القصة كانت لها بقية – سليمان جودة

القصة كانت لها بقية - سليمان جودة
سليمان جودة

الكاتب: سليمان جودة

نقلت (وكالة أسوشيتيدبرس) صورة من داخل بلدة في أوكرانيا اسمها جورينكا، وكانت الصورة مملوءة بالحطام جراء الحرب هناك، وكان فيها أوكرانيان ذكرت الوكالة أنهما يتفقدان الحطام.

ولا بد أن قارئ التعليق المنشور مع الصورة سوف يجد نفسه عائداً إلى أيام الحرب الأهلية الإسبانية في النصف الأول من القرن الماضي، ففي تلك الأيام كان الجنرال فرانكو يحكم إسبانيا، وكانت حركة المعارضة شديدة ضده، وكانت تقاومه وتحاربه، وكان الألمان والإيطاليون أرسلوا قواتهم تسانده وتحارب معه، وفي أثناء مساندته ضد حركات المقاومة ارتكبوا جرائم كبيرة، ولكن الجريمة الأكبر لهم كانت في قرية اسمها جيرنيكا.

وكما ترى.. فالشبه بين المدينة الأوكرانية وبين القرية الإسبانية واضح جداً في حروف الاسمين، أما الشبه الأهم على مستوى الموضوع فهو الأساس في هذه السطور.

كتب الله للقرية الإسبانية أن يسمع بما حدث فيها الفنان بابلو بيكاسو، الذي ما كاد يسمع ويطالع ما جرى على أرضها حتى شرع في رسم لوحة تخلّد ما كان فيها ذات يوم على أيدي القوات الألمانية والإيطالية، ولا تزال هذه اللوحة من أشهر لوحات الفنان العالمي، وربما تكون أشهر لوحاته على الإطلاق.

ولم يشأ بيكاسو أن يجهد نفسه في البحث عن اسم للوحة، فاختار اسم القرية اسماً للوحته الخالدة، وكانت النتيجة أن القرية التي كانت مجهولة تماماً قبل ارتكاب فظائع الألمان والطليان فيها، صارت أشهر قرية في العالم.

ولم يكن خلود القرية الإسبانية لمجرد أن فناناً في وزن بيكاسو قد رسمها، ولا كان خلودها بسبب التفاصيل المرسومة في اللوحة، والتي لا تكاد تراها حتى تكتشف أن ما ارتكبته القوات الألمانية والإيطالية حي أمام عينيك، كأن اللوحة نوع من البث المباشر من القرية أمام كل عين تتوقف لتتأمل تفاصيلها.

كل هذا طبعاً كان له دور مهم في خلود اللوحة، وفي خلود اسم القرية، ولكن المثير هو ما حدث لاحقاً بين الألمان والإيطاليين وبين الفنان العالمي الكبير.. فقد أحسوا، مما سمعوه عن صدى اللوحة لدى جمهورها، بأنها ليست كأي لوحة، وأن ما فعلوه هُم في نطاق قرية صغيرة لا يسمع بها أحد قد جعل منه بيكاسو عملاً تسمع به الدنيا، ولا يتوقف عن متابعته جمهور الفن في كل مكان، ولا عن مشاهدته.

ولكن القصة كانت لها بقية، وكانت بقيتها أن الألمان والطليان ذهبوا يسألون الفنان ويسائلونه عن السبب الذي دعاه إلى رسم لوحة بهذه الفظاعة التي تبدو في كل تفصيلة فيها، وبهذه البشاعة التي تظل قاسماً مشتركاً أعظم بين كل ما يضمه إطارها.

ومما يروونه عن بيكاسو أنه استقبل الذين جاؤوا يسألونه بنظرة ساخرة لأبعد حدود السخرية، ثم ردّ على السؤال بكلمات معدودة على أصابع اليدين فقال: الحقيقة أني لم أرسم جيرنيكا، وإنما أنتم الذين رسمتموها.

ولم يكن مبالغاً في ما قال، ولا كان يحاول فلسفة ما في اللوحة، أو التعبير لهم عما فيها بكلمات متفلسفة، ولكنه كان يوجز المسألة على بعضها في كلمات قليلة، بمثل ما كانت اللوحة شديدة القدرة على التعبير وعلى التأثير.

كانوا هُم الذين رسموها.. هذه حقيقة.. لأنهم لو لم يكونوا هجموا على جيرنيكا، القرية لا اللوحة، ولو لم يكونوا فعلوا بأهلها ما فعلوه، ما كان بيكاسو انفعل، وما كان رسَم، وما كان أهل الأرض بالتالي عاشوا يتناقلون قصة اللوحة جيلاً من بعد جيل.

وإذا كانت السماء أرسلت بيكاسو يروي بلغة الفن ما رأته جيرنيكا الإسبانية وعاشته في القرن العشرين، فمن الوارد ألا يختلف حظ جورينكا الأوكرانية في القرن الحادي والعشرين.. إن أبشع ما يمكن أن يرتكبه البشر هو الحرب التي لا تخلف إلا الموت والدمار.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن