غسان مطر

قلم

الكاتب: عدلي صادق

بعد أن أغمض طويلاً، عينيه الحزينتين؛ أسلم الروح، الفنان الفلسطيني غسان مطر، بعد رحلة عمر سكنتها آلام الفقد للدار والوطن والأهل. فقد توجعت المسافة بين لحظة الرحيل المضُني، من يافا سميّة البحر وعروسه، ولحظة أسلم الروح في القاهرة.

خرج مع أسرته، من مسقط رأسه، فتى صغيراً في العاشرة؛ فبدأت التراجيديا قبل أن تعطيه السينما، خيمة صغيرة، مكث فيها طويلاً دون أن تصبح داراً. في يوم المغادرة، عن طريق البحر، قبل المغيب، فارق غسان ملاعب طفولته الهانئة، وكطفل أبهجه مركب صيد الأسماك، الذي كان واسطة السفر القلق. كان المركب ينوء بحمولته من البشر، فيما رصاص الصهيونية يلاحقهم. المشهد كله، بمدينته ووقائعه وشاطئه، لم يفارق عقل غسان انتهت رحلة الأسرة، على شاطئ شمالي لبنان. كان نصيب الوافدين إلى تلك المنطقة مكاناً ناهداً وموحشاً، تسكنه بقايا حيوانات مفترسة، في محاذاة قرية صغيرة منسية، تسمى البداوي.

هناك، شب عن الطوق. يسافر الى مدن لبنان، لكي يغذي مخيلته عبر دور السينما، ومن خلال الفن الذي أحب. أغواه الفن السابع ونجومه، وبخاصة الذين يقدمون أدوار العنفوان. بدأ في 1969 مثلما يريد، نجماً في “كلنا فدائيون” و”الفلسطيني الثائر”. لكن ميدان السينما الشاسع، في معظمه، ليس للثورة ولا للسياسة.

وباعتباره فناً، يقدم الغرام في كل حكاية؛ لم يكن لغسان نصيب من الأدوار الحالمة التي تتطلب دوراً يتبدّى فيه الممثل منقوعاً في الحب الرومانسي الذي لم يعكر صفوه شيء. ربما كان غسان يمتلك موهبة تساعده على تقديم هذه الأدوار، لكن طبقات صوته المتكسر، كأنما اختلط بهدير البحر، لم يلائم الفتى الأول الذي يفتش عنه مخرجو السينما، وليس في وسع الشاب، تسبيل عينيه كما الراسخون في الغرام، وثمّة خطوط في وجهه تنم عن شقاء. وحدها، الممثلة الألمانية، هانا شيغولا، ظهرت أمامه حبيبة مخلصة للمناضل الفلسطيني، في “دائرة الخداع” الذي أخرجه في 1981 الألماني فولكر شاندروف. أما ميدان السينما العربية، فهو ككل ميادين العرب، فيه أفضليات وحظوظ مدبرة وحسابات من يأخذ ماذا، تقررها الجغرافيا والفضاء العام في البلدان المستقرة. أعطيت لغسان الذي عانى من كل ظالم، أدوار الشر غالباً. بلغت معاناته ذروة الأسى، عندما قتل الطائفيون أسرته، وهو الذي سمى ابنه جيفارا تيمناً بثائر عالمي، كاثوليكي المنبت ومعادٍ للإمبريالية. الحرج، هنا، يلازم الإشارة إلى قتل جيفارا وأمه وجده والد غسان، بأيدي من يزعمون أنهم ممانعون ومناضلون أكثر من تشي جيفارا، فالذين قتلوا أسرة غسان، هم طائفيو “حركة أمل”.

الحرج ربما لأن الدواعش جعلت الكلام صعباً عن جرائم أسبق من جرائمها.

عاش سنوات حياته الأخيرة، يُغالب ظروفاً صعبة، لكنه حافظ على ظهوره كنجم، برباطة جاش، ليتبدى أكثر زهواً بنفسه ودوره وفنه، من الميسورين في عالم السينما وبرامج التلفزة الفضائية. كأنما أحس مؤخراً بدنو الأجل، فأصبح يسترجع مع أصدقائه، ذكرى اللحظات الأولى من الهجرة، وما جاء بعدها على طريق الآلام. لعله أحس بالراحة القصوى، مع الانتقال الى دار الأبدية. رحمه الله وأحسن مثواه.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن