه مضروب وطنياً، فيما الحقيقة هي غير ذلك، حيث إننا شعب يعيش تحت الاحتلال، وأن الصورة الوردية المطلوب تقديمها لا يمكن توفيرها بالشكل الوطني المنشود، فالاحتلال “إيده طايله” إقليمياً ودولياً، ويحتاج البعض أن تظل قنواته كشخصية سياسية مفتوحة على كل الاتجاهات، بهدف التخذيل ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
عريب الرنتاوي: بين التساؤل والعتب؟
إن من حق الصديق الرنتاوي، كفلسطيني أن يكتب بقلمه ما يشاء فهذا حق له، ورأي المرء في مواقفه وتحليلاته هو على قدر تجربته ومعلوماته، ولكن عندما يأتي تشخيص وتحليل مصطحباً بذكر لشخصي، فإن المنطق يستدعي الرد، خاصة وأن الصديق عريب الرنتاوي ينتمي لمدرسة فكرية وأيديولوجيا بيننا وبينها مساحة من التباين والاختلاف، والذي – من وجهة نظري – لا يمنع أن تتقاطع مواقفنا في فضاءات من التوافق والعمل المشترك. ونحن حين نسجل اعتراضنا بتناول الرد عليه فهو من باب العتب والتصويب ليس إلا.
ففي المقال الذي نشره صديقنا الرنتاوي بصحيفة الدستور الأردنية، بتاريخ 18 فبراير الماضي، تحت عنوان (حماس ودحلان وبينهما أحمد يوسف)، معقباً بأسلوب تهكمي على مقابلة لي أجريتها مع الصحفية د. نادية سعد الدين. الأمر الذي استثارني للرد على بعض عباراته، والتي وجدت أنها تفتقر إلى الاحترام والمهنية، من حيث غياب المفهوم الدلالي لها، مثل: القيادي الحمساوي “المفرط في اعتداله” أحمد يوسف!!، و”المسؤول الحمساوي المعروف بمواقفه الإشكالية!! وحيث إني معروف عني الاعتدال، إلا أن الافراط في الاعتدال لم أجد له تعريفاً في قاموس العرب، ويبدو أن تعبيره كان من ذلك النوع الذي يقال عنه أنه “حمَّال أوجه”، وكنت سأتقبل ذلك ولا أرد عليه، إلا أن قولته بأني صاحب مواقف إشكالية!! هيجت قلمي لأقول – لصديقنا الرنتاوي – ولكن بالتي هي أحسن: لمن تقرأ مزاميرك يا داوود؟
أتمنى عليك يا صديقي أن تكتب وبوصلة الوطن وغاياته حاضرة على أشرعة سفينتك، والتي كنت وما زلت احترمها، ولكن عليك أن تقرأ بعين فاحصة ما يجري في ساحة قطاع غزة من مشاهد كارثية ومآسٍ إنسانية، لسنا هنا الآن بوارد نقاش من هو المسئول عنها.. إن ما نواجهه في قطاع غزة من ظلم القريب قبل البعيد يوجب أن تضم صوتك معنا، وليس شحذ قلمك الذي تعودنا أن نقرأ سطوره بارتياح لهدم جدار الثقة بيننا.. إننا اليوم في قطاع غزة أمام مشهدين: المشهد الأول؛ وترسم ملامحه توجهات الحكومة في رام الله متمثلة برؤية رئيس الوزراء؛ د. رامي الحمد الله، وهو يتناول موضوع قطاع غزة الغارق في مواجعه ومآسيه على المستويين المعيشي والإنساني، والمشهد الثاني؛ نظرة النائب دحلان، الذي يعاتبنا البعض ومنهم صاحبنا الرنتاوي لعلاقتنا في تطوير شراكة وطنية معه على قاعدة العمل من أجل استنقاذ أحوال أهلنا في قطاع غزة!!
قراءة في مشهدين، وتساؤلات!!
للصديق عريب الرنتاوي أقول له مذكِّراً بأننا عشنا نفس الجيل الذي تربى على النخوة والعزة والكرامة، وتنشأنا على الخطاب العروبي الذي سرى في دمانا وكان بلسم جراحنا كفلسطينيين، ثم جاءت حركة فتح وغرست فينا هويتنا وانتماءنا للأرض، وحركت فينا الثورة، وكانت مسيرة نضالنا كقوى وطنية ودينية، والذي حملنا فيها أحلامنا بقرب التحرير والعودة، إلى أن وقع ما اعتبرناه نكبتنا الثانية، حيث نزغ الشيطان بيننا كإخوة درب، وصار حالنا يبعث على الحسرة والأسى.. تشرذم الجميع وأصابه الوهن، وارتفعت أسهم الاحتلال بعدما انهارت حصانة أمتنا وتداعت إمكانيات فعلها في الإطارين القومي والأممي.
نحن كفلسطينيين اليوم تردت أحوالنا، وتعالت نبرة التلاعن والسباب بيننا!! وتكاثرت الاتهامات وتراجع منسوب الوطنية إلى مستويات متدنية جداً، حتى غدا حالنا ينطبق عليه قول القائل: “فاتني طبع المجاهد، لم أعد غير مشاهد”!!
اترك لك يا صديقي أن تقرأ هذين المشهدين، وأن تعطيني رأياً في كل منهما، فهذا ما يقوله دحلان في رسالته للفلسطينيين: “لقد أعلنت مراراً وتكراراً مواقفي من كل القضايا والملفات الوطنية والحياتية، بما في ذلك شؤون الحكم والإدارة، بل ووضعت جميع إمكانياتي وعلاقتي كجندي فلسطيني بتصرف من يملك الإرادة والرؤية، للخروج بأهلنا من هذا المأزق والمنزلق الخطير، الذي أوصلتنا إليه مجموعة التنسيق الأمني والفساد المتسلطة، ولست بحاجة إلى تأكيد مواقفي المعلنة، لكني فقط أذكِّر بها، وآخرها ترحيبي بقرارات المجلس المركزي الفلسطيني، التي لم ولن ترى نور التطبيق في هذا العهد المخزي والمشين”.
وتابع قائلا: “في الواقع المأساوي الراهن لشعبنا، وخاصة واقع أهلنا في القدس وغزة، فليس بمستطاع فرد واحد أو حتى تنظيم واحد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فلقد تعمقت الأزمة وتخطت حدود الأفراد والتنظيمات، وتخطت حدود كل الصفقات الافتراضية؛ الثنائية منها أو الثلاثية والرباعية، وليس هناك من سبيل لدحر التجويع والتسليم إلا من خلال برنامج وقيادة إنقاذ وطني يشارك فيه الجميع؛ دون إقصاء أو استثناء”. وأكد قائلاً: “إن تحقق مثل ذلك الرجاء المنشود، فسيجدني الجميع جندياً لا يأبه بموقع، ولا يبحث عن منصب، بل عن دور يؤدي فيه قسطه أو أكثر من معركة الإنقاذ الوطني”.
وإذا يممنا أبصارنا شطر المشهد الآخر، واستمعنا إلى ما تقوله حكومة د. رامي الحمد الله لوجدنا الكثير الذي يستفز مشاعرنا، والذي يُخرج خطابها عن السياق الوطني، وكأنها أحد حلقات التآمر على قطاع غزة.
ففي التصريحات التي أطلقها رئيس الحكومة خلال عرضه لمشروع الموازنة العامة، قائلا: “لقد أكدنا ولا نزال، أنه فقط بتمكين الحكومة بشكل شامل وفاعل، نستطيع العبور إلى مرحلة أخرى من توحيد الطاقات والموارد والكفاءات لزيادة الإيرادات الذاتية، وتعزيز العمل الوطني والمؤسساتي لتحسين ظروف حياة أبناء شعبنا في غزة، والتحرر من الأعباء المالية غير المبررة التي تراكمت طوال سنوات الانقسام المأساوي، الذي أضعف قضيتنا وكبلنا بتكاليف كبيرة، وستمكننا المصالحة والوفاق الوطني من البناء على الإنجازات التي تحققت مالياً وإدارياً، والإسراع في الإصلاحات المالية، وفتح المجال رحباً أمام تنفيذ مشاريع تنموية وتطويرية هامة، تحدث تأثيراً إيجابياً واسعاً على حياة المواطنين في قطاع غزة، وتساهم في التخفيف من معاناتهم…”؛ أي أن كل شيء معلق على موضوعة (التمكين)، والتي لا نعرف لها مفهوماً في قاموسنا الوطني إلا التسليم للاحتلال، أو بحسب ما ذكره د. صائب عريقات مؤخراً، حين أشار في مقابلة له للقناة العبرية الثانية: قائلاً: “أنا أعتقد أن الرئيس الحقيقي للشعب الفلسطيني هو وزير الجيش أفيغدور ليبرمان، أما رئيس الوزراء الفلسطيني فهو المنسق بولي مردخاي”!! وهذا هو الواقع الذي عبر عنه الرئيس أبو مازن بمرارة وصراحة، حين قال: “أنا عايش تحت بساطير الإسرائيليين”!!
فهل هذا هو “التمكين” الذي يطلبه د. رامي الحمد الله من أهل غزة؛ أي الخضوع بذل ومهانة والتسليم الكامل للاحتلال، كما هو واقع الحال المعاش في الضفة الأخرى من وطننا السليب!!
يبدو أن “التمكين” بمفهومه الغامض هو مجرد شماعة أو ذريعة للتهرب من الاستحقاق الوطني تجاه قطاع غزة، وتركها تنزف وتحتضر حتى الموت.
ولعل هذا هو ما يجعل حركة حماس تدعو لرحيل حكومة د. رامي الحمد الله، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني.
للصديق الإعلامي عريب الرنتاوي، ولكل من يسرف في خطأ تقديراته تجاه أهلنا في قطاع غزة، ويكتب بقلمه لاعتبارات أو أجندات تبعث على التساؤل والقلق، أن يتقوا الله فينا، فنحن في مسعانا لا نرجو إلا إصلاح ذات البين بين أهلنا أجمعين.
ختاماً.. سيبقى أحمد يوسف؛ بقلمه ولسانه ودعائه، يجهر بالكلمة الطيبة، التي تجمع ولا تفرق، من أجل وحدة هذا الوطن، وعلى الآخرين أن يحسنوا قراءة السطور التي نكتبها؛ ظاهرها وباطنها؛ لأن ما نرجوه ونقصده هو رفعة هذا الوطن وتماسك بنيانه الداخلي، وتعزيز إمكانيات شعبنا لحماية مشروعه الوطني، واستعادة حقوقه وأرضه المغتصبة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن