الجمع بين مسارين أم اعتماد مسار جديد؟

هاني المصري
هاني المصري

بقلم: هاني المصري

ماذا يعني وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة؟ وما مرجعية اللجنة الجديدة المُشكّلة؟ هل يعني تعليقها تجميدها بصورة مؤقتة، والعودة إلى العمل بها في وقت لاحق، أم يعني تجميدها كخطوة على طريق إلغائها؟

هل سيتم تجميد كل الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والأمنية، بما فيها سجل السكان واتفاقية الاتصالات والمقاصة … إلخ، أم ستُجمد بالتدريج وعلى مراحل وضمن عملية طويلة، وبم سيتم البدء؟

وهل يشمل القرار وقف التنسيق الأمني، بمعنى التعاون مع الاحتلال لمنع المقاومة وملاحقة المقاومين، أم أن هذا خارج القرار لأنه مقدس ويحقق مصلحة فلسطينية، ويمنع الفوضى والانقلاب على السلطة، وإذا شمل التنسيق الأمني ماذا ستكون ردة فعل الاحتلال، وهل استعددنا لردات الفعل المحتملة له، وهل سيستمر التعاون في المجالات الإدارية والمدنية والاقتصادية إذا أوقفنا التنسيق الأمني، وهل سيدفع الاحتلال السلطة للانهيار، أم لحل نفسها، أم لن يكترث إذا انهارت أو حُلّت، أم سيسعى للحفاظ عليها لأنها كنز حولت الاحتلال إلى احتلال مربح، و لعبت دور الوكيل ومثلت حاجزًا ما بينه وبين الشعب؟

هل يمكن الإبقاء على السلطة التي هي أحد إفرازات الاتفاقيات إذا جمدت أو ألغيت، أم أن السلطة لن تبقى إذا نُفّذ القرار؟

هل استعدت القيادة والمنظمة والسلطة والقوى والشعب لتداعيات هذه الخطوة، أم ستنتظر وترى ماذا ستكون ردة فعل الاحتلال، وبعد ذلك ستتصرف، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تعبيرًا عن الغضب ومجرد ردة فعل تهديد لإسرائيل وللاستهلاك الشعبي، ولذلك لن يرى النور شأنه شأن تهديدات أخرى، وقرارات اتخذت منذ العام 2015، وحتى ما قبله، مثل الحصول على العضوية المراقبة في الأمم المتحدة، والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولم تطبق أو لم تتابع حتى النهاية، لأن هناك خشية من تداعيات تطبيقها في ظل عدم بناء البديل والاستعداد لخيارات أخرى ستكون وخيمة، وقد تكون أسوأ من الوضع الحالي؟

ما مصير اللجان الثماني السابقة التي شكلت لنفس الغرض طوال السنوات السابقة، وآخرها لجنة العشرين التي شكلت في اجتماع المجلس المركزي الأخير، ولماذا لم يُعرف مصير توصياتها، ولماذا لم يُعلن أن اللجنة التاسعة ستبدأ من حيث انتهت سابقاتها؟

هذه الأسئلة وغيرها كثير لا توجد إجابة واحدة عنها، إذ تسمع إجابات مختلفة، أو عدم وجود إجابات بالمرة عند القيادات التي حضرت الاجتماع الذي تقرر فيه وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة، ما يدل أن القرار لم يدرس، وجاء ردة فعل على مجزرة هدم المنازل في وادي الحمص، وهذا الغموض يعكس حالة من التردد والانتظار والخشية من عواقب اعتماد مسار جديد.

على الرغم من كل ما سبق، يعتبر القرار الذي أعلنه الرئيس محمود عباس بعظمة لسانه، وليس عبر المجلسين الوطني والمركزي كما جرى مرارًا، قرارًا مهمًا؛ كونه يشكل رفضًا للمسار، و ينزع ما تبقى من شرعية ومصداقية لاستمرار الوضع الراهن، ولهذه الاتفاقات التي أدت إلى الكارثة التي نعيشها الآن، هذا مع الإشارة إلى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قتلت الاتفاقيات المترتبة عن اتفاق أوسلو منذ اغتيال إسحاق رابين في العام 1995، ولكنها امتنعت عن دفنه حتى لا تتحمل المسؤولية عن الجريمة التي اقترفتها، ولإبقاء الالتزامات الفلسطينية تطبق من جانب واحد.

لا يمكن إنكار أن الوضع صعب جدًا، والبدائل عنه ليست سهلة، ولا يمكن بناؤها بسرعة، خصوصًا في ظل استمرار سياسة الانتظار والتنازلات والرهان على الحل التفاوضي، وما يسمى “عملية السلام”، وعلى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، وعلى إمكانية حدوث تغيير في الموقفين الأميركي والإسرائيلي عند إجراء كل انتخابات أميركية وإسرائيلية.

وزاد الوضع صعوبة أن مرور الزمن على الاحتلال و”أوسلو” والانقسام أوجد بيئة وبنية اقتصادية ثقافية سياسية أمنية مرتبطة بشبكة من العلاقات والمصالح مع بعضها، ومع الاحتلال، وأكثر ما يهمها الحفاظ على الوضع الذي مكّنها من الحصول على مراكز ومناصب وامتيازات ونفوذ ليس من السهل التنازل عنه، وهذا ينطبق، وإن بشكل مختلف، على ما يجري في قطاع غزة منذ وقوع الانقسام الذي أوصلنا إلى اللهاث وراء تفاهمات على أساس هدوء مقابل تخفيف الحصار.

كل ما سبق يجعل عملية تغيير المسار الذي اعتُمد عشية وغداة “أوسلو” بشكل جوهري عملية أكثر من ضرورية وعاجلة، ولكنها ستكون معقدة وطويلة، بحيث لا يمكن أن تنجز بسرعة وعبر اتخاذ قرار واحد.

إن صعوبة الوضع وتعقيده لا يبرر الدفاع عن استمراره، أو الادّعاء بعدم وجود بديل حقيقي عنه أفضل منه. فإذا جرى الاتفاق على أن الوضع كارثي ومرشح للسير نحو كارثة أكبر في حال بقي الوضع على ما هو عليه، فتكون هذه نقطة الانطلاق لبلورة رؤية جديدة تنبثق عنها إستراتيجية جديدة، يتطلب تطبيقها توفر إرادة سياسية مستعدة لدفع الثمن المطلوب. أي في هذه الحالة مفترض إقرار إستراتيجية جديدة متعددة الأبعاد والمسارات، وتكون مبادرة مؤثرة وفاعلة، تراهن على الذات وعلى جمع أوراق القوة والضغط المحلية والعربية والإقليمية والدولية والمراكمة عليها؛ لتغيير ميزان القوى بالتدريج بصورة يكون فيها الفلسطينيون قادرين على تحويل التهديدات إلى فرص، وتوظيف الفرص المتاحة. إستراتيجية لا تكون محكومة بردود الأفعال وأوهام الانتظار والرهان على الغير.

كان من المفروض الشروع في تغيير هذا المسار منذ اغتيال رابين وعدم تنفيذ الالتزامات الاسرائيلية، وانتهاء الفترة الانتقالية المحددة لاتفاق أوسلو في أيار 1999، وفشل قمة كامب ديفيد في العام 2000، وإعادة الاحتلال ومحاصرة الزعيم ياسر عرفات واغتياله، ومؤتمر أنابوليس والمفاوضات التي جرت مع إيهود أولمرت في العام 2008، وردًا على التوسع السرطاني المستمر والمتصاعد في الاستعمار الاستيطاني، والإمعان في تهويد وأسرلة القدس والمقدسات، وحصار قطاع غزة وشن العدوان إثر العدوان عليه، وكذلك ردًا على اتجاه إسرائيل نحو المزيد من التطرّف، وتحديدًا منذ العام 2009 وتولي بنيامين نتنياهو سدة الحكم وإحياء خطة إقامة “إسرائيل الكاملة”، كما ظهر بجلاء في إقرار “قانون القومية”، الذي يؤسس لمرحلة جديدة، حيث جعل العنصرية دستورًا في إسرائيل. وقد أصبح بعد كل ما تقدم عدم الإقدام على تغيير المسار جريمة كبرى.

ما يحدث فلسطينيًا منذ العام 2010 هو محاولة الجمع ما بين مسارين، بين الجنة والنار على سطح واحد، وهذا لن يجدي، وذلك في محاولة الجمع بين إستراتيجية أوسلو والمفاوضات، وإستراتيجية التدويل والسعي للاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، ولممارسة الضغط على إسرائيل لإقناعها بقبول حل الدولتين. هذه الاستراتيجية إذا لم تقم على إنهاء التزامات أوسلو فلم ولن تجدي. صحيح أنها تعبر عن رفض الاستسلام، وهذا جيد، ولكنها لا تستطع إحباط المخططات المعادية، وتبتعد عن اختيار البديل الوحيد القادر على تغيير المسار، وهو تبني خيار المقاومة المسترشدة بإستراتيجية مبادرة مستندة إلى الوحدة.

لم يكن مناسبًا في السابق ولا اليوم الجمع بين الالتزام بالاتفاقات والدعوة لاستئناف المفاوضات واتباع مسار جديد. وعندما تتوفر القناعة العميقة بأهمية تغيير المسار، وليس الجمع بين مسارين، حينها ليس مطلوبًا ولا ممكنًا وقف الاتفاقات مرة واحدة، وإنما وضوح الرؤية حول ضرورة ذلك، ومن خلال الإجابة عن أسئلة: أين نقف، وإدراك أن الحكومة الإسرائيلية بدعم من إدارة دونالد ترامب لا تريد تسوية، وإنما تعملان لتصفية القضية؛ وإلى أين نريد أن نصل، أي ما الأهداف المرحلية والإستراتيجية التي نريد أن نحققها؛ وكيف نصل إلى ما نريد، أي ما أشكال النضال والعمل المناسبة، ووضع الخطط اللازمة لتطبيق الإستراتيجية الموحدة المعتمدة.

ويمكن للقيادة الفلسطينية أن تقدم على خطوات تثبت جدية قرارها بوقف العمل بالاتفاقيات، ومنها الدعوة إلى لقاء وطني يعقد في القاهرة، أو أي مكان يُتفق عليه، لبلورة الرؤية الشاملة والإستراتيجية المناسبة، وتغيير شكل السلطة وطبيعتها والتزاماتها ووظائفها وموازنتها بشكل متدرج؛ لتحويلها من سلطة حكم ذاتي محدود ترتبط بالتزامات مع الاحتلال إلى سلطة في خدمة البرنامج الوطني، وأداة من أدوات منظمة التحرير الموحدة.

ومن الخطوات كذلك إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أساس حل الرزمة الشاملة، بعيدًا عن هيمنة حركتي فتح وحماس على السلطة في الضفة والقطاع، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير من خلال عقد مجلس وطني توحيدي، على أسس ومعايير وطنية، ودعم وتطوير المقاومة بكل أشكالها، وتطبيقها وفق إستراتيجية وقيادة موحدة، خصوصًا المقاومة الشعبية، وتبني وتوسيع اعتماد مقاطعة إسرائيل، وفك الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي بشكل متدرج وجوهري يترافق مع بناء البدائل، وتجريم التعامل مع الاستعمار الاستيطاني عبر سن قانون، ومواصلة إستراتيجية التدويل، بما فيها الحصول على الاعتراف الكامل بالدولة، إضافة إلى توثيق العلاقات مع الشعوب والحركات والدول العربية والإقليمية والدولية المؤيدة للحقوق الفلسطينية.

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on vk
Share on whatsapp
Share on skype
Share on email
Share on tumblr
Share on linkedin

زوارنا يتصفحون الآن